تحول تطبيق الفيديوهات الشهير "تيك توك" إلى ساحة حرب موازية بين روسيا وأوكرانيا، بعد أن وظف كلاهما ما يُسمى بـ "المؤثرين" (Influencers) من المتفاعلين مع وقائع الحرب، حيث تحظى مقاطع الفيديو التي ينشرونها بمشاهدات واسعة وصلت في بعض الأحيان إلى الملايين. ولا يشترط لهؤلاء المؤثرين الاهتمام المُسبق بالتطورات السياسية؛ إذ إن استخداماتهم لتطبيق "تيك توك" تمحورت بالأساس حول خبراتهم الحياتية ورحلاتهم الشخصية وغير ذلك. ففي أعقاب الحرب الروسية، تحول الأوكرانيون من تبادل الفيديوهات المُصورة عبر تطبيق "تليجرام" إلى هؤلاء المؤثرين تمهيداً لنشرها على "تيك توك" بعد التحقق من صحتها، وانتظار التعليقات عليها للتأكد من عدم تزييفها.
رسائل أوكرانية:
تتعدد الأهداف التي سعى "المؤثرون" المؤيدون لأوكرانيا إلى تحقيقها، حيث يمكن الوقوف على أبرزها فيما يلي:
1- إدانة الحرب الروسية: امتلأ تطبيق "تيك توك" بمقاطع الفيديو المُعارضة للحرب الروسية في أوكرانيا، ومن الأمثلة البارزة على ذلك فيديوهات الروسي "نيكي بروشين" (الذي يبلغ من العمر 27 عاماً)، والذي بدأ في نشرها بمجرد عبور القوات الروسية للحدود الأوكرانية، ونشر مقطعاً واحداً على التطبيق أدان فيه الحرب، وعبّر فيه عن غضبه من الهجوم الذي شنه الرئيس فلاديمير بوتين على أوكرانيا. وهو مقطع الفيديو الذي هدف بالأساس إلى مساعدة الأجانب على فهم الشعب الروسي بشكل أكبر، والتأكيد على أن جزءاً منه لا يؤيد هذه الحرب.
2- جمع التبرعات المالية: مع تضخم أعداد متابعيهم على "تيك توك"، اتجه بعض المؤثرين إلى إطلاق حملات لجمع التبرعات تحت عناوين عديدة، كان أبرزها "مساعدة الأوكرانيين المحتاجين والمتأثرين بالحرب"، مع التأكيد على توليهم مسؤولية توزيع التبرعات بمساعدة الحكومات المحلية ومختلف الشركات المعنية. واتخذ جمع التبرعات شكلاً آخر وهو العمليات التسويقية الرامية إلى بيع بعض القمصان التي كُتبت عليها عبارات مؤيدة لأوكرانيا، مع تخصيص الأرباح للمتضررين من الحرب الروسية، وقُدر عدد هذه القمصان المبيعة بالآلاف. والجدير بالذكر أن مقاطع الفيديو التي نشرها المؤثرون الداعمون لأوكرانيا حاولت دفع المشاهدين إلى التعاطف مع الشعب الأوكراني، واستثارة غضبهم، وصولاً إلى حث بعضهم على الذهاب إلى أوكرانيا للمشاركة في الحرب، بجانب التبرع بالأموال.
3- متابعة ومشاركة تطورات الحرب: ينشر المؤثرون الداعمون لأوكرانيا بانتظام فيديوهات يمكن النظر إليها بوصفها نافذة مباشرة على آخر التطورات والمُستجدات عن الحرب الروسية؛ نظراً لما تتيحه من أخبار وتحديثات ومعلومات يشاهدها ملايين المستخدمين حول العالم، حيث تمتلئ موجزات "تيك توك" بفيديوهات يُسمع فيها صافرات الإنذار ودوي أصوات المدافع. وبالتالي، إلى جانب المراسلين والصحفيين، أصبح المؤثرون الأوكرانيون مصدراً أساسياً لتطورات الحرب. ويرى هؤلاء المؤثرون أن مقاطع الفيديو هي الوسيلة الأكثر واقعية لاطلاع المشاهدين على ما يحدث في أوكرانيا، فيأخذونهم في جولات حول الملاجئ والمباني المُدمرة، والصواريخ التي لم تنفجر.
وفي هذا الإطار، حظي فيلم "تيك توك" المُعنون بـ "Things in My House" بأكثر من 41 مليون مشاهدة بعد أن قدم نظرة عن كثب للارتباك والدمار المُستمر في أوكرانيا، ولمحة عن حياة العديد من الشباب خلال الحرب الروسية. ومن الأمثلة البارزة أيضاً، "كريستينا كوربان" التي نقلت الوقائع اليومية للحرب من العاصمة الأوكرانية "كييف" عبر البث المباشر، وبلغ عدد متابعيها أكثر من نصف مليون شخص، ودأبت على اطلاع المشاهدين على بعض الأمور الحياتية مثل مخزون عائلتها من المواد الغذائية، ومتاجر البقالة، وصافرات الإنذار الجوية، وغير ذلك.
سمات مشتركة:
يتقاسم المؤثرون المؤيدون لأوكرانيا في فيديوهاتهم، جملة من السمات المشتركة التي يمكن إجمالها على النحو التالي:
1- القدرة على التكيّف: جراء حظر تطبيق "تيك توك" لبعض الفيديوهات، اتجه المؤثرون الأوكرانيون إلى إنشاء حسابات بديلة لاستخدامها على سبيل الاحتياط؛ ضماناً لاستمرارية نشر تحديثاتهم. كما تجلت قدرة هؤلاء المؤثرين على التكيّف بالنظر إلى مساعيهم لتغيير محتواهم المُقدم كي يتناسب مع ظروف الحرب وما استتبعها من تغيرات في أوضاعهم المعيشية؛ ومن ذلك نشر فيديوهات عن كيفية صُنع "المولوتوف"، والفرار من أوكرانيا، ورحلات اللاجئين إلى الدول المجاورة. واستمر المؤثرون في نشر محتويات تُصوّر نمط حياتهم الجديد؛ لتتحول جولات المنازل الفاخرة إلى فيديوهات عن الملاجئ المؤقتة تحت اسم "يوم في حياتي"، حيث يصور المؤثرون آليات العمل التطوعي مع المنظمات الإغاثية الإنسانية، مطالبين بالبقاء في الداخل تجنباً للصواريخ الروسية.
2- التصوير الاحترافي: ساهمت خبرة بعض المؤثرين الأوكرانيين في تصوير فيديوهات احترافية، في تحولهم غير المقصود إلى مراسلين حربيين؛ إذ تُصَوّر مقاطع الفيديو بأسلوب "السيلفي" لمحاكاة المشاعر الدافئة لمكالمات الفيديو على نحو يُظهر الواقع الأوكراني، ما يضع المشاهدين في الصورة كما لو كان صانع الفيديو يتحدث مع كل مشاهد منهم على حدة. وحتى عند مناقشة حظر التجول والاختباء، يستخدم المؤثرون مقاطع صوتية وعلامات تصنيف وفلاتر شائعة تُسهّل على الأشخاص العثور على محتواها وتزيد من جاذبيتها.
3- مزج الفكاهة بالحياة الخاصة: اتجه المؤثرون الأوكرانيون إلى بث فيديوهات من منازلهم لمشاركة مختلف مظاهر حياتهم، للتأثير على المشاهدين باستخدام طرق عدة، حيث تعد الفكاهة واحدة منها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، قيام "فاليريا شاشينوك" (التي تبلغ من العمر 20 عاماً) بنشر فيديوهات توضح كيف تبدو الحياة في منزلها. فيما نشرت مدونة السفر السابقة "ألينا فوليكا" تحديثات حول طبيعة الحياة تحت "الحصار"، ووصفت في أحد مقاطع الفيديو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأنه "المُعالج النفسي" للبلاد، وذكرت أن الترفيه بات مقتصراً على زيارة المتاجر الكبرى ذات الأرفف الفارغة.
4- التعرض للمخاطر: يواجه المؤثرون على تطبيق "تيك توك" تحديات جمة قد ترقى إلى حد القصف الصاروخي في حال وجود الأوكرانيين منهم في مواقع خطيرة أو مُستهدفة. إذ يوجد كثير من المؤثرين الأوكرانيين في المدن التي تتعرض للقصف الروسي. وهذا يساهم بشكل أو آخر في التدفق المُستمر للفيديوهات بشكل مباشر، ليصعب التمييز مع مرور الوقت بين الفيديوهات الصحيحة والمُضللة؛ بالنظر إلى كثرتها من ناحية، وسهولة نشرها من ناحية ثانية.
المؤثرون الروس:
بجانب المؤثرين الأوكرانيين، لعب المؤثرون الروس أدواراً بارزة في الحرب الحالية، حيث أكد التقرير الصادر عن معهد الحوار الاستراتيجي (ISD)، ومقره لندن، نجاح حسابات المؤثرين الروس في استخدام تطبيق "تيك توك" للترويج للكرملين ونشر معلومات داعمة للحرب، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال ملايين المشاهدات التي حظيت بها الفيديوهات التي صورت أوكرانيا على أنها المُعتدي، وشبهت السياسيين الأوكرانيين بـ "النازيين الجدد". وقد تمكن المؤثرون الروس عبر "تيك توك" من تبرير التدخل العسكري لبلادهم، والتأكيد على أن "روسيا تريد إحلال السلام".
ومن ناحية أخرى، خلص تحقيق أجرته قناة "فايس نيوز" الأمريكية Vice News، إلى أن بعض المؤثرين الروس في "تيك توك" قد عُرض عليهم المال مقابل الدعاية المؤيدة لموسكو فيما يُشبه "حملة التجنيد المنظمة"، وفي محاولة للسيطرة على الخطاب الذائع عن أوكرانيا، على الرغم من ضبابية من يقدم تلك الأموال وصعوبة الجزم بفاعليتها. وعقب نشر نتائج ذلك التحقيق، لم تعلق شركة "بايت دانس"، المالكة لتطبيق "تيك توك"، وأثنت على التحقيق الذي رصد التهديدات الناشئة والمعلومات المُضللة المتصلة بالحرب الروسية - الأوكرانية.
وفي سياق متصل، أكدت صحيفة "الجارديان" البريطانية أن الحكومة الروسية دفعت بمؤيديها من نجوم "تيك توك" لنشر الرؤية الروسية الرسمية عن الحرب، وتوضيح تطورات الأوضاع في أوكرانيا. ورداً على ذلك، أعلنت شركة "بايت دانس" عن إضافة ملصقات إلى مقاطع الفيديو التابعة لوسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة الروسية.
اهتمام أمريكي:
في المقابل، لجأت الولايات المتحدة هي الأخرى إلى المؤثرين على "تيك توك"، حيث أطلع موظفو مجلس الأمن القومي الأمريكي والمتحدثة باسم البيت الأبيض "جين بساكي" نحو 30 من كبار المؤثرين في تطبيق "تيك توك"، خلال مؤتمر عبر برنامج "زووم"، على الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة وسياساتها في أوكرانيا. كما أجاب البيت الأبيض عن أسئلة حول توزيع المساعدات على الأوكرانيين، والعمل مع حلف "الناتو"، بالإضافة إلى رد الفعل الأمريكي المُحتمل في حال قيام روسيا باستخدام الأسلحة النووية. وهذا ما يدل في مُجمله على أن الإدارة الأمريكية قررت الاستعانة بمواقع التواصل الاجتماعي للترويج لمواقفها وسياساتها تجاه الحرب الروسية - الأوكرانية بعدما اتهمت الكرملين بتوظيف الأمر نفسه.
وفي هذا السياق، استعان البيت الأبيض أيضاً بمؤثرين ذوي شعبية كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث قدمت الأمريكية "فيكتوريا هاميت" (التي تبلغ من العمر 23 عاماً ويبلغ عدد متابعيها على تطبيق "تيك توك" نحو 750 ألفاً) منشوراً مدته 30 ثانية تقريباً جادلت فيه بأن فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا يهدد بتصعيد الحرب، وذلك عقب مطالبة الرئيس الأوكراني بها. كما قدمت "هاميت" فيديوهات يومية لمناقشة مختلف الأبعاد السياسية للحرب في إطار ما يُسمى بـ "الإحاطة عن بُعد"، وذلك في نموذج غير تقليدي يؤثر في الرأي العام بعيداً عن القنوات الإعلامية التقليدية. واتجه المسؤولون الأمريكيون إلى إمداد المؤثرين مثل "هاميت" وغيرها، بمحتوى واقعي يمكنهم توظيفه لتوضيح تطورات الصراع في أوكرانيا لملايين المتابعين، ولمواجهة الحملات التي تبثها الحكومة الروسية عبر المؤثرين.
حرب "تيك توك":
حوّل المؤثرون "تيك توك" إلى أداة إعلامية تُغطي الحرب الروسية في أوكرانيا، لتصبح الأولى التي تُنشر وقائعها على التطبيق، ولتقدم على أثر ذلك مجلة "نيويورك" الأمريكية مصطلح "WarTok"؛ في ارتباط واضح بين التطبيق والحرب. كما وصفت صحيفة " تشاتانوغا تايمز فري برس" الأمريكية Chattanooga Times Free Press، الحرب الروسية - الأوكرانية بأنها "حرب تيك توك الأولى"، وهو ما يعد إثباتاً غير مسبوق للدور الذي يلعبه هذا التطبيق على نطاق عالمي، حيث أصبح سلاحاً إعلامياً دولياً بعد أن اتجه المواطنون الأوكرانيون الذين يختبئون في الملاجئ أو الذين فروا من منازلهم إلى مشاركة قصصهم أو شرح أبعاد الحرب لمتابعيهم أو كشف المعلومات الخاطئة عبره.
وبشكل عام، يمكن التحقق من صحة الفيديوهات المتداولة على تطبيق "تيك توك" قبل نشرها وفي أعقابها، عن طريق الإحالة المرجعية للمقاطع والأخبار بين قنوات متعددة. بيد أن ذلك لم يؤد إلى احتواء الانتقادات الموجهة للتطبيق لنشره أحياناً أخباراً مزيفة أو غير محدثة. فمن خلال صفحة (For You) التي تعكس نشاط المُستخدم واهتماماته، يسارع المستخدمون إلى تصديق الفيديوهات المعروضة، ما يسهل إساءة تفسير محتوى المؤثرين الذي لم يتم التحقق منه. ففي بداية الحرب الأوكرانية، على سبيل المثال، شاهد العديد من المستخدمين مقطع فيديو يظهر جنوداً يحطون بمظلاتهم فوق أوكرانيا، ليتضح لاحقاً قدم هذه اللقطات بعد أن اعتقد المشاهدون عكس ذلك. لذا، حذر محللون من خلط مقاطع الفيديو الحقيقية بمقاطع تخص صراعات أخرى أو تدريبات عسكرية في مناطق بعيدة عن أوكرانيا، والتي تنتشر أيضاً على الفور جنباً إلى جنب مع اللقطات الميدانية الفعلية أو الحقيقية.
والجدير بالذكر أن الحروب والثورات ارتبطت بشبكات التواصل الاجتماعي منذ أكثر من 10 سنوات على خلفية ما شهدته بعض الدول العربية في مطلع عام 2011، بيد أن "تيك توك" بفعل طابعه العفوي، تمكن من جذب جمهور أصغر سناً مقارنة بمستخدمي "يوتيوب" و"فيس بوك". وقد ساهم في ذلك خوارزمية التطبيق التي تقدم المحتوى بناءً على اهتمامات المستخدمين، فإذا أظهر أحد المستخدمين اهتمامه بأوكرانيا، عُرض عليه مزيد من المحتويات عنها، وهو ما ساعد البعض على التحول إلى مؤثرين في أقل من يوم واحد بعد أن حظيت فيديوهاتهم بملايين المشاهدات.
ختاماً، أصبح تطبيق "تيك توك" من الأدوات الرئيسية في الحرب الروسية – الأوكرانية، حيث يوظفه بعض المؤثرين لدعم أوكرانيا، وتتبع تحركات القوات الروسية، والبث الحي لجبهات القتال المختلفة، وتوثيق المعاناة الإنسانية، وغير ذلك. وفي المقابل، يستخدمه الجانب الروسي أيضاً للترويج لسرديته عن الحرب، والرد على الانتقادات والعقوبات الغربية. إذ تسهل قدرات التحرير والفلاتر المُدمجة داخل التطبيق عملية التقاط التفاصيل ومشاركتها بالمقارنة بتطبيقات أخرى، وهو ما يسهم في سرعة انتشار المحتوى ويضاعف من تأثيره.