أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

الاقتصاد التعاوني وأزمات الدولة العربية الراهنة

22 يناير، 2018


التأم مؤخراً «أسبوع أبوظبي لاستدامة» الذي يشكل مبادرة استشرافية فريدة للعبور نحو الثورة الصناعية الثالثة بكامل استحقاقاتها التقنية والاقتصادية والثقافية، في فترة يشهد فيها العديد من الدول العربية أزمات مجتمعية متفاقمة في مقدمتها تونس والسودان والعراق.

وغني عن البيان أن السبب الرئيس للانتفاضات الاجتماعية العنيفة التي عرفتها البلدان العربية في السنوات الأخيرة (كما عرفتها بوتيرة مغايرة دول أخرى عديدة في أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية) هو الانفصام المتزايد بين الديناميكية السياسية، أي دائرة القرار العمومي، والديناميكية الاقتصادية التي تغيرت جوهرياً نتيجة لطبيعة الثورة الصناعية الجديدة التي ألغت عملياً الإطارين المحددين للمجال الاقتصادي التقليدي وهما: الاقتصاد المادي وثنائية الإنتاج والاستهلاك.

الفيلسوف الفرنسي المعروف «لوك فيري» أبرز في كتابه الأخير «التفكير في القرن الحادي والعشرين» أن انتقال الاقتصاد العالمي من النمط المادي العمودي إلى النمط التعاوني الأفقي قد غيّر بصفة كلية طبيعة المقاربات القانونية والتنظيمية للحقل الاقتصادي، بحيث ندرك عجز الحكومات المتزايد عن ضبط التحولات الجديدة والتعامل مع الحقائق الموضوعية التي أفرزتها عينياً. والاقتصاد التعاوني من هذا المنظور هو نتاج الثورة الصناعية الجديدة القائمة على الذكاء الاصطناعي والشبكات الرقمية التي ولدت صيغاً جديدة للتبادل والعمل والإنتاج أبطلت الآليات الإجرائية التي كانت قائمة من قبل.

فإذا كانت أي ثورة صناعية لا بد أن تقوم على تحولات ثلاثة كبرى مترابطة هي اكتشاف مصدر جديد للطاقة ووسائل اتصال جديدة ومنظومة اقتصادية جديدة، فإن الثورة الحالية لا تقل أهمية عن الثورة الصناعية الأولى التي ارتبطت في القرن الثامن عشر باكتشاف الآلة البخارية وما واكبها من ظهور المطبعة ونشوء المصنع، كما لا تقل أهمية عن الثورة الصناعية الثانية التي ارتبطت في نهاية القرن التاسع عشر باكتشاف الكهرباء وما واكبه من بروز تقنيات اتصالية كبرى كالبرق والهاتف والإذاعة والسيارة والطائرة، بما كان له من أثر اقتصادي تجلّى في قيام الشركات الدولية العابرة للحدود.

الثورة الصناعية الجديدة هي التي حملها الارتباط العضوي بين مصادر الطاقة الجديدة (الطاقات المتجددة)، وقيام الشبكات الافتراضية التبادلية المتزامنة (نظام الويب) التي هي الخلفية المباشرة للاقتصاد التعاوني القائم على تبادل الثروات والخدمات والمعارف ما بين أشخاص مترابطين عبر تطبيقات إلكترونية مفتوحة وناجعة.

في الاقتصاد التعاوني الجديد ينتقل مفهوم السوق من المجال المكاني المحدد إلى الفضاء الشبكي غير المتناهي، وتغدو الأولوية للنفاذ للثروة بدلاً من امتلاكها، ويتغير مفهوم العمل من التشغيل الوظيفي إلى التوظيف الذاتي كما تتغير زمنية الشغل وتتبدل معايير تعويضه.

بيد أن هذه التحولات لا تعني كما تذهب إلى ذلك بعض الدراسات المستقبلية الطوباوية نهاية العصر الرأسمالي وقيام المجتمع التشاركي المتضامن، بل إن «فيري» يرى أن الاقتصاد التعاوني الجديد وإن كانت له انعكاساته الاجتماعية الإيجابية، فإنه يشكل بداية عصر جديد من الرأسمالية الشاملة الخارجة عن كل ضوابط التحكم والتنظيم التي وضعتها الدولة السيادية المركزية منذ ثلاثينيات القرن العشرين.

إن ما نشهده حسب عبارة «فيري» هو تعميم مفهوم السلعة التجارية إلى الممتلكات الشخصية التي تغدو مدار عرض وتبادل وفق تطبيقات متقاسمة مباشرة بين الأفراد، كما هو جلي اليوم في تطبيقات خدمات النقل (نظام أوبير وأشباهه) وخدمات السكن وغيرها من المجالات التي سيتمدد الاتجاه التعاوني إليها.

صحيح أن الثورة الصناعية الجديدة لا تزال في بدايتها في عموم البلدان العربية، بيد أن السبب الأساسي للأزمات الاجتماعية المتفاقمة في هذه البلدان ناتج عن مصاعب التأقلم مع المحددات التقنية الاقتصادية الجديدة والعجز عن الاستفادة من الإمكانات الثرية التي أفرزتها في مستوى سوق العمل والخدمات الفردية ونظام تبادل المعلومات والمعارف وشكل النظام التربوي.

ومن هذا المنظور لن يجدي الضغط الشعبي المتزايد على السلطة العمومية في إنقاذ الاقتصاد المتداعي، فالقطاع الحكومي في جل البلدان العربية متآكل ومنهار ونسب البطالة تتزايد بشكل مريع والإمكانات الريعية (العائدات النفطية والمعدنية والعون الخارجي) لم تعد قادرة على تأمين الحزام الإدماجي الأدنى للدولة.

ولا مناص، لذلك كله، من تهيئة الانتقال إلى الثورة الصناعية الثانية والآفاق الجديدة التي تدشنها اقتصادياً ومعرفياً، لإخراج العالم العربي من المأزق الراهن، بما يقتضي إعادة بلورة السياسات الاقتصادية والمجتمعية التقليدية التي لم تعد ناجعة ولا فاعلة.

*نقلا عن صحيفة الاتحاد