إعداد: أحمد عبد العليم
تشهد القارة الأفريقية منذ مطلع القرن الحالي العديد من الصراعات المحتدمة في الأفكار والتوجُّهات، بحثاً عن الطريق الأفضل نحو المستقبل، وهو طريق يقترن بحسن اختيار الآليات، وذلك في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ فلم تعد القارة الأفريقية مُهملة كما كانت لعقود طويلة بل باتت هي "قارة المستقبل".
ويقترن هذا المستقبل بمواجهة العديد من التحديات الجسيمة التي منها على سبيل المثال (الحروب الأهلية والصراعات المسلحة، وأزمة الفقر، وانتشار الأمراض والأوبئة). ورغم كل تلك المعوقات، فإن القارة لديها الكثير من مقومات النجاح، حيث تحتوي الكثير من الموارد الطبيعية والمواد الخام والأيدي العاملة، مما يجعلها من أغنى قارات العالم.
في هذا الإطار، تأتي هذه الدراسة التي تحمل عنوان: ـ"الاستقرار الحالي والمستقبلي في أفريقيا"، والتي أعدَّها كل من Jakkie Cilliers، المدير التنفيذي بمعهد الدراسات الأمنية Institute for Security Studies (ISS) بجنوب أفريقيا، وSteve Hedden، الباحث بمركز فردريك باردي لدراسات المستقبل ببوسطن.
وتتناول هذه الدراسة سيناريوهات المستقبل بالنسبة للقارة الأفريقية، ومدى تأثير هذه السيناريوهات على (حجم السكان، ومعدلات الفقر المدقع، ومؤشرات التنمية البشرية، ومعدلات الناتج المحلي الإجمالي للقارة)، بالإضافة إلى محاولة الباحثَين تقديم "الحوكمة والحكم الرشيد" كمفتاح لحل كثير من أزمات القارة من أجل بناء مستقبل أفضل لها.
سيناريوهات المستقبل في القارة الأفريقية
تطرح الدراسة ثلاثة سيناريوهات لمستقبل القارة الأفريقية، وهي:
السيناريو الأول: نمو غير شامل ومعدلات فقر تنخفض ببطء:
طبقاً لهذا السيناريو، تتحسن أبعاد التنمية، ولكن تنخفض مستويات الفقر ببطء. ويشير الكاتبان إلى أن القارة الأفريقية غير قادرة على تحقيق التنمية المستدامة عبر دولها، ومن المتوقع نمو متوسط الناتج الإجمالي المحلي سنوياً حتى عام 2063 بحوالي 6.2%، حيث تصل ذروتها في عام 2039 بنسبة تصل إلى 7.5% قبل أن تنخفض مرة أخرى.
ويمكن القول إن القارة الأفريقية غير قادرة على الحد من مشكلة عدم المساواة، والتي تزداد مستوياتها المرتفعة مع الوقت، وبالتالي فالنمو الأفريقي ليس شاملاً حتى بالرغم من تحسُّن فرص الحصول على التعليم والمعيشة أفضل. كذلك فإن معدلات الوفاة مازالت مرتفعة بسبب الأمراض والأوبئة المعدية، وهي سوف تزيد بشكل مطرد بحلول عام 2029، وهو ما يؤثر سلباً على التنمية في أفريقيا.
وتضيف الدراسة أن أفريقيا تشهد نمواً سكانياً كبيراً، وهو ما يشكل عاملاً إيجابياً إزاء عملية التنمية كونه مصدراً للعمالة، ولكن في حالة انتشار البطالة، فإن ذلك سوف يكون سبباً للكساد وزيادة معدلات الفقر والجوع وعدم الاستقرار. وبالتالي فإن السلام والأمن يتحسن في القارة، ولكن يبقى عدم الاستقرار على المدى الطويل تحدياً يواجه عدداً كبيراً من دول القارة الضعيفة مثل جزر القمر والصومال ومدغشقر وغيرها.
وفي هذا السيناريو يكون تنفيذ الالتزامات والقرارات من قِبل الدول الأعضاء في منظمات الاتحاد الأفريقي محدودة وبطيئة، حيث يضعف دور المنظمات الإقليمية في رأب الصدع بالقارة.
السيناريو الثاني: استبداد وعنف مسلح يؤخران التنمية
يتناول هذا السيناريو استغلال الدول الأفريقية من قِبل النُخَب الحاكمة فيها، ويرى الكاتبان أن الحكومات الأفريقية لا تعمل بالجهد الأمثل من أجل تخفيف الآثار السلبية التي تعصف باقتصاداتها، إذ إن العوامل الداخلية تؤدي إلى إحداث أضرار بالغة بتلك الاقتصاديات، حيث تعاني عدة دول أفريقية من وجود أنظمة استبداية، بالإضافة إلى كساد اقتصادي.
على جانب آخر، فإن "الصحوة الطائفية" بين العرقيات والجماعات الدينية المختلفة تؤثر على تماسك الدول، ومنها الجزائر ومالي ونيجيريا، علاوة على الانقسامات في ليبيا، وانتشار الجماعات المتحاربة في شمال السودان، والاضطرابات على طول الساحل الكيني. وبالتالي فإن القارة تشهد صراعات في مساحات كبيرة منها.
وهناك حالة من التمكين لصالح أفراد على حساب آخرين من أجل الاستحواذ على السلطة، وهو ما يجعل قوة بعض الأفراد أقوى من مركزية سلطة الدولة، الأمر الذي يهدد بتقويض قدرة الحكومات - نظراً لضعفها - على تحقيق الاستقرار والتنمية.
وفي هذا الاطار، تسعى دول شمال أفريقيا إلى التعاون الاقتصادي مع دول البحر المتوسط وأوروبا من أجل تحقيق مزيد من التنمية، خاصةً في ظل الاضطرابات في الشرق الأوسط. وتظل بعض الدول الأفريقية تعاني من المشاحنات الداخلية مثلما يحدث في نيجيريا التي يتراجع دورها القيادي في أفريقيا. وبالتالي فإن هذا السيناريو يركز على التطور البطيء في أفريقيا، مع وجود عدم استقرار سياسي في ظل استبداد وأنظمة شمولية تسلطية، وفقر مدقع، وهو السيناريو الأكثر تشاؤماً لمستقبل القارة.
السيناريو الثالث: النهضة الأفريقية
يركز الباحثان من خلال هذا السيناريو على التعامل بنظرة أمل مع مستقبل القارة الأفريقية، حيث إن هناك عدة دول رئيسية تتطلع نحو تحسين اقتصادها وتعزيز قدرتها على النمو الشامل واستبدال الاضطرابات السياسية بما هو أكثر استقراراً، ومن هذه الدول مصر، وجنوب أفريقيا، والجزائر، وأثيوبيا؛ إذ تسعى هذه الدول الكبرى إلى استعادة ثقة المستثمرين في القطاعات الاقتصادية الرئيسية بها، وفتح الاستثمار الأجنبي في الصناعات الزراعية والتحويلية، وبالتالي يكون تنفيذ خطط التنمية الوطنية هو الأولوية قبل كل شيء.
وفي ظل اختيار الدول الأفريقية لهذا الدرب، فإنه يمكن القول إن ثمة نهضة حقيقية من الممكن أن تنتشل هذه القارة من مأزق ماضيها السيء نحو مستقبل أفضل.
ويشير الباحثان أيضاً إلى التقدم الذي أحرزته بعض دول القارة في مجال التنمية البشرية من خلال توسيع دائرة الحقوق المدنية والسياسية بما في ذلك الحق في حرية التعبير، والحق في التجمعات السلمية، ومن هذه الدول أثيوبيا ورواندا.
كذلك فإن القارة الأفريقية قادرة على أخذ خطوات هامة لتحقيق التكامل الإقليمي، ومنها منظمات "سادك" و"جماعة شرق أفريقيا" وكذلك "السوق المشتركة لشرق وجنوب القارة". ومن ناحية أخرى، فإن القارة تمثل سوقاً واعدة للشركات الأجنبية متعددة الجنسيات.
وفي ضوء هذا السيناريو، يتراجع الإرهاب والاقتتال الداخلي في أنحاء أفريقيا، على اعتبار أن تحسين التعاون بين الدول الأفريقية، والارتقاء بخدمات الأمن من شأنه احتواء التطرف السياسي العنيف، كذلك فإن نتائج النمو الاقتصادي تؤدي إلى سياسات تستهدف المهمشين وتدمجهم في الحياة العامة، مما يؤدي إلى تآكل الدعم المحتمل للإرهاب في القارة الأفريقية.
الآثار المترتبة على السيناريوهات الثلاثة
يحاول الكاتبان تبيان مدى تاثير تلك السيناريوهات الثلاثة سالفة الذكر على مستقبل القارة، سواء من حيث حجم السكان وما يمكن أن يكون أن يحدثه من تأثيرات على إحداث تنمية حقيقية، أو سواءً فيما يتعلق بمعدلات الفقر المدقع، ومؤشرات التنمية البشرية، ومعدلات الناتج المحلي الإجمالي. ويمكن توضيح ذلك كالتالي:
1- من حيث حجم السكان: في السيناريو الثاني، سوف يشهد حجم السكان في القارة حتى عام 2063 زيادة تصل إلى 900 مليون مواطن، وهو أكثر من السيناريو الثالث الذي من المتوقع أن يشهد زيادة في عدد المواطنين بحوالي 509 مليون مواطن. وبما يقل عن السيناريو الأول. وبالتالي فإنه في ظل إحداث نهضة حقيقية سوف يكون زيادة حجم السكان في مستويات أفضل من السيناريو الأول والثاني.
2- من حيث الفقر: سوف ينخفض الفقر تدريجياً في السيناريو الأول، وسوف يزداد بشكل كبير في السيناريو الثاني، حيث إنه سيكون هناك حوالي نصف مليار شخص يعيشون تحت خط الفقر المدقع بحلول عام 2063. أما في حالة السيناريو الثالث، فسوف ينخفض الفقر بشكل كبير، حيث ستواجه أفريقيا الفقر المدقع بشكل فعَّال حتى عام 2047.
3- مؤشر التنمية البشرية: في ظلّ السيناريو الثاني سوف تكون التنمية البشرية أقل مما هي عليه الآن في عام 2062، أما في ظلّ السيناريو الثالث "الأكثر تفاؤلاً" سوف تصل التنمية البشرية إلى مستويات عالمية جيدة في عام 2038، أما السيناريو الأول فهو بالطبع الأقل تفاؤلاً من سيناريو النهضة الأفريقية.
4- معدلات الناتج المحلي الإجمالي: سوف يصل معدل الناتج المحلي الإجمالي خلال السيناريو الثالث في الفترة من 2031 حتى 2042 إلى ما يزيد عن 10%. أما في حالة السيناريو الأول فلن يتجاوز 6.5%. وفي حالة السيناريو الثاني فسوف يكون أقل من 5%. وبالتالي فإنه في حالة السيناريو الثالث سوف تزداد معدلات الناتج المحلي الإجمالي بحوالي الضعف عن كل من السيناريو الأول والثاني.
الحكم الرشيد كمفتاح لمستقبل القارة الأفريقية
تحاول الدراسة تقديم مفهوم "الحوكمة أو الحكم الرشيد" كآلية هامة من أجل تجاوز القارة الأفريقية أزماتها ومشكلاتها نحو المستقبل المأمول، خاصةَ في ظل ارتفاع معدلات البطالة، وزيادة مستويات الفقر المدقع، وانتشار الأوبئة والأمراض، بالإضافة إلى الحكم التسلُّطي الذي نتج عنه الزخم الحالي للعنف في عدد من الدول الأفريقية مثل ليبيا ومالي، وكذلك عدم الاستقرار في عدد من الدول الأفريقية مثل بعض دول شمال أفريقيا؛ وبالتالي فإنه لزاماً على صانعي السياسات في أفريقيا الأخذ بالحكم الرشيد في المدى القصير والمتوسط، بهدف ألا تؤدي أزمات القارة إلى التأثير على الأجيال القادمة.
ويمكن القول أن الاستنتاج الذي توصلت إليه هذه الدراسة، هو أن ثمة اتجاه طويل الأمد نحو تحقيق مستويات أقل من العنف المُسلَّح في أفريقيا على الرغم من ارتفاع حدته منذ عام 2010 بشكل غير متوقع، كذلك فإن أهم ما يميز طبيعة العنف المُسلَّح في أفريقيا هو أنه يأتي بالأساس بين مجموعات وفصائل متناحرة وليس بين دول، ولذا ففي حال أصبحت هناك منافسة سياسية حقيقية داخل الدول الأفريقية، يمكن أن يقل هذا العنف تدريجياً.
كذلك، فإن القارة الأفريقية تشهد نمواً مضطرداً للعملية الديمقراطية في ظل وجود ظروف تعليمية أفضل للمواطنين الذين باتوا أكثر وعياً بالعالم من حولهم. ولا يمكن في هذا الإطار إنكار الدور العام الذي لعبه التمويل الغربي في الارتقاء بحقوق الإنسان والديمقراطية في القارة السمراء.
ويشير الباحثان إلى أنه لا يمكن الجزم بأن الديمقراطية تؤدي بالضرورة إلى إحداث سلام داخلي، ولكن مما لا شك فيه أن نمو الديمقراطية يقلل من العنف بين المدنيين بالرغم من أن الجماعات المتمردة تميل إلى استخدام العنف على نطاق واسع ضد المدنيين عندما تقاتل أنظمة ديمقراطية. كذلك فإنه من المؤكد أن أهم أسباب حدوث الاستقرار في أفريقيا هو قوة وطبيعة الأنظمة الحاكمة فيها.
أما عن النمو الاقتصادي، فإنه يرجح مع الوقت أن يُترجم إلى استقرار أفضل وحكومات أقوى. ومن ناحية أخرى، يؤكد الكاتبان أن انطلاقة أفريقيا نحو المستقبل تتطلب دوراً جماعياً وتكاتفاً بين كل من الدول الأفريقية مع الشركاء العالميين من أجل بناء القدرات والتدريب وتقديم الخبرات والتمويل، بالإضافة إلى الأدوار الهامة للمنظمات الإقليمية مثل منظمة الاتحاد الأفريقي في سبيل مواجهة الفساد والاستبدادية، حيث إن التنمية والتقدم في أفريقيا عملية تحتاج لوقت طويل من أجل القفز فوق الماضي المليء بالعقبات والتحديات.
* عرض موجز لتقرير بعنوان: "الاستقرار الحالي والمستقبلي في أفريقيا"، والمنشور عن "معهد دراسات الأمن" (ISS) بجنوب أفريقيا، في نوفمبر 2014.
المصدر:
Jakkie Cilliers and Steve Hedden, Africa’s current and future stability (South Africa, Institute for Security Studies, November 2014).