أخبار المركز
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)

خيارات صعبة :

حدود التوتر الراهن في العلاقات بين جنوب إفريقيا والولايات المتحدة

19 مايو، 2023


أعلن السفير الأمريكي لدى جنوب إفريقيا، روبن بريجيتي، في 11 مايو 2023، أن بريتوريا أرسلت شحنة أسلحة وذخيرة بشكل سري إلى موسكو، في ديسمبر 2022، وهو ما أثار حالة من التوتر المتزايد بين الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب إفريقيا، حيث وجهت الأولى اتهامات للثانية بالانحياز لروسيا في الحرب الأوكرانية الراهنة.

اتهامات متبادلة:

لاقت تصريحات بريجيتي تغطية واسعة في وسائل الإعلام الأمريكية والغربية، وهو ما تمخض عنه اتهامات متبادلة بين واشنطن وبريتوريا، يمكن عرضها على النحو التالي:

1- اتهامات أمريكية لجنوب إفريقيا: استند بريجيتي في اتهاماته لبريتوريا إلى تقارير استخباراتية أمريكية رصدت تحميل ذخيرة وأسلحة بشكل سري على متن الشاحنة الروسية "ليدي آر" (The Lady R)، والتي كانت مستقرة في قاعدة "سيمون تاون" البحرية، بالقرب من كيب تاون بجنوب إفريقيا، وتخضع هذه الشاحنة الروسية حالياً لعقوبات أمريكية.

وأعلنت وزارة الدفاع الجنوب إفريقية أن الشاحنة الروسية "ليدي آر" رست في "سيمون تاون"، في ديسمبر 2022، لتسليم شحنة ذخيرة روسية للقوات الخاصة التابعة لقوات الدفاع الوطني بجنوب إفريقيا، في إطار صفقة تم الاتفاق عليها بين البلدين قبيل بدء الحرب الروسية الأوكرانية، وتتضمن هذه الصفقة نحو خمسة ملايين طلقة من الذخيرة الروسية، بيد أن بريجيتي ألمح إلى أن لدى واشنطن تقارير استخباراتية مؤكدة تفيد أن الشاحنة الروسية تم تحميلها بذخيرة وأسلحة من بريتوريا قبل مغادرتها قاعدة "سيمون تاون" البحرية.

2- نفي بريتوريا الاتهامات الأمريكية: نفت مؤسسة الرئاسة بجنوب إفريقيا الاتهامات الأمريكية، مؤكدة أنها لم تمنح أي تصريح لتصدير أسلحة أو ذخيرة لروسيا. وعلى الرغم من ذلك، أعلن رئيس جنوب إفريقيا، سيريل رامافوزا، أنه سيتم تشكيل لجنة تحقيق لبحث المزاعم الأمريكية.

كما أعلنت وزارة الخارجية في بريتوريا أنها استدعت بريجيتي، للقاء وزير الخارجية الجنوب إفريقي، ناليدي باندور، مشيرة إلى أن بريجيتي قدم اعتذاراً لحكومة جنوب إفريقيا بشأن تصريحاته الأخيرة. وشككت مراكز بحثية في جنوب إفريقيا في صحة الاتهامات الأمريكية، إذ لفتت إلى أن روسيا نادراً ما أستوردت أسلحة من جنوب إفريقيا، وأن الأخيرة تتمتع بواحدة من أكثر قوانين تصدير الأسلحة شمولاً في إفريقيا.

3- تكهنات حول الأسلحة المرسلة لموسكو: أكدت التقارير الغربية عدم رصد أي معدات كبيرة تم تحميلها للشاحنة الروسية "ليدي آر"، أو أي حركة مرور غير طبيعية عند قاعدة "سيمون تاون" أثناء رسو الشاحنة، وهو ما دفع بعض التقديرات إلى ترجيح أن تكون المعدات التي تم تحميلها صغيرة الحجم، وربما إلكترونية، كلوحات الدوائر أو أنظمة القيادة والتحكم، التي تجد موسكو صعوبة في الحصول عليها بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها، كما توقعت هذه التقديرات أن تكون الشحنة قد اشتملت على أنظمة "هاوتزر" ذاتية الدفع. 

دلالات مهمة:

أثارت الولايات المتحدة مخاوف تسليح جنوب إفريقيا لموسكو قبل شهرين من تصريحات السفير الأمريكي. وعلى الرغم من أن التقديرات الأمريكية ترجح أن هذه الأسلحة والذخيرة لم تكن ذات تأثير كبير في مجريات الحرب في أوكرانيا، بيد أن توجيه السفير الأمريكي اتهامات علنية لبريتوريا يؤشر إلى استمرار التوتر في العلاقات بين البلدين، وهو ما يعكس دلالات مهمة يمكن تفصيلها على النحو التالي:

1- انزعاج أمريكي واسع: أشارت تقارير غربية إلى وجود انزعاج أمريكي من جنوب إفريقيا، وأن الاتهامات الأمريكية بإرسال جنوب إفريقيا أسلحة إلى روسيا تُشكل أحد أبعاد هذا الانزعاج، والذي يرتبط في بعض أبعاده الأخرى بموقف بريتوريا من الحرب الروسية الأوكرانية، وتبنيها موقفاً محايداً في هذا الصراع، على الرغم من مساعي واشنطن لدفعها للانضمام للموقف الغربي المناوئ لروسيا بسبب حربها ضد أوكرانيا.

وتنظر الولايات المتحدة إلى الممارسات الفعلية لجنوب إفريقيا باعتبارها دعماً ضمنياً للموقف الروسي، ولاسيما بعدما أجرت الأولى مناورات بحرية مشتركة قبالة سواحلها مع روسيا والصين، في تحدٍ كبير للتحذيرات الأمريكية في هذا الشأن، فضلاً عن سماح بريتوريا، نهاية إبريل 2023، لطائرة شحن روسية ضخمة، من طراز "أنتونوف"، بالهبوط والتفريغ والتحميل في قاعدة "ووتركلوف" الجوية العسكرية بجنوب إفريقيا، مع التزام الأخيرة الصمت وعدم الرد على التساؤلات الغربية بشأن أسباب هبوط الطائرة في هذه القاعدة، خاصة وأن هذه الطائرة الروسية تخضع أيضاً لعقوبات أمريكية.

ويرتبط الاستياء الأمريكي كذلك بتراجع التعاون مع حكومة جنوب إفريقيا بشأن جهود مكافحة الإرهاب، ناهيك عن تجاهل حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي" الحاكم في بريتوريا لعروض واشنطن المتعلقة بتمويل التحول الأخضر، ولذا بات لدى واشنطن قناعة راسخة مفادها أن جنوب إفريقيا تشكل نموذجاً للدول النامية التي تتطلع نحو تشكيل نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.

2- الدعوة لمقاربة أمريكية جديدة: دعت تقارير أمريكية وأوروبية إلى تبني مقاربة جديدة إزاء بريتوريا، تحد من التعاون معها. وتشير هذه التقارير إلى أن العديد من القادة بجنوب إفريقيا يرون أن الولايات المتحدة تمثل عدواً أكثر منها صديق، وأن جنوب إفريقيا لم تعد تشكل نموذجاً حقيقياً للحكم الديمقراطي، داعية واشنطن إلى ضرورة إعادة تقييم علاقتها ببريتوريا.

3- توظيف المصالح الاقتصادية: قد تلجأ الولايات المتحدة لتوظيف المصالح الاقتصادية الضخمة بين البلدين، والتي تُعول عليها الشركات الجنوب إفريقية كثيراً، للضغط على بريتوريا. فقد حذرت تقارير أمريكية من تأثير الأزمة الدبلوماسية الحالية بين البلدين في وصول بريتوريا للتجارة الحرة المعفاة من الرسوم الجمركية، في إطار قانون "النمو والفرص الإفريقي" (أغوا)، وهو ما يهدد الصادرات الجنوب إفريقية للولايات المتحدة، والتي وصلت لحوالي 15 مليار دولار في عام 2021. 

وتزداد خطورة هذا الأمر بسبب أهمية السوق الأمريكي لشركات صناعة السيارات والمركبات الجنوب إفريقية، إذ أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة تُعد ثاني أكبر شريك تجاري لجنوب إفريقيا، بعد الصين، فإن صادرات بريتوريا لبكين تركز بالأساس على المواد الخام كالحديد والكروم، على عكس السلع الأكثر تطوراً التي تصدرها بريتوريا لواشنطن، ما يجعلها محورية لاقتصاد جنوب إفريقيا.

وحذرت الشركات الجنوب إفريقية من عواقب التوترات الراهنة مع الولايات المتحدة على مشاركتها في قانون "أغوا"، خاصة وأن جنوب إفريقيا كانت من الناحية الفنية غير مؤهلة للاستفادة من هذا القانون، لأنها تُعد دولة ذات دخل أعلى من المتوسط، بيد أن الولايات المتحدة عمدت لتقديم استثناءات لضمان انطباق القانون على جنوب إفريقيا، لكن يبدو أن الإدارة الأمريكية تسعى للضغط على جنوب إفريقيا لإعادة النظر في سياستها الخارجية، من خلال التلويح باحتمالية إنهاء الاستثناءات المقدمة لبريتوريا، ومن ثم عدم استفادة شركاتها من قانون "أغوا"، والذي يفترض أن يخضع للمراجعة والتجديد في عام 2025.

انعكاسات محتملة:

جاءت تصريحات السفير الأمريكي لدى بريتوريا بعد نحو أسبوع واحد من زيارته لواشنطن برفقة وفد من جنوب إفريقيا، حيث سعى هذا الوفد إلى تخفيف حدة الخلافات بين واشنطن وبريتوريا، لكن يبدو أن هذه الزيارة فشلت في تحقيق أهدافها. وفي هذا الإطار، هناك تداعيات للتوترات الراهنة بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- قيود اقتصادية محتملة: قد تلجأ واشنطن إلى فرض قيود اقتصادية ضخمة على بريتوريا، خاصة فيما يتعلق بصادرات جنوب إفريقيا، والتي ذهبت 9% منها إلى الولايات المتحدة عام 2022، في المرتبة الثانية بعد الصين التي شكلت 10% من إجمالي الصادرات. وقد تلجأ واشنطن إلى حرمان بريتوريا من الامتيازات التصديرية التي تحصل عليها من الولايات المتحدة وأوروبا.

كما قد تتأثر التدفقات المالية لجنوب إفريقيا بسبب توتراتها الراهنة مع الولايات المتحدة، خاصة مع تضرر سمعة بريتوريا كمركز مالي بسبب تخلفها عن مكافحة الجريمة المالية، الأمر الذي تمخض عنه وضعها في القائمة الرمادية هذا العام

2- زيادة الضغوط السياسية الأمريكية: قد تعمل واشنطن خلال الفترة المقبلة على زيادة الضغط على حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي" الحاكم في بريتوريا، لتبني سياسة بعيدة عن موسكو، من خلال الترويج لفكرة أن السياسة الراهنة للحزب تهدد المصالح الاقتصادية لبريتوريا، فضلاً عن احتمالية دعم الولايات المتحدة التحالف الديمقراطي المعارض، والذي وجه انتقادات حادة لحكومة الرئيس رامافوزا بشأن الدفع بجنوب إفريقيا للتورط في الحرب الروسية الأوكرانية، وإن كانت مثل هذه السياسة لن تنجح في فرض ضغوط حقيقية على الحزب الحاكم، بسبب عجز المعارضة عن التأثير في شعبيته.

3- تعزيز التعاون بين روسيا وجنوب إفريقيا: قد تدفع الضغوط الأمريكية جنوب إفريقيا لتعزيز تعاونها مع روسيا، وهو ما انعكس في زيارة قائد القوات البرية بجيش جنوب إفريقيا، الفريق لورانس مباثا، إلى موسكو، في 16 مايو الجاري، وهو ما رآه البعض تهديداً من قبل جنوب إفريقيا بإمكانية تعزيز التعاون مع روسيا حال استمرار الضغوط الأمريكية، خاصة وأن هذه الزيارة جاءت في أعقاب المحادثة الهاتفية التي جمعت رئيس جنوب إفريقيا، سيريل رمافوزا، بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، والاتفاق على تكثيف التعاون بين البلدين، فضلاً عن إعلان رامافوزا أن بوتين سيزور بريتوريا، في أغسطس 2023، لحضور قمة "البريكس"، رغم أن جنوب إفريقيا تُعد من الدول الموقعة على معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، والتي كانت قد أصدرت مذكرة توقيف بحق بوتين في مارس الماضي.

وفي الختام، وصلت العلاقات بين جنوب إفريقيا والغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، إلى أدنى مستوى لها منذ تسعينيات القرن الماضي، في ظل اتجاه الأولى لتعزيز تقاربها مع روسيا والصين، غير أن بريتوريا لا تبدو مستعدة حالياً للتضحية بعلاقاتها مع واشنطن وحلفائها الأوروبيين في ظل الأهمية الاقتصادية التي تشكلها الأسواق الغربية للبضائع الجنوب إفريقية، ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية المأزومة التي تعاني منها الأخيرة، وهو ما يجعل بريتوريا أمام خيارات صعبة خلال الفترة المقبلة، ولاسيما وأنها تستعد لاستضافة قمة تجارية بين الولايات المتحدة والدول الإفريقية بعد شهر واحد من قمة "البريكس" التي ستستضيفها جنوب إفريقيا في أغسطس 2023.