عاد ملف سد النهضة الإثيوبي للظهور مرةً أخرى في المشهد بعد عدة أشهر من التراجع بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت في إثيوبيا في نوفمبر 2020. فقد أعلنت الحكومة الإثيوبية اعتزامها البدء في إزالة نحو 17 ألف هكتار من الغابات بمحيط السد خلال فبراير 2022، استعداداً لعملية الملء الثالث للسد، وذلك قبل أن يُصدر رئيس الوزراء الإثيوبي، في 20 يناير 2022، بياناً دعا خلاله كلاً من مصر والسودان لتغيير خطابهما تجاه قضية سد النهضة.
تطورات سد النهضة:
عاد ملف سد النهضة للظهور مجدداً على أولويات القضايا المتعلقة بإثيوبيا، حيث شهد هذا الملف عدة تطورات مهمة خلال الفترة الأخيرة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- اجتماع إثيوبي في منطقة السد: عقدت الحكومة الإثيوبية، في 5 يناير الجاري، اجتماعاً برئاسة، آبي أحمد، في موقع سد النهضة بمنطقة بني شنقول – قماز، في إشارة مهمة لعودة ملف السد على جدول اهتمامات أديس أبابا خلال الفترة المقبلة.
وعلى الرغم من إشارة الحكومة الإثيوبية إلى أن هذا الاجتماع استهدف بالأساس إجراء تقييم شامل للوزارات والمؤسسات الحكومية، بيد أن ثمة تقديرات أخرى رجحت وجود مساعٍ إثيوبية لتشغيل أول توربينتين على السد خلال الفترة المقبلة، من أجل توليد نحو 700 ميغاوات من الكهرباء.
2- استعدادات لعملية الملء الثالث: أعلنت إثيوبيا، في 13 يناير الجاري، أنها تنوي إزالة حوالي 17 ألف هكتار من الغابات خلال فبراير المقبل، استعداداً للبدء في عملية الملء الثالث لسد النهضة. وجاء الإعلان الاثيوبي عن هذه الخطوة في أعقاب الاجتماع الذي انعقد في مدينة "أصوصا" بإقليم بني شنقول – قماز، الذي يقع فيه السد. وفي اليوم ذاته، أعلن المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، دينا المفتي، أن أديس أبابا ستشرع قريباً في إنتاج الكهرباء من سد النهضة، مشيراً إلى أن ذلك لا يعني توقف المفاوضات مع كل من مصر والسودان.
3- مغازلة آبي أحمد دولتي المصب: نشر رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي احمد، بياناً عبر صفحته الرسمية على "تويتر"، في 21 يناير الجاري، دعا خلاله كلاً من مصر والسودان إلى تغيير خطابهما تجاه سد النهضة لتعزيز التعاون والسلام بين شعوب الدول الثلاث. وعمد آبي أحمد خلال هذا البيان إلى "مغازلة" القاهرة والخرطوم من خلال الإشارة إلى أن سد النهضة يمثل فائدةً لدولتي المصب أيضاً، من خلال تأمين الحماية للسودان من الفيضانات وشح المياه خلال فترات الجفاف.
كما سيوفر السد لمصر، وفقاً لأحمد، الحفاظ على المياه بدلاً من إهدار مليارات الأمتار من المياه بسبب البخر. كذا، فقد عمد آبي أحمد خلال بيانه الأخير إلى الترويج لحاجة الشعب الإثيوبي للكهرباء من خلال التلويح بأن هناك نحو 53% من الإثيوبيين لا يستطيعون الحصول على الكهرباء.
4- موقف مصري ثابت: لا يزال الموقف المصري ثابتاً تجاه سد النهضة، من خلال التمسك بضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم وشامل بشأن ملء وتشغيل السد، وهو ما أشار إليه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، مؤخراً على هامش منتدى شباب العالم في يناير الحالي، وهو أيضاً ما أكده رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، حيث أشار إلى أن مصر لطالما أكدت لأديس أبابا رغبتها في المشاركة في إنشاء السد، بيد أن الإشكالية الرئيسية تتمثل في ضرورة ألا يتمخض عن السد أي أضرار تتعلق بحقوق مصر المائية.
كذا، فقد أعلن وزير الري المصري، محمد عبد العاطي، في 20 يناير الجاري، أن عدم تبادل إثيوبيا بيانات سد النهضة يعد أمراً مثيراً للقلق، مشيراً إلى أن القاهرة عرضت على الجانب الإثيوبي عدة سيناريوهات تضمن قدرة سد النهضة على توليد الكهرباء بنسبة تصل إلى حوالي 85% في أقصى حالات الجفاف، بيد أن أديس أبابا لا تزال رافضة لأي آليات تنسيق واضحة وملزمة في إطار اتفاق قانوني عادل وشامل.
دوافع إثيوبية متعددة:
يمكن الإشارة إلى جملة الدوافع التي يمكن من خلالها تفسير عودة الزخم المتعلق بملف سد النهضة مرةً أخرى، وذلك على النحو التالي:
1- حشد الداخل الإثيوبي نحو قضية قومية: أشارت عدة تقديرات إلى أنه على الرغم من تراجع حدة التوترات المتعلقة بأزمة التيجراي، بيد أن الحكومة الإثيوبية لا تزال تواجه تحديات داخلية كبيرة تتعلق بشرعيتها المتراجعة.
وفي هذا السياق، يمثل إعادة طرح ملف سد النهضة محاولة من أديس أبابا حشد الموقف الداخلي معها، باعتبار أن ملف السد يمثل قضية قومية، وهو ما قد يخفف من حدة الضغوطات الداخلية على الحكومة.
2- صرف الانتباه عن الأزمات الداخلية: أطلقت حكومة آبي أحمد مبادرة تتعلق بالمصالحة الوطنية في الداخل، كما بدأت في اتخاذ خطوات فعلية تمثل أبرزها في إطلاق سراح عدد من المعتقلين السياسيين، بما في ذلك عناصر من جبهة التيجراي، بيد أن نائب رئيس هيئة أركان الجيش الإثيوبي، الجنرال أبباو تادسي، قد أعلن، في 21 يناير الجاري، بأن الجيش الإثيوبي يستعد الآن للمرحلة الثانية من الحرب ضد الجبهة، ولم يستبعد احتمالية محاولة القوات الحكومية دخول إقليم التيجراي.
وأكد تادسي أن الأمر لم ينته وأن الجيش الإثيوبي توقف فقط من أجل التأهب، ملمحاً إلى أن القوات الحكومية ستقوم بملاحقة عناصر التيجراي في أي مكان ولن تتفاوض معهم، وهو ما يعكس مؤشرات مهمة بشأن استمرارية الحرب مع التيجراي، وهو ما يدعم التقديرات التي تشير إلى أن الحكومة الإثيوبية تسعى إلى صرف الانتباه عن الأزمات الداخلية المستمرة من خلال الزخم المتعلق بملف سد النهضة.
3- تحسين صورة آبي أحمد: يسعى آبي أحمد لتعزيز صورته الخارجية من خلال تبني خطاب يدعو إلى السلام والحوار، إذ يهدف لحشد موقف أفريقي داعم له قبيل انعقاد القمة الأفريقية الـ 35 في أديس أبابا في 5 فبراير المقبل، ومن ثم الحيلولة دون إصدار أي موقف أفريقي يدين أديس أبابا، خاصة في ظل التمسك الإثيوبي بضرورة تسوية أزمة سد النهضة من خلال مظلة الاتحاد الأفريقي.
دلالات إقليمية مهمة:
يمكن الإشارة إلى عدد من الدلالات المهمة، والتي يمكن عرضها من خلال العناصر التالية:
1- تغيرات ملحوظة في الخطاب الإثيوبي: عكس البيان الأخير الذي نشره أحمد تغيرات كبيرة في لغة الخطاب الإثيوبي تجاه سد النهضة، وهو ما انعكس في التحوّل من الحديث عن نهر النيل باعتباره نهراً إثيوبياً، والتلويح بالمضي قدماً في بناء السد وعمليات الملء بغض النظر عما إذا تم التوصل إلى اتفاق أو لا، ليشير البيان الأخير عن أهمية التعاون بين الدول الثلاث، من أجل بناء السلام والتنمية للجميع دون الاضرار بأي طرف.
وعلى الرغم من ذلك، فإن بيان أحمد لم يشر إلى أي مؤشرات بشأن تغيرات محتملة في الموقف الإثيوبي الرافضة للتوصل إلى اتفاقية قانونية ملزمة مع دولتي المصب، وهو المطلب الذي تتمسك به كل من مصر والسودان، باعتباره الضمانة الوحيدة لتحقيق الفوائد الإيجابية لسد النهضة بالنسبة للدول الثلاث، خاصة أن الخرطوم واجهت إشكاليات كبيرة نتيجة عملية الملء الأول نتيجة لغياب هذا الإطار القانوني الملزم.
2- شكوك بشأن الملء الثالث: تشير تقديرات موثوقة إلى أن حديث إثيوبيا عن عملية ملء ثالث وشيكة يعد أمراً غير منطقي في ظل توقف عمليات التشييد التي تزامنت مع تصاعد الحرب الأهلية في البلاد. ويستند هذا الرأي إلى فشل أديس أبابا في إتمام عملية الملء الثاني على النحو الذي كان مخططاً له خلال العام الماضي، نتيجة لعدم تعلية الممر الأوسط منذ ذلك الحين حتى يتم تخزين مزيد من المياه خلال فترة الفيضان المقبلة.
3- بدء محتمل لعملية توليد الكهرباء: ترجح غالبية التقديرات أن كمية الكهرباء التي ستنتج عن التوربينتين، اللتين تعمل أديس أبابا حالياً على تركيبهما، ستكون محدودة للغاية، على عكس ما تسوق له الحكومة الإثيوبية بأنه سيغطي نحو 20% من السكان، إذ إن الحسابات الدقيقة لهذه الكمية المتوقع إنتاجها من التوربينتين، والمقدرة بحوالي 700 ميجاوات، لن تكفي أكثر من 2% من سكان إثيوبيا البالغ عددهم نحو 115 مليون نسمة.
4- مساعٍ إثيوبية لاستقطاب السودان: شهدت الفترة الأخيرة مساعي إثيوبية مكثفة لاستقطاب الخرطوم لها، وخلخلة الموقف المصري السوداني المتماسك، وانعكس هذا الأمر بوضوح في التصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، دينا المفتي، والتي أشار خلالها إلى أن بلاده ستشرع قريباً في عملية توليد الكهرباء من السد، داعياً السودان للاحتفال، بدعوى أنها ستكون أكبر المستفيدين من ذلك. ولعل هذا ما أشار إليه أيضاً البيان الأخير لرئيس الوزراء الإثيوبي، من خلال تلويحه بأن الخرطوم ستكون أحد المستفيدين من بناء سد النهضة.
وعكست التطورات الأخيرة بعض مؤشرات التقارب النسبي بين الخرطوم وأديس أبابا، بعد فترة من التوترات الحدودية المتعلقة بمنطقة الفشقة، كما في الزيارة التي قام بها وفد سوداني من ولاية النيل الأزرق إلى إقليم بني شنقول – قماز، في 28 ديسمبر الماضي، حيث تم توقيع عدد من مذكرات التفاهم المشتركة، فضلاً عن التصريحات الأخيرة لسفير السودان لدى إثيوبيا، جمال الشيخ، والتي أكد فيها على العلاقات الوثيقة والتاريخية بين الخرطوم وأديس أبابا، وكذلك زيارة نائب رئيس المجلس السيادي السوداني، محمد حمدان دقلو "حميدتي"، إلى إثيوبيا، في 22 يناير الجاري.
وفي الختام، يلاحظ أنه على الرغم من التغيرات الملحوظة في لغة الخطاب الإثيوبي حول سد النهضة، فإن آبي أحمد لم يصل بعد إلى مرحلة الجلوس على طاولة المفاوضات للحديث مع مصر والسودان حول اتفاق ملزم يحكم سد النهضة، بل أن أديس أبابا تسعى للتأثير على الموقف السوداني، بما يجعل مصر وحيدة في مطالبها من سد النهضة، وإن كان من الملحوظ أن إخفاق إثيوبيا في تنفيذ الملء الثالث سوف يحد من تصعيد التوتر بين أديس أبابا والقاهرة في الفترة الحالية.