أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

عودة موسكو:

كيف تعيد القمة الروسية الإفريقية تشكيل خريطة التنافس الدولي؟

26 أكتوبر، 2019


لا شك أن القمة الروسية- الإفريقية التي انعقدت في سوتشي يومي 23 و24 أكتوبر تحمل العديد من الدلالات، سواء على صعيد التكالب الدولي على إفريقيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أو إعادة تشكيل خريطة القوى الكبرى في النظام الدولي. ومن الواضح أن العودة الروسية إلى إفريقيا منذ عام 2014 قد تم تضخيمها من قبل العديد من وسائل الإعلام الغربية. إذ يُلاحظ أن إفريقيا كانت تحتل مكانة هامشية في قائمة أولويات السياسة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وربما ترتكز آفاق التعاون بين الطرفين بعد القمة الروسية الإفريقية على محورين رئيسيين، هما: التعاون العسكري والتقني، واستغلال الموارد الطبيعية.

عوامل العودة:

في بداية ولايته الأولى، كان "بوتين" يركز على آسيا انطلاقًا من الموروث التاريخي المشترك، في حين تم النظر إلى إفريقيا باعتبارها بعيدة وهامشية على الرغم من أن "ألكسندر بوشكين" (الأديب الروسي الشهير) يرجع نسبه ولو جزئيًّا إلى أصول إثيوبية. بيد أن مراجعة الكرملين لسياسته الإفريقية، ابتداء من عام 2014، تُعزى بشكل أساسي إلى ثلاثة عوامل رئيسية، هي: العقوبات الغربية التي فُرضت على روسيا بعد ضم شبه جزيرة القرم، وإنشاء الاتحاد الاقتصادي الأورو آسيوي، والتدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015. ولا يخفى أن المواجهة مع الغرب منذ تلك اللحظة أصبحت حاسمة في السياسة الخارجية الروسية. وعليه، فقد سعى الكرملين تحت تأثير الاعتبارات الداخلية والدبلوماسية والمكانة الدولية نحو البحث عن شراكات أخرى بديلة.

ومن الواضح أن العودة الروسية إلى إفريقيا -وإن كانت متأخرة- تستند إلى عدة عوامل يمكن أن تغير من طبيعة المشهد الجيوستراتيجي لإفريقيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وذلك على النحو التالي:

1- تستند روسيا إلى تراث تاريخي من التعاون المشترك والوجود الفعال زمن الاتحاد السوفيتي في إفريقيا، فقد تمتع الاتحاد السوفيتي بعلاقات واسعة في جميع أنحاء إفريقيا لعقود من خلال دعمه حركات التحرر الوطني في دول مثل أنجولا وموزمبيق وغينيا بيساو، بل وانخراطه في نزاعات إقليمية كبرى كتلك التي وقعت في إقليم الأوغادين والحرب الأهلية الكونغولية، فضلًا عن دعمه بعضَ النظم الماركسية مثل إثيوبيا تحت حكم العسكريين. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي توقفت هذه العلاقات، حيث كانت تكلفة الحفاظ عليها باهظة ولم تَقْوَ روسيا عليها.

2- تطرح روسيا نفسها باعتبارها بديلًا لكلٍّ من الغرب بمشروطياته السياسية، والصين التي ثار الجدل الإفريقي حول نواياها الحقيقية من دبلوماسية الديون، ويبدو أن ‏الحكومات الإفريقية سترحب بتجدد اهتمام روسيا بإفريقيا، لأنها أدركت تدريجيًّا حقائق الإقراض الصيني ‏الغامض، كما أنها تعي منذ فترة طويلة مخاطر قروض الغرب المشروطة التي لا تكفي تطلعات إفريقيا. وفي المقابل، يُقدّم الإقبال الروسي الناعم ‏استثمارًا "بلا قيود" للبلدان الإفريقية وفقًا لمفهوم الربح المشترك لكلا الطرفين. وعليه، من المتوقع أن تؤدي قمة سوتشي إلى زيادة التعاون التجاري، وإقامة شراكات في مجالات الطاقة والتعدين والدفاع.

‎3-  تشير كثير من الوثائق الاستراتيجية الروسية إلى أنّ إفريقيا تُستخدم كأداة يمكن من خلالها إضعاف هيمنة ‏الغرب في النظام الدولي من أجل تأسيس عالم متعدد الأقطاب، فضلًا عن إيجاد ‏فرص اقتصادية للشركات الروسية. وربما يُمكن تفسير نجاح روسيا في هجومها الناعم على إفريقيا خلال السنوات الأخيرة -ولو جزئيًّا- بسبب تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالقارة تحت إدارة ‏الرئيس "دونالد ترامب". ففي عام 2018، أكد "جون بولتون" (‏مستشار الأمن القومي السابق) أهميةَ احتواء النفوذ الصيني والروسي في قارة إفريقيا. بيد أن عدم ‏وجود ارتباط أمريكي كبير مع إفريقيا، وتدوينات الرئيس المشحونة عنصريًّا؛ أعطت الروس والقوى الفاعلة الأخرى مساحة أكبر للحركة. ومن جهة أخرى، كان قرار تقليص القوات الأمريكية في إفريقيا في أواخر عام 2018 بمثابة فرصة لموسكو من أجل تعزيز التعاون الأمني والعسكري مع شركائها في إفريقيا.‏

وطبقًا للوثائق الاستراتيجية الروسية، يُعتبر شمال إفريقيا جزءًا من إقليم الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط. وعليه، ‏يركز الكرملين على منطقتين أساسيتين، أُولاهما القرن الإفريقي الذي يمثل فرصة لروسيا لتأمين نفوذها في ‏البحر الأحمر وخليج عدن. أما المنطقة الثانية فهي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى التي تقدم ‏فرصًا تجارية جديدة، وتضمن الدعم الدبلوماسي لروسيا في المؤسسات الدولية متعددة الأطراف.

مجالات التعاون:

صحيح أن روسيا جاءت إلى إفريقيا متأخرة سنوات مقارنة بالصين التي استثمرت مئات المليارات من الدولارات في السكك الحديدية والمطارات وغيرها من مشاريع البنية التحتية في جميع أنحاء القارة؛ إلا أنها يمكن أن تبني على تفاعلاتها العسكرية والأمنية مع إفريقيا عبر سنوات. ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، تبيع روسيا أسلحةً لإفريقيا أكثر من أي دولة أخرى. ولا شك أن صادرات الأسلحة إلى إفريقيا تُسهّل الجهود الدبلوماسية الأوسع لروسيا لتنمية العلاقات العسكرية والسياسية والأمنية، وتُعزّز نفوذها بشكل عام في إفريقيا، وهو ما يجعلها قادرةً على المنافسة مع الولايات المتحدة وفرنسا والصين. 

وتطرح تجربة روسيا في جمهورية إفريقيا الوسطى مثالًا على ذلك، فقد أظهرت تلك الخبرة أن الأدوات المتواضعة نسبيًّا التي تمتلكها روسيا تُمكّنها من اكتساب النفوذ على المدى الطويل في المجتمعات الهشّة المعرضة لأخطار الصراعات العنيفة.

فقد وقّعت روسيا اتفاقيات تعاون عسكري مع ما لا يقل عن 28 دولة إفريقية، غالبيتها في السنوات الخمس الماضية. وغالبًا ما تُستخدم فزاعة مكافحة الإرهاب كأساس لهذا التعاون العسكري والأمني. ووفقًا لبيانات معهد استكهولم الدولي لبحوث السلام، فقد قدّمت روسيا أسلحة إلى ثمانية عشر بلدًا في إفريقيا ‏جنوب الصحراء الكبرى على مدار السنوات العشر الماضية. ومن المعروف أن الأسلحة الروسية توفر عددًا من المزايا للعملاء في البلدان الإفريقية، وهي عادة ما تكون أرخص ‏من مثيلاتها المستوردة من الغرب، ويمكن الاعتماد عليها بشكل عام. فضلًا عن ذلك، تمتلك العديد من الجيوش الإفريقية مخزونًا من ‏الحقبة السوفيتية يتوافق مع الأسلحة الروسية الحديثة. وغالبًا ما تشتمل عقود الأسلحة الروسية على أحكام ‏لتحديث أو إصلاح المعدات التي تعود إلى الحقبة السوفيتية.

بعيدًا عن المبالغات والخطاب البلاغي للسياسة الروسية، لا يمكن لموسكو أن تضخّ الكثير من الاستثمارات أو المساعدات الإنسانية أو حتى القوة الناعمة في إفريقيا، فهي تقف بعيدًا خلف شركاء التجارة والاستثمار الكبار في إفريقيا (الاتحاد الأوروبي، والصين، والهند، والولايات المتحدة، ودولة الإمارات العربية المتحدة). ومع ذلك، تبدو مساعدات روسيا غير مرتبطة بقضايا حقوق الإنسان أو التحول الديمقراطي، وهو ما يجعل روسيا شريكًا تجاريًّا جذابًا للبلدان الأخرى التي تتجنب العقوبات الغربية. وبالفعل، نجد أن تجارة روسيا مع إفريقيا تضاعفت ثلاث مرات تقريبًا من 6.6 مليارات دولار في عام 2010 إلى 18.9 مليار دولار عام 2018.

مآلات المستقبل:

إن مآلات ما بعد القمة الروسية -الإفريقية قد تؤثر على طبيعة الخيارات المتاحة أمام الحكومات الإفريقية في ظل احتدام معارك التكالب الدولي من أجل النفوذ في إفريقيا. لقد أضحت العودة الروسية لإفريقيا مدفوعة بالأساس بضغوط داخلية ودولية نتيجة العقوبات الغربية، وبحث روسيا عن أسواق جديدة. وعليه، تبدو حاجةُ روسيا لإفريقيا أكثر من حاجة إفريقيا لروسيا. وبشكل عام، يمكن تصور مسارين رئيسيين لمرحلة ما بعد القدوم الروسي لإفريقيا؛ أولهما تعزيز بيئة تنافسية دولية قد تعود بالنفع على إفريقيا لتخرج من إسار حدية توافق واشنطن بمشروطيته السياسية، وتوافق بكين بغموض دبلوماسية القروض التي ينطوي عليها. أما المسار الثاني فهو قد يعني خلق حالة من الزبائنية السياسية لروسيا مع الدول التسلطية في إفريقيا، وهو ما يعيد أجواء التنافس الأيديولوجي زمن الحرب الباردة.