استضافت مدينة قازان الروسية فعاليات القمّة الرئاسية السادسة عشرة لتجمع "البريكس"، خلال الفترة من 22 إلى 24 أكتوبر 2024، تحت شعار "تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين"، وذلك بمشاركة أعضاء التكتل وعدد من الدول الأخرى وممثلي المنظمات الدولية والأممية.
أهمية مُتزايدة:
شهدت القمّة السادسة عشرة للتكتل العديد من الديناميكيات والفعاليات، والتي يمكن إيجازها على النحو التالي:
1. استمرار طلبات الانضمام للتجمع: بات التجمع يمثل نحو 36.7% من الاقتصاد العالمي في عام 2024، وهو ما يزيد على حصة دول مجموعة السبع، والتي بلغت 30% في عام 2023، وأبدت العديد من الدول رغبتها في الانضمام، وأبرزها تركيا التي تقدمت خلال شهر سبتمبر 2024، بطلب رسمي للانضمام، كما تقدمت دول مثل: أذربيجان وبيلاروسيا للانضمام للتجمع، بالإضافة إلى كازاخستان لكنها اختارت الامتناع عن الانضمام إلى التحالف، وهو القرار الذي تعهد الكرملين باحترامه، ورغم ذلك شارك الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف بالقمة، وكذلك الحال بالنسبة لصربيا التي شارك رئيسها ألكسندر فوتشيتش بالرغم من عدم حسمها الانضمام للمجموعة بعد.
2. مُشاركة واسعة من قادة الدول: شاركت 38 دولة في قمة تجمع "البريكس" التي عقدت بمدينة قازان الروسية، وقد كانت أغلب المشاركات على مستوى القادة والزعماء؛ وجاءت المشاركات بشكل أساسي من رؤساء الدول الأعضاء بالتكتل، وهم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، والرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ورئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ووزير الخارجية البرازيلي ماورو فييرا، هذا إلى جانب مشاركة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ومشاركة بعض زعماء الدول التي أبدت اهتماماً بالتكتل، بما في ذلك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الفيتنامي فام مينه شينه. وشاركت المملكة العربية السعودية بوفد رفيع المستوى يترأسه وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، باعتبارها دولة مدعوة للانضمام للمجموعة، وليست عضواً كامل العضوية كما هو الحال للدول المنضمة حديثاً بداية العام 2024.
3. التركيز على الموضوعات الدولية: كان الاهتمام الرئيس لأجندة تلك القمّة منصباً حول حوكمة النظام العالمي ومُؤسساته خصوصاً المؤسسات المالية التي باتت تضر بالدول النامية وتميل لتحقيق مصالح القوى الغربية وحدها؛ وما تتسبب فيه العقوبات الغربية من ضرر بالغ للاقتصاد وتعارضها مع قيم العولمة، فضلاً عن التطرق للقضايا الدولية والإقليمية المُتأجّجة مثل الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط.
كما تم تبادل وجهات النظر بشأن التعاون بين دول مجموعة "البريكس" على الساحة الدولية، بما في ذلك ما يخص حلّ النزاعات الإقليمية الجارية. وكان موضوعاً على الأجندة مُناقشة ما خلصت إليه القمة السابقة في جوهانسبرغ، خاصة تعميق التعاون المالي داخل المجموعة، ومُناقشة توسيع نطاق المجموعة وضمّ الأعضاء الجدد في ظل إعراب أكثر من 30 دولة عن الرغبة في الانضمام.
4. عقد لقاءات عديدة على هامش القمّة: جرى على هامش القمة؛ عدد من اللقاءات بين المشاركين، لعل أبرزها عقد لقاء مباشر بين الرئيس الصيني ونظيره الهندي للمرة الأولى، وجاء ذلك بُعيد توصل البلدان لاتفاق بشأن تسيير دوريات على الحدود المتنازع عليها في جبال الهيمالايا، بعد أربع سنوات من المواجهة العسكرية التي أدت إلى تصعيد التوترات بين البلدين.
كما أجرى بوتين باعتباره الرئيس المُضيف لقاءات ثنائية مع كل المشاركين من الدول الأعضاء، وكذلك رؤساء الدول المدعوة مثل: الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورئيس لاوس ثونغلون سيسوليث، والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، والرئيس البوليفي لويس آرسي.
5. تقديم موسكو مُقترحات تعاونية: قدمت روسيا بعض المقترحات خلال رئاستها للتكتل، من بينها استحداث آلية لتبادل المعلومات عبر الإنترنت لحل النزاعات المُتعلقة بالتجارة الإلكترونية؛ بهدف إنشاء إطار استباقي قبل التقاضي، ومُبادرة لإنشاء مركز التحكيم الاستثماري لمجموعة "البريكس"، وتطوير اتفاقية لتسوية النزاعات الاستثمارية، واقترحت أيضاً إنشاء بورصة حبوب مجموعة "البريكس"، والتي من شأنها أن تساعد على اكتشاف أسعار عادلة وقابلة للتنبؤ بالنسبة للمنتجات والمواد الخام؛ لضمان الأمن الغذائي وحماية الأسواق الوطنية من التدخلات الخارجية الضارة، والمضاربات، ومحاولات خلق نقص مصطنع في الغذاء. على أن يتم على المدى البعيد تحويل بورصة الحبوب إلى بورصة سلعية تعمل بكامل طاقتها.
توطيد التعاون:
خلصت تلك القمة إلى عدد من المخرجات والنتائج، وتمت بلورة إعلان قازان باعتباره البيان الختامي للقمة، ونشير فيما يلي لأبرز تلك المخرجات:
1. التعاون المالي والنقدي: من خلال المضي قدماً نحو تأسيس بنية تحتية مُستقلة لتنظيم تسوية المدفوعات والتعاملات المالية عبر الحدود (BRICS Clear)، مع تركيز آلية التعاون بين البنوك في مجموعة "البريكس" BRICS Interbank Cooperation Mechanism (ICM) على تسهيل وتوسيع الممارسات والأساليب المالية المُبتكرة للمشروعات والبرامج، بما في ذلك إيجاد آليات مقبولة للتمويل بالعملات المحلية. مع دراسة إنشاء منصة نقل مُوحّدة لضمان الخدمات اللوجستية مُتعددة الوسائط بين دول الرابطة، والترحيب بإنشاء منصة استثمارية جديدة تستخدم البنية التحتية لبنك التنمية الجديد.
2. حوكمة النظام العالمي: من خلال إقرار تأييد الدعوة التي أطلقتها مجموعة العشرين خلال ترؤس البرازيل للمجموعة بشأن إصلاح الحوكمة العالمية، مع تأييد الحوارات والشراكات التي تعزز التعاون مع القارة الإفريقية مثل قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي، وقمّة مُنتدى الهند وإفريقيا، وقمّة روسيا وإفريقيا، مع العمل على البناء على مخرجات إعلان جوهانسبرغ الثاني لعام 2023، ودعم الدعوة للإصلاح الشامل للأمم المتحدة، بما في ذلك مجلس الأمن التابع لها؛ بهدف جعله أكثر ديمقراطية وتمثيلاً وفعالية وكفاءة، وزيادة تمثيل البلدان النامية في عضوية المجلس حتى يتمكن من الاستجابة بشكل مُناسب للتحديات العالمية السائدة، ودعم التطلعات المشروعة للبلدان الناشئة والنامية من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
3. تأييد الموقف الفلسطيني: أكّد التكتل الأهمية العاجلة لإطلاق عملية سياسية شاملة لمعالجة مشكلة الشرق الأوسط برمتها، ووقف العنف وتوفير المساعدات الحيوية للمتضررين، والعمل على إقامة حلّ الدولتين وإصلاح الظلم التاريخي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني، وهو ما يُعد الضمان الوحيد لإرساء السلام في الشرق الأوسط، مع دعم انضمام فلسطين للتكتل كدولة عضو.
4. تعزيز الأمن النووي: تدعو دول التكتل إلى تعزيز نظام منع الانتشار النووي وأن تكون منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية، مع التشديد على ضرورة تجديد جميع الأطراف للاتفاق النووي الإيراني. كما تم الإعلان عن دعم مُبادرة تأسيس مركز للبحث وتطوير اللقاحات، وكذلك مواصلة تطوير نظام الإنذار المبكر المتكامل لمجموعة "البريكس" للوقاية من مخاطر الأمراض والأوبئة.
5. الدعوة لحل سلمي للأزمة الأوكرانية: تعهّد أعضاء المجموعة بضرورة الحل السلمي للأزمة في أوكرانيا، مؤكدين أهمية اللجوء للحوار والسبل الدبلوماسية.
دلالات مُرتبطة:
تحمل القمة وديناميكيتها ومخرجاتها العديد من الدلالات وقد يترتب عليها بعض التداعيات، وهو ما يمكن تبيانه على النحو التالي:
1. محاولة كسر عزلة بوتين: نجاح الدبلوماسية الروسية والكرملين في استضافة تلك القمة في هذا التوقيت وحشد المشاركة الدولية الواسعة بمن في ذلك الأمين العام للأمم المتحدة يمثل تحدياً للمساعي الغربية في تمثيل بوتين باعتباره قائداً معزولاً خاضعاً للعقوبات الغربية ومُهدداً بالاعتقال، بموجب حكم المحكمة الجنائية الدولية؛ إذ أثبتت روسيا مدى مرونة وحيوية شراكاتها الإقليمية والدولية باعتبارها نظاماً يحظى بالقبول والثقة الدولية.
2. مُوازنة تركيا بين الغرب والشرق: لعل المشاركة التركية قد أثارت الكثير من ردود الفعل؛ نظراً لأنها صاحبة الجيش الأكبر في صفوف "الناتو" المعادي لروسيا، إلا أن ذلك يأتي امتداداً لتوجهها المتوازن في سياستها الخارجية من أجل تنويع التحالفات مع الحفاظ على العلاقات مع الغرب، كما أنها تعكس التململ التركي من السياسة الأوروبية بشأن حصول أنقرة على عضوية الاتحاد الأوروبي، ومن شأن الانضمام التركي لتجمع "البريكس" أن يحقق مكاسب استراتيجية للمجموعة؛ إذ سيضفي عليها طابعاً متوازناً بدلاً من النظر للمجموعة باعتبارها معادية للغرب، وسيحقق ذلك مكاسب لتركيا التي سوف تستفيد من مرونة علاقتها مع كل من الشرق والغرب في الوقت ذاته وخصوصاً علاقتها بالولايات المتحدة للحيلولة دون عرقلة صفقة طائرات F-16 المأمولة.
3. صعوبة إلغاء الدولرة: ثمّة قدر من المبالغة في تصور إمكانية إلغاء مكانة الدولار في النظام العالمي والمضي قدماً نحو نزع الدولرة عن الاقتصاد العالمي؛ إذ إن ما أُثير بشأن الرمزية التي استخدمها بوتين خلال القمة بشأن عملة مُوحّدة للتكتل لم يلق قبولاً من بعض أعضاء التكتل أنفسهم، ممن يخشون التماهي مع التوجه الروسي الصيني على حساب مصالحهم وعلاقتهم بالغرب، وفي مقدمتهم الهند والبرازيل.
4. إرهاصات التحوّل لعالم مُتعدد الأقطاب: لا يمكن إغفال ما يعكسه الاهتمام من قبل دول الجنوب بالمشاركة في فعاليات قمّة "البريكس" وكذا القوى الدولية الصاعدة، وما يمثله من توجه لدى تلك الدول للتعبير عن رغبتها في حلحلة توازنات القوى في النظام العالمي، والتعبير عن الاستياء من النظام السائد المهيمن عليه من طرف الغرب والولايات المتحدة، ويعكس ذلك الاهتمام كذلك نجاح مساعي الصين وروسيا في تأليب المجتمع الدولي ضد النظام الغربي لما يتسم به من ازدواجية في المعايير خصوصاً بعد اتضاح الهشاشة في منظمات المجتمع الدولي المنوط بها تحقيق قواعد القانون الدولي فيما يتعلق بالحرب في الشرق الأوسط، فضلاً عن كشفهم العوار في قواعد التجارة الدولية ونظام "سويفت" وأطر العقوبات الاقتصادية التي تلحق الضرر باقتصادات دول الجنوب لصالح الغرب.
وفي التقدير، لا يمكن إغفال أهمية التطور الذي تمثله مجموعة "البريكس" وما تعكسه من تحول حثيث في النظام العالمي، في إطار ما تضمّه من اقتصاد وأسواق وموارد طبيعية وتصنيعية وكتلة بشرية مهولة، لكن المبالغة في تقدير تأثير تحركات المجموعة يحيد عن الواقع، خاصة بالنظر إلى أن المجموعة تحمل في طياتها العديد من التناقضات التي تحول دون تحرك المجموعة بفاعلية، وفي ظل تباين مصالح وأهداف أعضائها أنفسهم، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من طبيعة مخرجات القمة الرئاسية، والتي تقتصر على الإعلانات والتصورات بشأن مشروعات تعاونية عامة دون وجود برامج زمنية وخطط تنفيذ واقعية للعديد منها؛ فإن فعالية التجمع تظل موضعاً للتساؤل.