قوبل سقوط نظام الأسد وما أسفر عنه من تزايد حظوظ انتهاء الصراع المستمر في سوريا منذ 14 عاماً، بترحيب كبير من قبل الحكومات الأوروبية، بقدر ما آثار أيضاً من جدل لدى دول أوروبية أخرى حول مسألة عودة اللاجئين السوريين لوطنهم. ففي دولة مثل ألمانيا، انقسمت آراء السياسيين بين مؤيد ومعارض لتشجيع العودة الطوعية اللاجئين. وتشجع بعض التيارات السياسية وجماعات المصالح ضرورة الحفاظ على فئات من المهنيين السوريين داخل ألمانيا، ولاسيما أولئك الذين يعملون بالوظائف التي تعاني من نقص شديد في العمالة المحلية كالمهن الطبية. ورغم أن عدد الأطباء السوريين في ألمانيا يشكل حصة لا تزيد عن 1% من إجمالي أعداد الأطباء في كامل ألمانيا؛ إلا أن تدفق السوريين من أصحاب المهارات العالية إلى نظام الرعاية الصحية، ساعد على سد فجوات نقص العديد من التخصصات الطبية في بعض الولايات الألمانية؛ الأمر الذي يعني أن عودة جزء منهم لوطنهم، سيكبد نظام الرعاية الصحية الألماني تكاليف إضافية في المدى المنظور.
الأهمية النسبية:
منذ عام 2011 وحتى سقوط نظام بشار الأسد، كانت ألمانيا وجهة رئيسية للاجئين السوريين، وارتفعت أعداد المسجلين منهم لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في ألمانيا إلى نحو 716700 شخص بنهاية عام 2024، ويقل هذا التقدير عن العدد الكلي للسوريين الموجودين في ألمانيا والمقدر بنحو مليون شخص وفق الحكومة الألمانية. ويعمل معظم أولئك في مهن حرفية واجتماعية وغيرها في ألمانيا، وبعضها مثل المهن الطبية، تعاني من نقص واضح في العمالة والمهارات داخل سوق العمل الألمانية.
ويشكل الأطباء السوريون رقماً مهماً في النظام الرعاية الصحية الألماني، فبنهاية عام 2024، كان هناك أكثر من 6 آلاف طبيب سوري يعملون في ألمانيا، بحصة تقارب 9.6% من إجمالي عدد الأطباء الأجانب في البلاد، والذين ينحدرون من دول أخرى مثل تركيا والنمسا ورومانيا وغيرها، طبقاً لبيانات غرفة الأطباء الاتحادية في ألمانيا. بالإضافة إلى فئة الأطباء، يعمل 2157 سورياً آخر في قطاع الصحة والتمريض؛ مما يزيد من أهمية السوريين كركيزة لاستقرار القطاع الصحي الألماني.
ومن منظور أوسع، يقدر المعهد الاقتصادي الألماني أن العديد من السوريين يعملون في خمس فئات مهنية لديها نقص واضح في العمال المهرة داخل ألمانيا. وتشمل هذه المهن مساعدي طب الأسنان، والصحة والتمريض، ورعاية الأطفال والتعليم، والعمل الاجتماعي والتربية الاجتماعية، ورعاية كبار السن.
تجاذبات مختلفة:
حتى الآن، لا يزال موقف الساسة الألمان من عودة اللاجئين السوريين غير محسوم، فبعض التيارات السياسية اليمينية ترحب بضرورة إسراع الحكومة الألمانية في إقرار البرامج الرامية لدعم عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، ويبرر أولئك هذا الموقف بأن سوريا باتت أكثر أماناً واستقراراً، بعد انتهاء أسباب الصراع والعنف الذي دام أكثر من عقد كامل. بل اقترحت بعض الأحزاب اليمينية تقديم الحكومة الألمانية حوافز مالية سخية للسوريين لتشجيعهم للعودة لسوريا. بينما هناك تيارات سياسية أخرى ترى من الأهمية بمكان تشجيع بقاء السوريين في ألمانيا للحفاظ على استقرار سوق العمل المحلي، ولاسيما أولئك الذين يعملون بالمهن التي تعاني من نقص في العمالة.
جدير بالذكر أن الحكومة الألمانية أقرت برنامجاً ) في عام 1989، تحت اسم (الإعادة إلى الوطن بمساعدة الحكومة، وهو يمنح طالبي اللجوء أو من رُفضت طلبات لجوئهم وفئات أخرى، مساعدات مالية لتشجيعهم على العودة إلى بلادهم، ويشمل ذلك تغطية تكاليف السفر، بالإضافة إلى حوافز لمساعدتهم على إعادة التكيف في بلدانهم الأصلية بعد العودة، وتسهيل إعادة اندماجهم في أسواق العمل المحلية.
مع بداية سقوط نظام بشار، شكك بعض أعضاء الحكومة الألمانية في قدرة سوق العمل الألمانية على التعامل مع تداعيات رحيل السوريين خاصة من أصحاب المهن الطبية، فيما يُعد سياسة براغماتية من قبلها في التعامل مع قضية لجوء السوريين في البلاد. يأتي ذلك رغم إشارة لاحقة لوزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر تقر فيها بضرورة إعادة تقييم إقامة بعض اللاجئين السوريين في ألمانيا. ولعل حسم تلك المواقف المتباينة بشأن هذه القضية، سيظل معلقاً لحين إجراء الانتخابات البرلمانية في فبراير المقبل وتشكيل الحكومة الألمانية الجديدة.
على جانب آخر، لعل لدى بعض السوريين- وليس جميعهم- أنفسهم، حتى المهنيين منهم، حوافز شخصية ومهنية ووطنية للعودة الطوعية إلى سوريا أو حتى الهجرة لبلدان أخرى. فعلى المستوى الشخصي، يشكل الحنين إلى الوطن والرغبة الملحة في لم الشمل الأسري أحد الدوافع الرئيسية للمهنيين أو باقي السوريين للعودة للوطن. كما تعزز التحديات التي يواجهها بعض السوريين في ألمانيا، مثل صعوبات الاندماج الاجتماعي والثقافي وضغط العمل المرتفع وارتفاع تكاليف المعيشة فرص العودة لسوريا كخيار آخر.
إضافة إلى السابق، يمثل الشعور بالمسؤولية الوطنية دافعاً قوياً لدى السوريين، حيث يتطلع العديد من الخبراء والمهنيين السوريين (بما في ذلك الأطباء) للمشاركة في إعادة إعمار وطنهم وتحسين مستوى الخدمات فيه، ويرتفع زخم هذه الشعور كلما تحسنت الأوضاع الأمنية والاقتصادية في سوريا. سيوفر بلاشك استقرار الأوضاع في الداخل السوري للأطباء الفرصة للمساهمة في إعادة بناء النظام الصحي، الذي يعاني من نقص حاد في الكوادر، والاستفادة من خبراتهم المكتسبة في ألمانيا لتعزيز جودة الرعاية الصحية.
سيناريو المغادرة:
بين الدوافع الذاتية للعودة لسوريا أو الحوافز الحكومية لتكريس هذا الخيار، من المحتمل أن تنشأ انعكاسات سلبية لرحيل الأطباء السوريين من ألمانيا على النظام الصحي في البلاد. كما ذكرنا آنفاً، تعتمد ألمانيا بشكل كبير على الأطباء السوريين في العديد من المستشفيات والمراكز الصحية، خاصة بالمناطق التي كانت تعاني من نقص في الكوادر الطبية قبل وصول اللاجئين إليها كولاية ساكسونيا أنهالت مثلاً؛ وهو ما أسهم في سد الفجوات الكبيرة في التخصصات الطبية المختلفة مثل الطب العام والجراحة والطب الباطني وطب الطوارئ وغيرها.
من ثم، سيؤدي سيناريو مغادرة الأطباء السوريين ألمانيا إلى تفاقم النقص الحاد في العمالة الماهرة بالقطاع الصحي في ألمانيا خاصة الموجود ببعض المناطق الريفية، علماً بأن هناك بالأصل نحو 200 ألف وظيفة شاغرة في القطاع الصحي وفق تقديرات وزارة الصحة الألمانية.
وسيتطلب تعويض أولئك المغادرين توظيف أطباء -أجانب- جدد، والذين سيحتاجون بالطبع إلى مزيد من التدريب والتأهيل للاندماج في النظام الصحي الألماني؛ مما يتطلب وقتاً وأموالاً إضافية. وقد تضطر المستشفيات إلى دفع رواتب أعلى لجذب الأطباء المحليين للعمل في المناطق التي تعاني من نقص حاد؛ مما يرفع التكاليف الكلية لتشغيل بعض المرافق الطبية في ألمانيا.
مسارات التحرك:
إزاء الإجابة عن سؤال كيف ستتعامل الحكومة الألمانية مع سيناريو مغادرة الأطباء السوريين؟ سنتطرق لأمرين رئيسيين وهما، التدابير الحكومية المحتملة للإبقاء على الأطباء السوريين داخل سوق العمل الألمانية، ونهج الحكومة الألمانية العام لسد فجوة نقص الأطباء.
تظل العودة الطوعية لتيار من المهنيين السوريين (بما فيهم الأطباء) احتمالاً وارداً؛ لذا على الأرجح أن تتخذ الحكومة الألمانية تدابير وقائية لتشجيع الأطباء السوريين من ذوي المهارات العالية على البقاء في ألمانيا، يشمل ذلك تسهيل إجراءات الإقامة، وتحسين ظروف العمل للأطباء الأجانب عامة من خلال زيادة الرواتب وخلق بيئة عمل جاذبة لهم خصوصاً بالمناطق الريفية التي تعاني من نقص الكوادر الطبية.
ومن المحتمل أن يكون الأطباء السوريون الموجودون في ألمانيا حلقة وصل للتعاون في القطاع الصحي بين ألمانيا وسوريا في وقت قريب، حيث ستشجع الحكومة الألمانية جهودهم لتبادل المعرفة والخبرات الطبية مع سوريا وتحسين قدرات النظام الصحي السوري من خلال نقل أحدث الأساليب العلاجية والبحثية. وقد يضمن هذا المدخل الاستثنائي الإبقاء على الأطباء السوريين -وغيرهم من المهنيين- داخل سوق العمل الألمانية، مع مد الروابط وتعزيز أواصر التعاون مع وطنهم في الوقت نفسه.
ولتعويض أي نقص محتمل في كوادر الأطباء، قد توقع الحكومة الألمانية المزيد من الاتفاقيات مع الدول التي تمتلك فائضاً في الكوادر الطبية لتشجيعهم على العمل في ألمانيا، في الوقت ذاته، تسعى الحكومة الألمانية في الأمد الطويل لتوسيع القاعدة الطبية المحلية من خلال زيادة أعداد الطلاب الألمان الملتحقين بكليات الطب وتقديم حوافز مالية لهم لتشجيعهم على اختيار هذا المجال.
يُعد الاستثمار في الحلول التكنولوجية المتقدمة أحد الحلول الأخرى التي تسعى ألمانيا للتوسع بها، لسد نقص الكوادر الطبية خصوصاً بالمناطق الريفية. ويشمل ذلك استخدام الأتمتة والذكاء الاصطناعي والتطبيب عن بعد، وغيرها من التقنيات التي تساعد على تحليل البيانات الطبية ومتابعة الحالات الصحية. فقد أقر البرلمان الألماني قانون الرعاية الرقمية (Digitale-Versorgung-Gesetz) في عام 2019؛ وهو ما من شأنه أن يفتح آفاقاً واعدة لسوق الصحة الرقمية في ألمانيا، حيث من المتوقع أن ترتفع قيمتها مرتين ونصف تقريباً من 9.8 مليار دولار في عام 2024 إلى 25.8 مليار دولار بحلول عام 2033، طبقاً لتقديرات (custommarketinsights).
في الختام، سيواجه نظام الرعاية الصحية الألماني تحدياً رئيسياً إذا ما غادر السوريو، أو غيرهم من الأجانب من أصحاب المهارات العالية سوق العمل الألمانية؛ ولعل هذا ما سيدفع الحكومة الألمانية لاتباع سياسة براغماتية انتقائية بشأن مسألة عودة اللاجئين السوريين، والتي ستحرص في كل الأحوال على الدفع بسياسات عامة تهدف للإبقاء على أصحاب المواهب والمهارات العالية من السوريين وغيرهم من الجنسيات الأجنبية الأخرى.