أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

تحديات متعددة:

هل تعرقل معضلة التسعير تطور صناعة الغاز العالمية؟

27 يونيو، 2018


تمثل أسواق الطاقة العالمية ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد العالمي على مر العصور، باعتبار أن الطاقة هي المحرك الرئيسي لأي نشاط اقتصادي مهما كانت طبيعة هذا النشاط، إنتاجيًّا أو خدميًّا، أو بالنسبة للأنشطة الحياتية اليومية للأفراد، كالتنقل والتدفئة والتبريد والإنارة وغيرها. بل إن مصادر الطاقة، كالنفط على سبيل المثال، تُعد مدخلًا من مدخلات الإنتاج في بعض الصناعات، كالبتروكيماويات والبلاستيك وغيرها.

وتعد السيناريوهات المستقبلية المتوقعة لكل من الطلب العالمي على الطاقة وعرضها، من القضايا المحورية التي تهم الباحثين والأكاديميين ومتخذي القرار المختصين في الشأن الاقتصادي بوجهٍ عام. وفي هذا السياق، فإنه بحلول عام 2050 من المتوقع أن تشهد أسواق الطاقة العالمية تغيرات جمة، من شأنها أن تجعل منها كما لو أنها أسواق جديدة بمعطيات مغايرة. ويعتبر الغاز الطبيعي أحد مصادر الطاقة التي تمتلك مستقبلًا واعدًا للتوسع خلال العقود الثلاثة المقبلة، وذلك في الوقت الذي تواجه فيه صناعة الغاز معضلات وتحديات عديدة قد تعيق تطورها.

الطلب العالمي على الطاقة:

يُعد النمو الاقتصادي والزيادة السكانية محركين رئيسيين للطلب العالمي على الطاقة، وهو ما يعتبر قاعدة ثابتة في جميع العصور. وبالنسبة للنمو الاقتصادي فإن مؤسسة "دي في جي إل" تشير في تقريرها الخاص بآفاق الطاقة العالمية إلى أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي سيصل إلى نحو 168.2 تريليون دولار في عام 2050، بزيادة تبلغ 125% مقارنة بمستواه البالغ 74.8 تريليون دولار في عام 2015. وبافتراض ثبات معدلات كثافة الطاقة بالنسبة لكل دولار من الناتج، فإن العالم الذي استهلك 10.9 تريليونات وحدة طاقة لتوليد ناتجه في عام 2015، سيحتاج 24.7 تريليون وحدة طاقة لتوليد ناتجه في عام 2050. 

وبرغم أن كثافة الطاقة تتراجع بشكل تدريجي من عام إلى آخر بسبب التقدم التكنولوجي وسياسات كفاءة الطاقة، فإن نسبة الزيادة المتوقعة في حجم الطاقة اللازمة لتوليد الناتج في عام 2050 لن تقل عن 50% مقارنة بتلك الطاقة التي استخدمت لتوليد الناتج في عام 2015.

أما بالنسبة للمحرك الثاني، فإنه بحلول عام 2050 يتوقع -وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة- أن يزداد عدد سكان العالم بنسبة تصل إلى 32% مقارنة بمستواه في عام 2015، الذي بلغ 7.3 مليارات نسمة، ليصل إجمالي سكان العالم إلى 9.7 مليارات نسمة، بزيادة تبلغ 2.4 مليار نسمة. 

كما ستشهد خريطة توزيع السكان في العالم تغيرات هامة أيضًا، إذ ستتقدم الهند إلى المرتبة الأولى، حيث سيرتفع عدد سكانها إلى 1.66 مليار نسمة، لتتجاوز الصين التي يُتوقع أن يصل سكانها إلى 1.36 مليار نسمة، وستتقدم نيجيريا إلى المرتبة الثالثة عالميًّا بعدد سكان يبلغ 410 ملايين نسمة، متجاوزة الولايات المتحدة التي سيبقى سكانها قريبين من مستوى 386 مليون نسمة،  وستشهد كل من إندونيسيا وباكستان وبنجلاديش وإثيوبيا ومصر زيادات كبيرة في أعداد السكان. لتكون هذه الدول بمثابة المحركات الرئيسية للنمو في الطلب على الطاقة.

مكانة متقدمة للغاز:

على مدار العقود الثلاثة المقبلة، يتوقع أن يشهد جانب العرض العالمي للطاقة تغيرات جوهرية عديدة، من أهمها صعود موقع الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة. ووفق بيانات عام 2016، فقد حل الغاز في المرتبة الثالثة بإسهامه بنحو 24% في مزيج الطاقة العالمي، وذلك بعد النفط والفحم اللذين ساهما بنسبة 33% و28% على التوالي. وبحلول عام 2040، من المتوقع أن يرتفع نصيب الغاز في مزيج الطاقة العالمي إلى 26.6%، ليحل في المرتبة الثانية بعد النفط، متفوقًا على الفحم الذي سيتراجع إلى المرتبة الثالثة. وتعود الزيادة المتوقعة في الطلب على الغاز لعدة أسباب، أهمها: نمو الطلب العالمي على الطاقة بشكل عام، إلى جانب تحول سياسات الطاقة العالمية نحو الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة، وهي النافذة التي من خلالها يجد الغاز فرصته لتعزيز مكانته على خريطة الطاقة العالمية. 


وقد بدأ العالم يستشعر بالفعل حدوث تغيرات جوهرية في سياسات الطاقة بما يصب في هذا الاتجاه، فعلى سبيل المثال، فإن الصين (المستهلك الأول للطاقة) تقوم حاليًّا بتقليص استخدام الفحم والتوسع في استخدام الغاز، وقد تعهدت ضمن اتفاق باريس للمناخ بتخفيض نسبة مساهمة الفحم في مزيج الطاقة الخاص بها من 80% في عام 2010 إلى 58% في عام 2020، وذلك من أجل تقليص نسب تلوث الهواء لديها. 

وقد أظهرت بيانات الإدارة العامة للجمارك في الصين بالفعل أن الواردات الصينية من الغاز المسال بلغت 5.18 ملايين طن في يناير 2018، متجاوزة مستواها القياسي في ديسمبر 2017، والبالغ 5.03 ملايين طن، وبارتفاع نسبته 51.2% على أساس سنوي. وعلى المدى الطويل، يُرجّح أن يرتفع استهلاك الصين من الغاز إلى 20.8 تريليون قدم مكعب سنويًّا بحلول عام 2040، مقارنة بمقدار 6.9 تريليونات قدم مكعب في عام 2015، بنسبة زيادة تصل إلى 200%.

وتمثل زيادة الطلب الصيني على الغاز عنوانًا رئيسيًّا لتوجه سيسود على المستوى العالمي، فوفق بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، يتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على الغاز إلى 177.4 تريليون قدم مكعب سنويًّا بحلول عام 2040، مقارنة بنحو 124.1 تريليون قدم مكعب في عام 2015، بنسبة زيادة تصل إلى 43%، الأمر الذي يفتح آفاقًا عريضة للتوسع أمام صناعة الغاز العالمية.

معضلة تسعير الغاز:

يبقى السؤال الآن حول قدرة صناعة الغاز على تلبية الزيادة المتوقعة في الطلب العالمي. وفي هذا الإطار، فإن هناك عدة معوقات تقف أمام هذه الصناعة، وتحد من قدرتها على التطور. 

وتأتي مشكلة تسعير الغاز لتكون هي المشكلة المحورية في هذا الصدد، وإلى جانب تلك المشكلة هناك مشكلات أخرى ترتبط بشكل أو بآخر بمشكلة التسعير وتعمقها، ومن أهم هذه المشكلات ما يلي: عدم وجود سوق واحدة للغاز، ومن ثم تعدد آليات التسعير، وعدم استقلال أسواق الغاز، وخضوعها لتأثيرات قادمة من الخارج، ولا سيما من أسواق النفط، وتدني أسعار الغاز بما لا يسمح بضخ المزيد من الاستثمارات في عملية التنقيب عن الغاز واستخراجه، وأن الغاز المراد تصديره عبر الناقلات يحتاج إلى التسييل في بلد التصدير، ومن ثم إعادته إلى صورته الغازية في بلد الاستيراد، وهي عملية مكلفة، ومعاناة السوق من فائض في المعروض في معظم الأحيان.

لا توجد حتى الآن آلية محددة لتسعير الغاز الطبيعي تأخذ في حسبانها الاعتبارات الخاصة بصناعة الغاز، سواء على المستوى العالمي أو على مستوى الدول والمناطق. وغالبًا ما يكون سعر الغاز مرتبطًا بأسعار النفط السائدة في الأسواق العالمية، وذلك دون مراعاة مدى تناسب هذا السعر مع ظروف صناعة الغاز من عدمه. وبالنسبة للآليات المتبعة للتسعير فإنه في الأسواق الآسيوية يباع المليون وحدة حرارية المستخلصة من الغاز بنفس سعر نظيرتها المستخلصة من النفط. فمثلًا إذا كان برميل النفط الخام الذي يحتوي على نحو 5.8 ملايين وحدة حرارية، يباع بسعر 100 دولار، فإن سعر المليون وحدة حرارية المستخلصة منه يبلغ 17.24 دولارًا، وهذا السعر بدوره يستخدم لتداول المليون وحدة حرارية من الغاز في الأسواق الآسيوية. 

بجانب ذلك، هناك آلية تسعير للغاز تابعة لمركز "هنري هوب" لتجارة الغاز في الولايات المتحدة، وهي تعتمد على آلية العرض والطلب على الغاز في السوق الأمريكية. وغالبًا ما يكون السعر المحدد -وفق هذه الآلية- أقل من السعر في الأسواق الآسيوية، فقد كان أعلى مستوى له هو 13.4 دولارًا للمليون وحدة حرارية، والذي تحقق في عام 2005، لكنه تراجع فيما بعد بسبب زيادة إنتاج الغاز الأمريكي عبر الغاز الصخري، إلى أن بلغ 2.67 دولار للمليون وحدة حرارية في فبراير 2018.

أما بالنسبة للأسواق الأوروبية فهي تستخدم آلية تسعير للغاز تعد مزيجًا بين آليتي التسعير في آسيا والولايات المتحدة، حيث يتم تحديد السعر بين السعرين المحددين فيهما. 

وبشكل عام، فآليات التسعير بهذه الطرق لا تراعي خصوصية صناعة الغاز مقارنة بصناعة النفط، وكذلك خصوصية الصناعة في كل دولة على حدة، ففي الوقت الذي يتيسر فيه للدول ذات التكلفة المنخفضة لإنتاج الغاز تحقيق عوائد كبيرة عند مستويات الأسعار السائدة، فإن الدول ذات التكاليف المرتفعة لا يمكنها ذلك، ولا سيما أن تكلفة إنتاج الغاز في كل دولة تخضع لاعتبارات تتعلق بحجم احتياطياته المؤكدة، وموقع الاحتياطيات، سواء في المياه العميقة أو الضحلة، أو في اليابسة، وعمقها، ومن ثم سهولة استخراجها وفقًا للتكنولوجيات المتاحة. كما تخضع هذه العملية لمدى توافر البنية التحتية لتسييل الغاز في كل دولة، ومدى قرب الدولة من أسواق التصدير، إلى غير ذلك من الاعتبارات.

زيادة العرض عن حاجة الطلب: 

يُضاف إلى التحديات التي تعاني منها أسواق الغاز العالمية تحدٍّ آخر لا يقل أهمية، وهو أن حجم المعروض العالمي من الغاز حاليًّا يزيد عن حاجة الطلب بنسبة تصل إلى 25%، وهذا الأمر يُضعف موقف منتجي الغاز ومصدريه، ويقلص قدرتهم على التفاوض مع المشترين الذين يمتلكون بيدهم النصيب الأكبر من أوراق الضغط والتفاوض على أسعار التداول. وتشير بعض التقديرات إلى أنه في الوقت الذي تخضع فيه عملية تسعير الغاز حاليًّا بنسبة 30% لبنود الاتفاق المُبرَم بين الدولة المصدرة والدولة المستوردة، في حين يخضع ما يقدر بحوالي 20% لظروف السوق في حينه، بينما تقع النسبة المتبقية وهي 50% من نصيب المستوردين. بمعنى آخر فإن سوق الغاز الحالية هي سوق مستهلكين وليست سوق منتجين.

ختاماً فإنه برغم هذه الضبابية التي تحيط بمستقبل صناعة الغاز الطبيعي العالمية، في ظل التحديات العديدة التي تقف في وجهها، فإن اكتشاف احتياطيات جديدة للغاز، وتحول عدد أكبر من الدول إلى منتجين ومصدرين له، كمصر على سبيل المثال، وتنامي فرص تطور هذه الصناعة بشكل كبير في بعض المناطق كمنطقة شرق المتوسط على وجه الخصوص، تزامنًا مع النمو المتوقع في الطلب العالمي على الغاز خلال العقود المقبلة؛ كل ذلك من المرجح أن يدفع الدول إلى وضع أطر وقواعد ثابتة لأسواق الغاز، لتكون أكثر استقلالية، ولتراعي خصوصية هذه الصناعة، بما يصب في اتجاه ازدهارها وتطورها على المدى الطويل.