أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

النقاط العمياء:

رؤية مغايرة لنظرة الغرب حول صعود الصين

27 مارس، 2019


عرض: د. إسراء أحمد إسماعيل - باحثة في الشئون الدولية

أثار صعود الصين السياسي والعسكري المتنامي، وحضورها العالمي المتصاعد، جدلًا واسعًا حول مستقبل تحولات النظام الدولي الذي تهمين عليه الولايات المتحدة منفردة منذ نهاية الحرب الباردة، حيث أضحت بكين إحدى القوى الكبرى المؤهّلة لدور قيادي عالمي منافس لواشنطن، ولا سيما في ظل دورها المؤثر ومبادراتها الكبرى، وفي مقدمتها "مبادرة الحزام والطريق" التي تنتهج مبدأ المنافع المتبادلة، في مقابل نموذج الهيمنة الذي ارتبط بالعديد من القوى العظمى التقليدية.

وفي هذا الإطار، يقدم "باراج خانا" (الأستاذ بالجامعة الوطنية بسنغافورة) رؤيته حول تحول مركز القوى الدولية من الغرب ممثلًا في الولايات المتحدة والقوى الأوروبية، إلى الشرق ممثلًا في القوى الآسيوية الصاعدة، في كتاب جديد بعنوان "المستقبل آسيوي". وتتخلص في أنها تشهد تحولًا تكتونيًّا (Tectonic Shift). فإذا كان القرن التاسع عشر أوروبيًّا، والقرن العشرون أمريكيًّا؛ فإن القرن الحادي والعشرين سيكون آسيويًّا، مع التأكيد على انتهاء صلاحية المنطق الاستعماري في التعامل مع دول العالم.

نظام آسيوي صاعد

يؤكد "خانا" في كتابه انتهاء عصر الهيمنة الغربية، وعودة آسيا إلى أنماط التجارة والتبادل الثقافي التي ازدهرت قبل فترة طويلة من الاستعمار الأوروبي والهيمنة الأمريكية. ويضيف أنه في الوقت الذي تشهد فيه الولايات المتحدة حالة من التخبط على هامش هذه المرحلة الجديدة من العولمة، فإن الازدهار المتنامي في القارة يعيد ترسيم خريطة الاقتصاد العالمي، حيث أصبحت الصين لاعبًا رئيسيًّا في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، التي تعتبر أهم مشروع دبلوماسي في القرن الحادي والعشرين، يعادل في أهميته -وفقًا للكاتب- تأسيس الأمم المتحدة في منتصف القرن العشرين، لكنها بتصميم وقيادة آسيوية، مما سيجعل القارة مركز العالم ومستقبله، وسيكون لها أكبر الأثر على مسار العلاقات الدولية والنظام الدولي في القرن الحادي والعشرين.

وفي هذا الإطار، يشير المؤلف إلى أن عام 2017 يُعد البداية الحقيقية للتاريخ الذي بدأ فيه وضع حجر الأساس لنظام دولي تقوده آسيا. ففي مايو من ذلك العام، اجتمعت ست وثمانون دولة تمثل ثلثي سكان العالم، ونصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، في بكين لحضور القمة الأولى لمبادرة "الحزام والطريق"، والتي ضمت زعماء من آسيا وإفريقيا وأوروبا لإطلاق أكبر خطة منسقة للاستثمار في البنية التحتية بشكل جماعي. وقد تعهدت الحكومات المجتمعة بإنفاق تريليونات الدولارات لربط أكبر المراكز السكانية في العالم، بهدف تعزيز التبادل التجاري والثقافي، وكان ذلك بمثابة إعلان عن حقبة جديدة من طريق الحرير.

ووفقًا لـ"خانا" فإن مصطلح "النظام" له تعريف محدد للغاية، فهو يشير إلى مجموعة من الدول أو الوحدات الدولية التي تنتظم في علاقة مع بعضها بعضًا في منطقة ما، أكثر مما تفعل مع الدول خارج منطقتها. ومن هذا المنطلق، فإن الاتحاد الأوروبي بقدر كونه نظامًا، فإننا نشهد صعود نظام آسيوي واسع يمتد من خلال مبادرة "الحزام والطريق" من شبه الجزيرة العربية وتركيا في الغرب، إلى اليابان ونيوزيلندا في الشرق، ومن روسيا في الشمال إلى أستراليا في الجنوب. وهي منطقة تمثل حاليًّا نحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وثلثي النمو الاقتصادي العالمي. 

انتقاد الرؤية الغربية

أشار "خانا" إلى صعود القوة والتأثير الآسيوي في عدد من المجالات، لا سيما الاقتصادي، حيث يوضح أن النظام الاقتصادي الآسيوي أكبر بالفعل من الأنظمة الأوروبية أو أمريكا الشمالية من حيث تعادُل القوة الشرائية (PPP)، مؤكدًا أن حجم الإنتاج والاستهلاك والاستيراد والتصدير بالقارة أكبر من أي منطقة أخرى في العالم. كما أن معدل التبادل التجاري بين الدول الآسيوية وبعضها بعضًا مرتفع مقارنة مع أوروبا أو أمريكا الشمالية. فضلًا عن أن آسيا تضم عددًا من أكبر الاقتصادات في العالم، ومعظم احتياطيات النقد الأجنبي الدولية، والعديد من أكبر البنوك والشركات الصناعية والتكنولوجية، ومعظم أكبر الجيوش في العالم.

ويضيف "خانا" أن أكثر من نصف سكان العالم (60%) يعيشون في آسيا، إذ إن لديها عشرة أضعاف عدد سكان أوروبا و12 ضعف أمريكا الشمالية. وهو مؤشر يتسم بالديمومة. فمع ارتفاع عدد سكان العالم إلى نحو 10 مليارات نسمة مستقبلًا، ستصبح القارة دائمًا موطنًا لأكبر تعداد سكاني مقارنة بباقي أنحاء العالم مجتمعة، وهو ما يدفع للاهتمام برؤية العالم من وجهة نظر آسيوية.

ويتطلب ذلك التغلب على ما أسماه "خانا" عقودًا من الجهل المتراكم والمتعمد تجاه آسيا، حيث ينتقد الرؤى الغربية في تفسيرها لوجهات النظر الآسيوية. ويؤكد سقوط الافتراض القائل بأن الاتجاهات الغربية تمثل بالضرورة توجهًا عالميًّا. فعلى سبيل المثال، لم تكن "الأزمة المالية العالمية" دولية، معللًا ذلك باستمرار معدلات النمو الآسيوية في الارتفاع. ففي عام 2018، شهدت الهند والصين وإندونيسيا وماليزيا وأوزبكستان أعلى معدلات للنمو الاقتصادي في العالم، مقارنة بالولايات المتحدة وأوروبا. 

ومن ناحية أخرى، قاد صعود السياسات الشعبوية إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واهتزاز الوحدة الأوروبية، إلى جانب تنامي الخلافات بين الولايات المتحدة بقيادة "دونالد ترامب" وحلفائها الأوروبيين، وذلك على عكس المشهد الآسيوي الذي يعكس مزيدًا من التعاون والتنسيق، خاصة على الصعيد الاقتصادي.

هذا القصور المتعلق باستمرار التفوق والريادة الغربية، وسوء تقدير الرؤى الآسيوية، أطلق عليه "خانا" "النقاط العمياء" التي هي أحد أعراض السهو أو الإغفال بالتحليلات الأجنبية -خاصة الأمريكية- المتعلقة بآسيا. فهناك افتراض بأن القارة عاجزة أو جامدة من الناحية الاستراتيجية، وغير قادرة على اتخاذ القرارات، وكل ما تنتظره الدول الآسيوية هو قيادة واشنطن، وإرشادها لهم بما يجب عليهم فعله.

صعود بناء لا هيمنة

أكد "خانا" أن من أبرز "النقاط العمياء" في التحليلات الغربية عامة، والأمريكية على وجه الخصوص، التركيز المفرط على الصين، والتخوف من صعودها كمنافس حقيقي للولايات المتحدة على قيادة النظام الدولي، موضحًا أنه على الرغم من أن بكين تتمتع حاليًّا بسلطة كبيرة أكثر من جيرانها، إلا أن مستقبل آسيا هو أكبر بكثير مما تريده. ويضيف أنها لا تعد قوة استعمارية، وذلك على عكس واشنطن، حيث إنها تريد توفير موارد وفتح أسواق جديدة، وليس مستعمرات أجنبية، ويهدف تواجدها العسكري الذي يمتد من بحر الصين الجنوبي إلى أفغانستان وشرق إفريقيا، لحماية خطوط الإمداد العالمية المترامية الأطراف. كما تسعى من خلال استراتيجيتها الكبرى لتطوير البنية التحتية العالمية إلى تقليل اعتمادها على مورد أجنبي واحد.

وفي هذا الإطار، يرى "خانا" أن إطلاق الصين لمبادرة "الحزام والطريق" لا يعني رغبتها في الهيمنة على آسيا، ولكن مستقبل بكين مثل ماضيها متجذر بعمق في القارة، وقد تم تصوير المبادرة على نطاق واسع في الغرب على أنها خطة للهيمنة الصينية على آسيا والعالم، على غرار نمط الصعود والهيمنة الأمريكية على أوروبا والعالم. 

لكن الكاتب يُشير إلى أن الصين تعمل على تحديث ونمو شركائها في آسيا، وذلك مثلما فعلت الولايات المتحدة مع شركائها الأوروبيين والآسيويين خلال الحرب الباردة. ومن خلال الانضمام إلى المبادرة، اعترفت بلدان آسيوية عديدة ضمنيًّا ببكين كقوة عالمية ولاعب رئيسي في نظام آسيوي واسع النطاق، لكنها ليست قوة مهيمنة.

ويؤكد المؤلف أنه لا يمكن إغفال وجود قوى أخرى في القارة تريد تأكيد دورها ونفوذها. فالدول النووية كالهند وروسيا في حالة تأهب قصوى بشأن أي تعدٍّ صيني على سيادتهما أو مصالحهما، وكذلك القوى الإقليمية كاليابان وأستراليا. ومن الشواهد الدالة على ذلك أنه بالرغم من إنفاق الصين نحو 50 مليار دولار بين عامي (2000-2016) على مشروعات البنية التحتية والبرامج الإنسانية في دول القارة، إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى هيمنة النفوذ الصيني في آسيا. ووفقًا للكاتب فإن فكرة "آسيا التي تقودها الصين" ليست مقبولة لدى معظم الآسيويين.

بيد أن ذلك لا ينفي تمتُّع الصين بميزة الخطوة الأولى في الوقت الذي يتردد فيه المستثمرون الآسيويون والغربيون في الاستثمار في عديد من المجالات. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنه من الملاحظ في الفترة الأخيرة أن العديد من الدول بدأت تُعيد التفاوض بشأن المشروعات والديون الصينية. وفي ضوء ذلك، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن ما تقوم به بكين من مشروعات لتحديث البنية التحتية في دول القارة لا يعود عليها هي فقط بالنفع، بل إنه سوف يساعدها في اكتساب القوة والثقة لمقاومة أي تعدٍّ صيني في المستقبل. 

وعلاوة على ما سبق، ألهمت تحركات الصين انطلاق "سباق تسلح" للبنية التحتية، حيث قامت الهند واليابان وتركيا وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول بتوجيه استثمارات كبيرة إلى هذا المجال، الأمر الذي من شأنه أن يمكِّن الدول الآسيوية الأضعف من التواصل بشكل أفضل مع بعضها بعضًا، ومواجهة المناورات الصينية. وفي نهاية المطاف، لن تقف بكين في موقع الدولة المهيمنة آسيويًّا أو عالميًّا، بل كمركز إقليمي وعالمي في إطار النظام الآسيوي والأوراسي.

وختامًا، يؤكد "خانا" أن مستقبل آسيا يُعد امتدادًا لماضيها، فلطالما كانت منطقة متعددة الأقطاب تضم حضارات عريقة تطورت بشكل مستقل عن السياسات الغربية، ولكنها تتعايش بشكل بنّاء مع بعضها بعضًا. موضحًا أن محاولة كسب ثقة وتعاون الغرب موضع ترحيب كبير، لكن محاولاتهم لتثبيط النهضة الآسيوية لن يُجدي نفعًا، وذلك لأنها هيكلية بناءة وليست توسعية على حساب مصالح الآخرين. ويشير إلى استمرار الجهل وضيق الأفق الغربي، خاصة في كل من لندن وواشنطن، بشأن آسيا، وكذلك استمرار الاعتقاد بأن النمو الآسيوي سوف يتراجع مع تباطؤ الاقتصاد الصيني، أو سينهار النفوذ الآسيوي تحت وطأة التنافس بين الدول الآسيوية.

ويرى "خانا" أن الكثير من الآراء حول آسيا غير دقيقة، ففي الوقت الذي تحاكي فيه الدول الآسيوية نجاحات بعضها، فإنها تسعى في الوقت نفسه إلى تعزيز مكانتها لتوسيع نفوذها ليشمل جميع أنحاء العالم. وأن تلك الجهود ما هي إلا محاولة لإحياء النظام القاري الآسيوي، الذي تعتبر الصين واحدة من أهم ميزاته، لكنها ليست الميزة الوحيدة.

بيانات الكتاب: 

Parag Khanna, “The Future Is Asian”, (New York: Simon & Schuster, 2019).