أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

القومية المضادة:

كيف فشلت الليبرالية الأمريكية في تصدير نموذجها للخارج؟

28 نوفمبر، 2018


عرض: باسم راشد  - باحث في العلوم السياسية

منذ انتهاء الحرب الباردة، انتهجت السياسة الخارجية الأمريكية المنظور الليبرالي في توجهاتها دون النظر إلى توازنات القوى الدولية، والهوية القومية التي تحكم بعض الدول، مما أدى إلى نتائج عكسية جلبت مزيدًا من الحروب للعالم بدلًا من أن تساهم في تحقيق السلام والأمن الدوليين.

وفي هذا الإطار، يسعى "جون ميرشايمر" (أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو) في كتابه الجديد المعنون "الوهم العظيم: الأحلام الليبرالية والواقع الدولي"، إلى توضيح كيف فشلت الليبرالية الأمريكية في تصدير نموذجها للخارج، وما يجب على صانع السياسة الأمريكي فعله لتجنب الاستمرار في ذلك الفشل.

نشر الليبرالية:

يصف "ميرشايمر" الهيمنة الليبرالية في كتابه بأنها "استراتيجية طموحة" تهدف فيها الدولة إلى تحويل أكبر عدد ممكن من الدول إلى ديمقراطيات ليبرالية مثلها، وفي الوقت نفسه تعمل على تعزيز الاقتصاد الدولي المفتوح وبناء المؤسسات الدولية، بما يهدف -في النهاية- إلى جعل العالم أكثر أمنًا واستقرارًا من خلال تقليل الحروب، وتحسين نظام منع انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب، وتقليل انتهاكات حقوق الإنسان.

بيد أن هذا التصور خاطئ تمامًا، من وجهة نظر الكاتب، إذ نادرًا ما تكون القوى العظمى في وضع يُمكِّنها من اتباع سياسة خارجية ليبرالية واسعة النطاق، خاصة في ظل نظام ثنائي أو متعدد القطبية؛ لأنه في هذه الحالة لا يوجد أمام تلك القوى من خيارٍ سوى التركيز على وضعها في ميزان القوى العالمي، والتصرف وفقًا للإملاءات الواقعية للحفاظ على بقائها وتخوفًا من مهاجمتها من قوى عظمى أخرى. لذا، تُغلِّف القوى العظمى سلوكها العدواني بخطاب ليبرالي، بمعنى أنهم يتحدثون مثل الليبراليين، ويتصرفون مثل الواقعيين.

ويُشير "ميرشايمر" إلى أنه في حالة النظام أحادي القطبية، فإنه يمكن للقوى العظمى اتباع سياسة خارجية ليبرالية بحرية، وهو ما يدفعها للتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى من أجل تعزيز الديمقراطية. لكن الكاتب يؤكد أن الهيمنة الليبرالية، برغم ذلك، لن تحقق أهدافها، وسيأتي فشلها حتمًا وبتكاليف باهظة، بل من المحتمل أن تدخل الدولة الليبرالية في حروب لا نهاية لها. كما ستواجه قوميات مجهولة بالنسبة إليها، مما سيزيد من مستوى الصراع في السياسة الدولية بدلًا من الحد منه. 

علاوةً على ذلك، من المؤكد أن السلوك العسكري للدولة سوف يهدد قيمها الليبرالية التي تدعو لحل النزاعات بشكل سلمي، فضلًا عن أنه حتى لو حققت الدولة الليبرالية أهدافها المتمثلة في نشر الديمقراطية في الداخل والخارج، وتعزيز الاندماج الاقتصادي، وإنشاء مؤسسات دولية؛ فإنها لن تُحقق أبدًا السلام العالمي. 

صدام النظريات:

يرى "ميرشايمر" أن الليبرالية تواجه تحديات مرتبطة بعلاقتها بالواقعية والقومية، وهل هي علاقة صدام أم تعايش؟ وكيف ومتى توظف الدول الكبرى تلك العلاقة لتحقيق أهدافها الخارجية؟. ومن واقع هذه التساؤلات يؤكد الكاتب أن مفتاح فهم حدود الليبرالية هو الاعتراف بعلاقتها بالواقعية والقومية، وطبيعة التفاعل بينها للتأثير على السياسة الدولية.

إذ يُشير إلى أن القومية أيديولوجيا سياسية قوية للغاية، تدور حول فكرة تقسيم العالم إلى مجموعة واسعة من الوحدات الاجتماعية، لكل منها ثقافة متميزة. وبما أن الدول الليبرالية هي أيضًا دول قومية، فليس من شك في أن الليبرالية والقومية يمكن أن تتعايشا، لكن حين تصطدمان تكاد القومية تكسب دائمًا.

ولهذا يرى أنه غالبًا ما يؤدي تأثير القومية إلى تقويض السياسة الخارجية الليبرالية. فعلى سبيل المثال، تشدد القومية بشكل كبير على حق تقرير المصير، وهو ما يعني أنه ستتم مقاومة جهود القوى العظمى الليبرالية للتدخل في السياسات الداخلية للدول الأخرى، سواء من الداخل أو الخارج، بما سيتعارض مع فكرة الهيمنة الليبرالية.

كما تصطدم القومية والليبرالية في مسألة الحقوق الفردية؛ إذ يعتقد الليبراليون أن كل شخص لديه نفس الحقوق، بغض النظر عن دولته أو وطنه، فيما لا تتعامل القومية بنفس المنطق، فهي أيديولوجيا خاصة تأتي من أعلى إلى أسفل، ولا تهتم إلا بحقوق مواطنيها فقط.

ويضيف أن الليبرالية لا تتناسب أيضًا مع الواقعية، ففي جوهرها تفترض الأولى أن الأفراد الذين يشكلون أي مجتمع لديهم -في بعض الأحيان- اختلافات عميقة حول ما يشكل الحياة الجيدة، وقد تؤدي هذه الاختلافات إلى محاولتهم قتل بعضهم بعضًا، وهنا يأتي دور الدولة في الحفاظ على السلام. وهو ما يختلف عن الواقعية التي تنفي وجود دولة عالمية يمكنها إبقاء الدول في حالة سلام عندما تكون لديها خلافات عميقة، لأن هيكل النظام الدولي فوضوي وليس هرميًّا. وبالتالي، ليس أمام الدول من خيار سوى العمل وفقًا لمنطق توازن القوى إذا كانوا يأملون في البقاء. 

كذلك تعترف الواقعية بالحرب كأداة من أدوات الحفاظ على توازن القوى بما يقلل من احتمالات وقوعها بين القوى العظمى، أما الليبرالية فبرغم رفضها الاعتراف بالحرب إلا أنها ترى كل نقطة في العالم مكانًا محتملًا للحرب بدافع الحفاظ على حقوق الإنسان، ومن ثمّ تكون المفارقة أن الحروب تزداد في ظل الليبرالية أكثر من الواقعية.

ومع ذلك، هناك حالات خاصة تكون فيها دولة ما آمنةً بحيث يمكنها أن تتجنب السياسة الواقعية، وتتبع سياسات ليبرالية حقيقية، لكن ستكون النتائج غالبًا سيئة إلى حد كبير لأن القومية الداخلية لتلك الدول تحبط السياسات الليبرالية دومًا لكونها ترفض السياسات الليبرالية بسبب تأثيرها سلبًا على المصالح القومية.

ومن واقع ما سبق، يجادل الكاتب بأن القومية والواقعية تتغلبان على الليبرالية دومًا، مؤكدًا أن العالم تَشَكَّل طبقًا لهاتين النظريتين لا الليبرالية، فقبل خمسمائة عام كان العالم يتكون من وحدات غير متجانسة، شملت المدن والدوقيات والإمبراطوريات وغيرها، وهو ما سمح بتكوين الدول القومية، وبرغم تضافر العديد من العوامل لتحقيق هذا التحول، إلا أن القومية وسياسات توازن القوى كانتا القوتين الرئيسيتين المحركتين وراء نظام الدولة الحديثة.

فشل الليبرالية الأمريكية:

يؤكد "ميرشايمر" في كتابه "السياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترة من 1993 حتى 2017"، حدوث تحولات في نظرة العالم للولايات المتحدة من التفاؤل بقوة عظمى قادرة على قيادة النظام الدولي في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، إلى التشاؤم من عدم قدرتها على الحفاظ على السلام والاستقرار الدوليين.

كما أشار إلى أن الهيمنة الليبرالية الأمريكية خلال إدارات "بوش الأب" و"بيل كلينتون" و"بوش الابن" وكذلك "باراك أوباما" فشلت في تحقيق أهدافها؛ إذ لعبت واشنطن خلال تلك الفترة دورًا رئيسيًّا في زرع الموت والدمار في معظم أقاليم العالم، على حد تعبير الكاتب، مثل الشرق الأوسط -على سبيل المثال- الذي وصل إلى حالة من الفوضى ليس من المحتمل انتهاؤها قريبًا.

كما أورد الكاتب عدة أمثلة أخرى على فشل الليبرالية الأمريكية، منها السياسة الأمريكية تجاه الأزمة الأوكرانية، والتي تحركت بدافع من المنطق الليبرالي، بما أفرز الأزمة السياسية الحالية بين روسيا والغرب. كذلك منذ عام 1989، وظهور النظام أحادي القطبية، خاضت الولايات المتحدة سبعة حروب مختلفة في العديد من مناطق العالم في العراق وأفغانستان وسوريا وفيتنام وغيرها، إذ دخلت في حالة حرب لمدة سنتين كل ثلاث سنوات.

ويُرجع الكاتب ذلك إلى فشل الولايات المتحدة في فهم حدود الليبرالية، وعدم إدراك طبيعة علاقتها بالقومية والواقعية، لذا حينما اصطدمت بها انهزمت أمامها، لأن واشنطن في النهاية لم تستطع نشر نموذجها الديمقراطي في دول مثل العراق وأفغانستان بل تركتها في حالة فوضى أدت في النهاية إلى ظهور جماعة مثل تنظيم "داعش" الإرهابي، وذلك لعدم إدراكها للطابع القومي المكوِّن لتلك الدول. ناهيك عن فشلها السياسي أمام الواقعية الروسية في الأزمة الأوكرانية التي ما زالت تعاني أوروبا من آثارها حتى الآن.

ومن ثم، يؤكد الكاتب أنه على عكس الحكمة السائدة في الغرب، فإن السياسة الخارجية الليبرالية لا تشكل صيغة للتعاون والسلام، بل وسيلة للصراع وعدم الاستقرار. لذا ينبغي على صنَّاع السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية إعادة تقييم استراتيجيتهم الليبرالية بهدف تحقيق أفضل النتائج الخارجية واستعادة الاستقرار العالمي.

البديل الواقعي:

طرح "ميرشايمر" في كتابه بعض التوصيات لصُنَّاع السياسة الأمريكيين. تمثّل أولها في ضرورة تخلي الولايات المتحدة عن طموحاتها الكبيرة في الهيمنة الليبرالية، لا لكون هذه السياسة عرضة للفشل فحسب، بل لأنها تميل إلى ربط الجيش الأمريكي بالحروب المكلفة التي تفقدها في النهاية.

ويتعلق ثانيها بضرورة تبني واشنطن سياسة خارجية أكثر تحفظًا تستند إلى الواقعية وفهم واضح لكيفية تقييد القومية لسلوك القوى العظمى. إذ إنه على الرغم من أن الواقعية ليست صيغة للسلام الدائم، فإن السياسة الخارجية "الواقعية" ستعني حروبًا أمريكية أقل ونجاحات دبلوماسية أكثر مما ستعتمده سياسة تحركها الليبرالية. 

وينصرف ثالثها إلى أهمية فهم وتقدير الولايات المتحدة لقوميتها وكذلك للقوميات الأخرى المُشكِّلة للمجتمعات، بما سيساهم في الحد من طموحها الخارجي، كما يجب عليها أن تتعلم فضائل ضبط النفس، بهدف تقليل الحروب الخارجية غير الضرورية وإحلال السلام.

ويؤكد الكاتب أن تحول الولايات المتحدة من الليبرالية إلى الواقعية سيرتبط باعتبارين أساسيين؛ يتعلق الاعتبار الأول بمستقبل هيكل النظام الدولي؛ إذ إن الصعود الصيني من ناحية، وسعي روسيا لاستعادة المكانة دوليًّا من ناحية أخرى، قد يعيدان تشكيل هيكل النظام الدولي المستقبلي من نظام أحادي القطبية إلى متعدد القطبية، وإن حدث ذلك، فإن الولايات المتحدة ستضطر إلى التخلي عن الهيمنة الليبرالية وتبني النهج الواقعي تخوفًا من أية تهديدات محتملة من خصومها.

لكن في ظل المشكلات الاقتصادية والديون التي تبطئ النمو الصيني، وفي ضوء محدودية القدرات الروسية مقارنة بالأمريكية، فإن هيكل النظام الدولي سيظل أحاديًّا للعقود القادمة، وحتى إن نجحت الصين في تجاوز بعض أزماتها وأعادت تشكيل نظام دولي متعدد القطبية، فإنه سيكون لفترة محدودة، ثم ستعود الولايات المتحدة قوة عظمى واحدة في ذلك النظام.

أما الاعتبار الثاني فيرتبط بمدى حرية الدولة في اختيار مسار سياستها الخارجية في ظل اعتبارات القومية، سواء في الداخل أو الخارج، إذ إن معظم الرؤساء السابقين للولايات المتحدة فشلوا في تقدير قوة القومية. ويبين التاريخ السياسي للأمم أن أفضل استراتيجية لقوة عظمى تتعامل مع قوى صغيرة هي تجنب الانخراط في سياساتها المحلية، وبالتأكيد ليس غزوها واحتلالها ما لم يكن ضروريًّا للغاية.

ختامًا، يؤكد "ميرشايمر" أنه برغم تكرار فشل الليبرالية الأمريكية وعدم فعاليتها وتكلفتها المرتفعة على الشعب الأمريكي، إلا أنه من الصعب إقناع النخبة الأمريكية بالتخلي عن هيمنتها الليبرالية، لكنه يأمل في أن تستيقظ الولايات المتحدة وأن تتخلى عن تلك الاستراتيجية المعيبة لصالح استراتيجية أكثر تقييدًا تستند إلى الواقعية والتقدير السليم للقومية.

المصدر:

John J. Mearsheimer, “The Great Delusion: Liberal Dreams and International Realities”, (New Haven: Yale University Press, 2018)