شهدت البشرية تطورات سريعة ومتلاحقة بحثاً عن تلبية احتياجات الإنسان اللانهائية، وقد استدعى الأمر حدوث ثورات اقتصادية صناعية في تاريخ الإنتاج البشري، بدأت بالثورة الصناعية الأولى في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وما نتج عنها من زيادة في الإنتاج، مروراً بالثورة الصناعية الثانية واكتشاف الكهرباء في نهاية القرن التاسع عشر وسيادة البترول كمصدر للطاقة، ثم الثورة الصناعية الثالثة في النصف الثاني من القرن العشرين وظهور الإنترنت والطفرة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وحالياً الثورة الصناعية الرابعة وسيادة أنظمة الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والنانو تكنولوجي، والثورة الصناعية الخامسة والتي من المتوقع أن تهتم باستدامة الموارد وأن تعمل على تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
تُعد مشكلة استنزاف الموارد الطبيعية وعدم الرشد في استخدامها إحدى أكبر المشكلات التي تواجه البشرية، فالاستخدام المبالغ فيه لهذه الموارد من دون الأخذ في الاعتبار حاجات الأجيال القادمة من ناحية، والندرة النسبية لهذه الموارد من ناحية أخرى قد فاقم المشكلة، ولعل التزايد المتسارع لحاجات البشر والزيادة السكانية العالمية المطردة يهددان هذه الموارد بالنضوب مع مرور الوقت، وباستشراف المستقبل ستتفاقم المشكلة. فمن المتوقع أن يصل عدد السكان بحلول عام 2050 إلى 15 مليار نسمة، الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقم مشكلة الندرة النسبية الشديدة بالمقارنة مع التزايد الشديد في الحاجات الإنسانية، وتتوقع الدراسات الاقتصادية نضوبها إذا ما لم نقم بإجراء تغيير جذري في نمط الاستهلاك من جهة، والابتكار في الحلول الإنتاجية وسبل الإنتاج من جهة أخرى.
النظام الاقتصادي الخطي:
لعل من أبرز مسببات هدر واستنزاف الموارد الاعتماد على نظام الاقتصاد الخطي "Linear Economy"، وهو النظام الذي ساد في السنوات الماضية، وتبنته كافة الدول، وساعدت النظم الرأسمالية في تعزيزه، وهو نظام يرتكز إلى زيادة الإنتاج بمعيار معدل النمو الاقتصادي فقط لا غير، بحيث يعتمد النظام على استخراج الموارد لإنتاج المنتجات المختلفة واستخدامها ثم التخلص منها لتصير نفايات، لذا فهو نظام قائم على ثلاثة مبادئ رئيسية: (الأخذ والصٌنع والتخلص).
على الجانب الآخر، اعتمد هذا النظام على أساليب إنتاج شديدة التلوث، وعلى استخدام مصادر الطاقة غير المتجددة التي تولد انبعاثات غازات ثاني أوكسيد الكاربون، فضلاً عن التطورات التكنولوجية المتسارعة وما خلفته من مخلفات ضارة أثرت في التوازن البيئي والتنوع البيولوجي.
ومع استمرارية استنزاف الموارد خلال الخمسين سنة الماضية، واتساع الفجوة بين المعروض من الموارد والطلب عليها كان لا بد من البحث عن نموذج اقتصادي بديل يعمل على استدامة الموارد الطبيعية والحفاظ على الكائنات الحية، ويعتمد على مصادر الطاقة المتجددة، ويعمل على تقليل النفايات والتخلص منها بصورة آمنة، وهو نظام الاقتصاد الدائري "Circular economy" الذي صار في دائرة الاهتمام الدولية وارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنمية المستدامة حيث اهتمت به منظمة الأمم المتحدة في وضعها أهداف ومعايير لتحقيقها بحلول عام 2030.
ما هو الاقتصاد الدائري؟
يُعد مفهوم الاقتصاد الدائري مفهوماً حديثاً نسبياً للعالم عامة، وأكثر حداثة للدول النامية والناشئة بصفة خاصة. وبدأ الاهتمام بالاقتصاد الدائري منذ سبعينيات القرن الماضي، وأول دولة نادت به كانت سويسرا وذلك على يد المعماري وارتل ستيهل، الذي وضع أساس الاقتصاد الدائري عام 1976. ويوجد لهذا المفهوم العديد من التعريفات، حيث انشغل الاقتصاديون وعلماء البيئة بوضع تعريف محدد له، فهناك من عرفه على أنه اقتصاد قائم على إدارة النفايات وإعادة تدويرها، وبعض التعريفات ارتكزت على كونه يهدف إلى تقليل المهدر من السلع والطاقة والاستفادة منها، وآخرين عرفوه على أنه نمط اقتصادي يسهم في تعظيم الاستفادة من كافة الموارد والمعادن والطاقة. ويعرفه البنك الدولي بأنه: "إعادة تصميم المستقبل، حيث تعمل كافة الأنظمة الاقتصادية على ترميم وتجديد كافة المنتجات المصنعة بحيث لا يكون هناك أي مجال للهدر أو توليد مخلفات من المنتجات الصناعية".
ومما سبق نستنتج أن مفهوم الاقتصاد الدائري يرتكز إلى مجموعة من النقاط أهمها، ترشيد السلوكيات الاستهلاكية، وإعادة استخدام كافة المنتجات من خلال تدويرها أو إصلاحها أو تجديدها، وتقليل المخلفات والتخلص منها بصورة آمنة، والحفاظ على البيئة وإطالة عمر الموارد الطبيعية.
في هذا الإطار يعتمد الاقتصاد الدائري على ثلاثة مبادئ أساسية:
أ. القضاء على النفايات والتلوث: ترتكز عمليات الإنتاج من خلال نظام الاقتصاد الخطي على استخدام موارد ومواد خام من الأرض ثم استخدامها في الإنتاج والتخلص منها في شكل نفايات لينتهي بها المطاف في مدافن القمامة أو المحارق، ومن ثم هدر هذه الموارد، وهو ما يهدف نموذج الاقتصاد الدائري إلى القضاء عليه من خلال إعادة تدوير هذه الموارد.
ب. تجديد الطبيعة: من خلال الانتقال من الاقتصاد الخطي الذي يعتمد على "الأخذ وصنع النفايات" إلى الاقتصاد الدائري، فإننا ندعم العمليات الطبيعية ونترك مجالاً أكبر لازدهار الطبيعة بحيث ننتقل من "الاستخراج" إلى "التجديد"!
ج. تعميم المنتجات والمواد (بأعلى قيمة لها): وهذا يعني إبقاء المواد قيد الاستخدام، إما كمنتج، أو كمكونات، أو مواد خام، مما يعني الحفاظ على المورد من الهدر، وكذلك الحفاظ على القيمة الجوهرية للمنتجات والمواد. ويوضح الشكل رقم 1 لمخطط النظام الاقتصاد الدائري، المعروف باسم مخطط الفراشة، التدفق المستمر للمواد في الاقتصاد الدائري، وذلك بوجود دورتين رئيسيتين هما: الدورة التقنية والدورة البيولوجية.
فعلى الجانب الأيمن توجد الدورة التقنية، ذات الصلة بالمنتجات التي يتم استخدامها بدلاً من استهلاكها. وعلى الجانب الأيسر توجد الدورة البيولوجية، وتوضح المواد التي يمكن أن تتحلل بيولوجياً وتعود بأمان إلى الأرض. وتتعلق هذه الدورة بشكل أساسي بالمنتجات التي يتم استهلاكها، مثل الطعام. ومع ذلك، فإن بعض المواد الأخرى القابلة للتحلل الحيوي قد تشق طريقها في النهاية من الدورة التقنية إلى الدورة البيولوجية بمجرد تدهورها إلى نقطة لا يمكن استخدامها لصنع منتجات جديدة.
ومن ثم فإن الاقتصاد الدائري يرتكز على مجموعة من الأبعاد الأساسية وهي:
•تحويل الاقتصاد الاستهلاكي إلى اقتصاد خدمات: من خلال تعظيم استخدام التكنولوجيا لخلق منتجات تتم فيها إعادة استخدام المواد وإعادة تدويرها وإعادة تصنيعها، والتوجه نحو سياسة التشارك بدلاً من سياسة الامتلاك من خلال تحويل الملكية من مستهلك إلى منتج.
• تحقيق وفورات خارجية: التحول إلى الاقتصاد الدائري والانتقال من النظم الإنتاجية الخطية لمعالجة مشكلات التلوث البيئي مثل دفن المخلفات الصناعية في المدافن الصحية إلى نظم الإنتاج الأنظف القائم على تتبع مسار تدفق المخلفات الصناعية منذ بداية استخراجها وحتى التخلص النهائي منها وتبادل المخلفات الصناعية في إطار نظام صناعي تفاعلي يقترب من النظام البيئي الطبيعي قادر على التغلب على الوفورات الخارجية السالبة.
• تحويل النفايات لمورد اقتصادي: حيث يساعد نموذج الاقتصاد الدائري على تقليل استخدام الموارد إلى أدنى حد ممكن وتقليل الحاجة من مدخلات جديدة من المواد والطاقة، مما يقلل من الضغط البيئي المرتبط بدورة حياة المنتجات.
ومما سبق يتضح أن الاقتصاد الدائري قد يكون له العديد من الفوائد على الموارد والاقتصاد العالمي حيث يستطيع هذا النظام توفير مصادر إيرادات جديدة من خلال تقديم نماذج أعمال جديدة، وتحسين كفاءة الموارد وفعاليتها من خلال تقليل المخلفات بالهدر في عمليات التصنيع وإعادة استخدام وتدوير الخردة والمخلفات، وكذلك يتميز الاقتصاد الدائري بالابتكار في المنتجات والخدمات حيث يدعم صناعة المنتجات التي يسهل إصلاحها وإعادة تدويرها، وكذلك تقليل استهلاك الطاقة والمرافق بالترشيد في استخدام الموارد والتركيز على الأجهزة التي توفر الطاقة، ويعزز الاقتصاد الدائري أيضاً الارتقاء بسمعة وقيمة العلامات التجارية من خلال المواءمة والتوافق مع القضايا المتعلقة بالاستدامة والبيئة.
الاقتصاد الدائري للكربون:
على صعيد آخر جاء مفهوم "الاقتصاد الدائري للكربون" كامتداد لمفهوم الاقتصاد الدائري، ويُعد أهم الاتجاهات الحديثة لإدارة الانبعاثات الكربونية، حيث يهدف هذا النظام إلى تقليل الانبعاثات وإعادة تدويرها بحيث يعمل على تحقيق توازن كربوني أو انبعاثات صافية كربونية صفرية من خلال استهداف الانبعاثات الكربونية من القطاعات الاقتصادية الرمادية بما فيها قطاع الطاقة والصناعات التحويلية.
ولذلك يهدف الاقتصاد الدائري للكربون في الأساس إلى الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وتخفيف آثار تغير المناخ من خلال تصميم أنظمة عمل تحتفظ بالكربون قيد الاستخدام، بدلاً من إطلاقه في الغلاف الجوي، ويتضمن ذلك إنشاء أنظمة "الدائرة المغلقة" حيث يتم تقليل النفايات إلى الحد الأدنى، ويتم الحفاظ على المواد والطاقة.
تشمل المكونات الرئيسة للاقتصاد الدائري للكربون استخدام الطاقة المتجددة، واحتجاز الكربون وتخزينه، والزراعة المستدامة، وتطوير تقنيات جديدة لإعادة التدوير وإعادة استخدام المواد القائمة على الكربون، وذلك بهدف إنشاء نظام اقتصادي مستدام يوازن بين النمو الاقتصادي وأمن الطاقة وحماية البيئة.
يمثل الاقتصاد الدائري للكربون فرصة هائلة للحد من تداعيات التغيرات المناخية بحيث يستطيع تخفيض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وإعادة تدويره عن طريق تحويله إلى منتجات جديدة وإزالته من الغلاف الجوي.
ختاماً، وعلى الرغم مما يحمله الاقتصاد الدائري من فرص وإمكانات كبيرة للاستدامة، فإن هناك العديد من التحديات التي تقف حائلاً أمام تنفيذه على نطاق واسع، ولعل أهمها العوائق النظامية، حيث يحتاج انطلاق الاقتصاد الدائري إلى حدوث تغييرات منهجية في السياسات واللوائح والممارسات الإنتاجية التجارية.
هذا فضلاً عن عوائق التحول الثقافي، حيث يتطلب الأمر تحولاً في سلوك المستهلك وأنماط الاستهلاك والملكية، وأخيراً عوائق الابتكار والتكنولوجيا، فالتكنولوجيا لها دور محوري في تمكين الاقتصاد الدائري، ومن الممكن أن يؤدي الاستثمار في البحث والتطوير في مجال التصميم البيئي، وتقنيات إعادة التدوير، والمنصات الرقمية إلى تسريع عملية التحول.