أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

تحييد الخصم:

دلالات الصراع المحتدم على النفوذ في غرب ليبيا

30 أغسطس، 2020


تصاعدت حدة الخلافات والتوترات في غرب ليبيا مع إصدار المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، في 28 أغسطس 2020، قرارًا بوقف وزير الداخلية المفوض "فتحي باشاغا" احتياطيًّا عن العمل، ومثوله للتحقيق الإداري أمام المجلس الرئاسي خلال اثنتين وسبعين ساعة من صدور هذا القرار، وكان لافتًا صدور هذا القرار تزامنًا مع زيارة "باشاغا" إلى تركيا، وقد أعلن الأخير قبوله المثول للتحقيق، بموجب قرار المجلس الرئاسي، وذلك شريطة أن يتم ذلك في "جلسة علنية منقولة على الهواء مباشرة"، وقد عاد "باشاغا" في 29 أغسطس الجاري إلى ليبيا في حماية عشرات من الآليات العسكرية الداعمة له.

دوافع تحييد "باشاغا":

شهدت الفترة الأخيرة مؤشرات مختلفة تعكس تصاعد الخلاف بين رئيس حكومة الوفاق "فايز السراج" ووزير داخليته "فتحي باشاغا"، ويمكن تناول الدوافع المرتبطة بصدور القرار الأخير بإيقاف "باشاغا" عن العمل، وذلك على النحو التالي:

1- تصدر المشهد السياسي: حيث إن "باشاغا" يحاول جاهدًا خلال الأشهر الأخيرة تسويق نفسه باعتباره الرجل الأول والأكثر نفوذًا في غرب ليبيا، وهو ما تجلّى في زياراته المتكررة إلى تركيا وكان آخرها زيارتين متتاليتين في يوليو الماضي وأغسطس الجاري. كما أن "باشاغا" لا يكفّ عن مغازلة الدور الأمريكي، سواء عبر التنديد بالدور الروسي في البلاد، أو من خلال دعوته أكثر من مرة إلى تدشين قاعدة عسكرية أمريكية في البلاد لتحجيم النفوذ الروسي المتصاعد. كذلك فقد عزّز "باشاغا" من علاقاته مع الاستخبارات الأمريكية خلال السنوات الأخيرة.

وفي السياق ذاته، فإن "باشاغا"، وهو محسوب على جماعة الإخوان المسلمين، يتمتع بعلاقات قوية مع قطر، وقد زار الدوحة أكثر من مرة، وقد التقى، في 21 يوليو الماضي، وزيرَ الدولة القطري لشؤون الدفاع "خالد بن محمد العطية"، في أنقرة، وأعرب له عن الشكر لوقوف بلاده مع الوفاق أثناء الهجوم على طرابلس.

2- الارتكان إلى ظهير عسكري: حيث يحظى "باشاغا" المولود في مدينة مصراتة، بدعم كبير من ميليشيات مصراتة، وهي ميليشيات لديها نفوذ قوي في غرب ليبيا، لذا فعقب صدور قرار الإيقاف أعلنت ميليشيات مصراتة النفير واستدعت عناصرها، فيما أكدوا تضامنهم مع وزير الداخلية، كما طالبوا بفتح تحقيق لمعرفة خلفيات هذا القرار ومن يقف وراءه، وطالبوا -في بيان- بتشكيل حكومة أزمة مصغرة وتغيير كل الوزراء، وبإخراج الحكومة من طرابلس إلى أي مدينة أخرى.

3- استغلال التظاهرات لتحقيق مكاسب سياسية: حيث تحولت التظاهرات المنتشرة في العاصمة طرابلس خلال الأيام الماضية، والتي خرجت بالأساس بسبب سوء الخدمات العامة وتدهور الوضع الأمني مع قيام المرتزقة الأجانب بسرقة ونهب المواطنين، إلى فرصة للصراع بين "السراج" و"باشاغا"، خاصةً مع استخدام العنف ضد المتظاهرين وسقوط بعض الجرحى. ففي حين حاول وزير الداخلية مغازلة المتظاهرين بالتأكيد على حقهم في الاحتجاج السلمي، وتحذير المجموعات المسلحة من المساس بالمتظاهرين؛ وجد "السراج" نفسه في مأزق، خاصةً وأن المظاهرات كانت تندد بالحكومة ورئيسها، لذا فقد تضمن بيان المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، المتعلق بإيقاف "باشاغا" عن العمل، أن يتم التحقيق معه بشأن التصاريح والأذونات، وتوفير اللازم للمتظاهرين، والبيانات الصادرة عنه حيال المظاهرات والأحداث الناجمة عنها، والتي شهدتها مدينة طرابلس وبعض المدن الأخرى خلال الفترة الماضية.

4- تحيز تركي: تشير العديد من التقديرات إلى أن تركيا تفضل "باشاغا" المدعوم من جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، لا سيما من رئيس المجلس الأعلى للدولة "خالد المشري"، كبديل أفضل من "السراج" الذي ليست لديه خلفية عسكرية، ويواجَه بغضب شعبي متزايد في العاصمة. كذلك فإن إصدار "السراج" إعلان وقف إطلاق النار في 20 أغسطس الجاري، بدا وكأنه قد جاء بدون توافق داخلي في غرب ليبيا وبدون دعم تركي واضح، وما يؤكد ذلك أن زيارة "باشاغا" الأخيرة إلى أنقرة بصحبة الإخواني "خالد المشري" قد جاءت دون علم رئيس حكومة الوفاق "فايز السراج"، وهو ما بدا كأنه تخطيط لانقلاب على "السراج" بإيعاز واضح من جانب تركيا.

تداعيات مختلفة:

قد تُفضي التطورات الأخيرة في غرب ليبيا إلى بعض التداعيات المهمة، والتي يمكن أن تنعكس على مجمل الأزمة الليبية، وذلك على النحو التالي:

1- بروز الصراع المناطقي: يخفي الصراع بين "السراج" و"باشاغا" بالأساس صراعًا قويًّا غير معلن بين مدينة طرابلس من ناحية ومدينة مصراتة من ناحية أخرى، حيث إن المدينتين هما الأقوى في غرب ليبيا، وكل منها لديها ميليشيات مسلحة تسيطر على الوضع الأمني، وكذلك لديها مصالح اقتصادية كبيرة على مدار السنوات العشر الماضية، ومن المرجح أن يتفاقم الصراع بين المدينتين خلال المرحلة المقبلة، خاصةً في ظل مطالب أهالي مصراتة بإخراج الحكومة من طرابلس إلى أي مدينة أخرى، وتزامنًا مع احتفال ميليشيات طرابلس بقرار إيقاف وزير داخلية الوفاق.

2- تصاعد صراع الأجنحة: أصدر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، في 29 أغسطس الجاري، قرارين يقضيان بتعيين العقيد "صلاح النمروش" وزيرًا جديدًا للدفاع، واللواء "محمد الحداد" رئيسًا للأركان. ويُذكر أن الأخير ينحدر بالأساس من مدينة مصراتة، وهي محاولة من الحكومة للتأكيد على أن الخلاف مع "باشاغا" ليس خلافًا مع مدينة مصراتة. كما تمّ تعيين وكيل وزارة الداخلية العميد "خالد أحمد التيجاني" للقيام بمهام وزير الداخلية الموقوف وممارسة كافة الصلاحيات والاختصاصات، وبالتالي فإن هناك صعودًا لنخبة عسكرية جديدة موالية لحكومة الوفاق، وهو أمر من المرجّح أن يعزز من وتيرة الصراع بين أجنحة الوفاق في المرحلة المقبلة.

3- تورط أنقرة: تواجه تركيا أكثر من معضلة في غرب ليبيا في الوقت الحالي، لعل على رأسها تصاعد الصراع السياسي بين بعض الأجنحة المرتبطة بحكومة الوفاق، وما لذلك من تداعيات سلبية على قدرة الحليف على إدارة وضبط العلاقات مع تلك الأجنحة، خاصةً مع تفضيل أنقرة لجناح بعينه. ومن جانب آخر، فإن أي تحييد محتمل لباشاغا سوف يحوّل ميليشيات مصراتة إلى خصم جديد لميليشيات طرابلس، بما قد يفكك التحالف العسكري القائم في مواجهة الجيش الوطني الليبي. وفي السياق ذاته، فإن تحييد "السراج" من أجل مغازلة ميليشيات مصراتة سوف يعني تحول العاصمة طرابلس وميليشياتها إلى مدينة مناوئة للنفوذ التركي في المرحلة المقبلة. ومن جانب آخر فإن هناك معضلة أخرى تتعلق بانتشار آلاف المرتزقة الأجانب الذين يدخلون في صدامات من آن لآخر مع ميليشيات العاصمة، وهو ما يتزامن مع تصاعد الغضب الشعبي من سوء إدارة حكومة الوفاق، ورفض أي وجود للمرتزقة الذين يقومون بعمليات سلب ونهب واسعة.

4- تصاعد العسكرة في الغرب: في حال تزايدت حدة التوترات خلال المرحلة المقبلة بين معسكرَيْ "السراج" و"باشاغا"، فقد يُفضي ذلك إلى مواجهات مسلحة بين الطرفين، خاصةً وأن عودة "باشاغا" من تركيا وفور وصوله إلى مطار معيتيقة قد أُحيط بموكب عسكري مهيب، وهو أمر يحمل رسالة غير مباشرة لمعسكر "السراج" بالقدرة على التصعيد العسكري في مواجهة ميليشيات طرابلس، خاصةً وأن "قوة حماية طرابلس" تتنازع مطامع "باشاغا" وحلفائه في السلطة، حيث إنها اتهمت في 27 أغسطس الجاري وزير الداخلية والإخوان المسلمين بالسعي نحو الحكم بأي طريقة، وهو ما يتزامن مع خطاب تصعيدي شديد اللهجة من جانب ميليشيات مصراتة ضد ميليشيات العاصمة.

وفي المجمل، فإن تصاعد حدة الصراع بين رئيس حكومة الوفاق ووزير داخليته لم يكن مفاجئًا في ظل وجود العديد من المؤشرات خلال الأشهر الأخيرة على ذلك، انطلاقًا من هشاشة التحالف القائم على العديد من التناقضات، بيد أن الأمر المفاجئ هو تراجع قدرة أنقرة على ضبط وكلائها في ليبيا، بالرغم من الاتفاقيات المتعددة التي تم توقيعها، وكذلك الزيارات التي قام بها مسؤولون سياسيون وعسكريون أتراك خلال الأسابيع القليلة الأخيرة. ولذا فإن تصاعد الخلاف في الغرب الليبي يهدد الأطماع التركية بشكل كبير، ويُحوّل التدخل التركي المتغلغل في ليبيا من "فرصة" تسعى أنقرة لاستغلالها من أجل تحقيق مصالحها في الشمال الإفريقي وجنوب المتوسط، إلى "فخ" يمكن أن يطيح بكل تلك الأطماع في المديين المنظور والمتوسط.