استقبل الرئيس التونسي، قيس سعيد، وفداً أمريكياً ممثلاً للكونجرس الأمريكي برئاسة كل من السيناتور كريس ميرفي وجون أوسوف، والذي زار البلاد يومي 4 و5 سبتمبر 2021. والتقى الوفد الرئيس التونسي في قصر قرطاج، كما التقى ممثلي منظمات المجتمع المدني التونسية، وأعضاء من مجلس نواب الشعب.
وأعرب الرئيس سعيد للوفد عن مضيه قدماً في تنفيذ الإصلاحات الدستورية التي أعلن عنها، خاصة فيما يتعلق بتوقيف العمل بالدستور الحالي، ومراجعة منظومة الحكم وإقرار نظام سياسي مختلف، وهو ما لم يتم إلا من خلال الاستغناء عن البرلمان الحالي والتوجه نحو انتخابات برلمانية مبكرة.
مواصلة الإجراءات الاستثنائية:
جاءت زيارة وفد الكونجرس الأمريكي في سياق عدد من التطورات والمتغيرات السياسية المهمة التي تشهدها البلاد، ومن أبرزها ما يلي:
1- تمديد الإجراءات الاستثنائية: جاءت زيارة وفد الكونجرس الأمريكي عقب إصدار الرئيس سعيد قراراً في 25 أغسطس الماضي يقضي بتمديد الإجراءات الاستثنائية، بما فيها استمرار تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه لأجل غير مسمى، وتأخر الإعلان عن خريطة طريق واضحة المعالم بشأن مرحلة ما بعد انتهاء هذه الإجراءات.
2- تأكيد احترام الحقوق والحريات: اجتمع الرئيس سعيد في أوائل سبتمبر، مع ممثلي بعض التنظيمات النقابية والمجتمع المدني التونسي، وتحديداً الهيئة الوطنية للمحامين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، وذلك للتأكيد على التزامه بمواصلة نهج الإصلاح وعدم المساس بحقوق الإنسان واحترام الحريات، بما فيها حرية التعبير والتظاهر، ورفض أي تجاوز للقانون.
3- انقسام حزبي ونقابي حول التمديد: تباينت مواقف الأحزاب التونسية بين فريقين، أحدهما رافض لاستمرار الإجراءات الاستثنائية. وعبّر عن هذا الموقف بعض الأحزاب والقوى المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني التونسية، وعلى رأسها الاتحاد التونسي العام للشغل، والذين يرون ضرورة إسراع سعيد بالإعلان عن خريطة الطريق وإنهاء الإجراءات الاستثنائية، في حين يؤيد الفريق الآخر استمرار الحالة الاستثنائية، بل ويطالب الرئيس سعيد بحل البرلمان نهائياً، ويمثل حزب التيار الشعبي هذا الموقف.
دلالات أمريكية مهمة:
تكتسب هذه الزيارة أهمية خاصة نظراً لما تحمله من دلالات سياسية مهمة تعبر عن طبيعة الموقف الأمريكي الذي أصبح أكثر اهتماماً بتطورات الأزمة السياسية في تونس، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- اهتمام أمريكي متصاعد: تعد زيارة وفد الكونجرس الأمريكي لتونس في التوقيت الراهن هي الزيارة الثانية من نوعها التي يقوم بها عدد من المسؤولين الأمريكيين منذ إعلان الرئيس سعيد الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو الماضي، حيث كانت الزيارة الأولى في 13 أغسطس الماضي عندما قام جون فاينر، النائب الأول لمستشار الأمن القومي الأمريكي، بزيارة تونس ولقائه أيضاً الرئيس سعيد.
وتعبر هذه اللقاءات المتواترة والمتقاربة عن اهتمام الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن، وقلقها تجاه تطورات الأزمة السياسية في تونس، بشكل دفعها لمواصلة إرسال مسؤوليها الرسميين وغير الرسميين لمتابعة هذه التطورات عن كثب.
واتهمت تقارير إعلامية الوفد الأمريكي باصطحاب طبيب نفسي لتحليل شخصية الرئيس سعيد، وهو ما سعت السفارة الأمريكية بتونس لتوضيحه في 3 سبتمبر 2021، عبر التأكيد بأن الوفد الرسمي الذي التقى بسعيد يوم 13 أغسطس الماضي، تكوّن من مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى ممثلين عن البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، من دون نفي إمكانية وجود طبيب نفسي بينهم، وهو ما يعكس محاولة الإدارة الأمريكية دراسة شخصية سعيد، واستشراف توجهاته المستقبلية.
2- التواصل مع حركة النهضة: قام أعضاء الوفد الأمريكي بعقد لقاءات مع عدد من نواب البرلمان وممثلي الأحزاب السياسية بمقر السفارة الأمريكية بالعاصمة تونس، ومنهم ممثلون عن حركة النهضة، وذلك على عكس الزيارة الأولى التي اقتصرت على الاجتماع مع الرئيس سعيد فقط.
ويحمل ذلك الموقف دلالة مهمة، وهي أن واشنطن لن تكتفي بدعم الرئيس سعيد، وأن الجانب الأمريكي سوف يتجه خلال الفترة المقبلة لتفهم وجهة نظر الإخوان المسلمين، كما أن لقاء المسؤولين الأمريكيين بنواب البرلمان "المجمد" يكشف عن إمكانية اتجاه واشنطن خلال الفترة المقبلة للضغط على سعيد لوقف تجميد البرلمان، وإعادته للعمل من جديد، خاصة إذا لم يسع إلى تقديم خريطة طريق واضحة المعالم، ويقدم على إجراء انتخابات مبكرة.
ولعل ما يضفي مصداقية على هذا التحليل إعلان السفارة الأمريكية عن لقاء وفد الكونجرس ببعض نواب البرلمان من دون استخدام المصطلح الدارج في وسائل الإعلام التونسية بأنه البرلمان المجمد، فضلاً عن تكرار واشنطن مطالبتها الرئيس سعيد بضرورة العودة السريعة إلى مسار تونس كديمقراطية برلمانية.
3- تأكيد حياد واشنطن: سعت الولايات المتحدة للتأكيد على حيادها من الأزمة التونسية، وهو ما وضح في تصريحات كريس ميرفي، والتي قال فيها: "نحن لا نفضل أي طرف على آخر ولا مصلحة لنا بدفع أجندة إصلاح على أخرى. هذه المسائل متروكة للتونسيين لاتخاذ القرار"، وذلك في محاولة لدرء الاتهامات عن واشنطن بأنها تسعى لدعم حركة النهضة تحديداً من دون غيرها من القوى السياسية.
مواقف تونسية متباينة:
تبنى الرئيس التونسي والقوى السياسية التونسية عدداً من المواقف، والتي يمكن توضيحها في التالي:
1- رفض سعيد الضغوط الأمريكية: أثارت مواقف واشنطن حفيظة الرئيس سعيد، الذي أعلن خلال مقابلته وفد الكونجرس الأمريكي أن الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها تتماشى مع نص الفصل "80" من الدستور وتندرج تحت إطار الاحترام الكامل للدستور، وأن هذه الإجراءات اتخذها بغرض حماية الدولة التونسية من محاولات العبث بها، وذلك في مواجهة الاتهامات التي وجهتها إليه حركة النهضة بأن هذه الإجراءات انقلابية، وهو ما يمثل رفضاً ضمنياً من جانب سعيد للاتهامات الأمريكية.
2- إدانة التدخل الأمريكي: أعلنت بعض الأحزاب السياسية والقوى النقابية التونسية عن رفضها التحاور مع الطرف الأمريكي حول ما يجري في تونس، واعتبرت ذلك تدخلاً في الشأن التونسي الداخلي، وعلى رأسهم الاتحاد التونسي العام للشغل، وحركة الشعب والحزب الدستوري الحر التي رفضت دعوة السفارة الأمريكية بتونس لمقابلة هذا الوفد. كما نظم حزب العمال اليساري تظاهرة وسط العاصمة تونس للتعبير عن رفضه التدخلات الأمريكية في شؤون البلاد.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلاً من الحزب الدستوري الحر، والاتحاد العام التونسي للشغل، وإن طالبا الرئيس سعيد بضبط الجدول الزمني للإجراءات الاستثنائية، فإنهما رفضا لقاء الوفد الأمريكي، وهو ما يمثل انكشافاً للموقف الأمريكي، والذي سعى لتأكيد أن تدخله لا يهدف لدعم طرف على حساب آخر.
3- استقواء النهضة بواشنطن: اجتمع الوفد الأمريكي مع بعض ممثلي حركة النهضة بمقر السفارة الأمريكية بتونس، وهو ما دفع القوى المعارضة للنهضة لاتهامها بالاستقواء بواشنطن من أجل الضغط على الرئيس سعيد لإنهاء الإجراءات الاستثنائية والعودة لمرحلة ما قبل 25 يوليو الماضي.
وسعت قيادات حركة النهضة لنفي تلك الاتهامات عبر توجيه اتهامات مضادة للرئيس سعيد برفضه إجراء حوار وطني مع حركة النهضة، وادعائها بأن استمرار الرئيس التونسي في اتباع هذا النهج سوف يؤدي إلى زيادة حدة التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للبلاد، وهو ما يكشف عن إصرار النهضة على توظيف التدخل الأمريكي للعودة طرفاً في المعادلة السياسية التونسية، وبالمخالفة للإرادة الشعبية.
وفي الختام، تعكس زيارة وفد الكونجرس الأمريكي التأكيد على أهمية دور واشنطن في حل الأزمة السياسية الراهنة بتونس، وفي الوقت نفسه الحفاظ على نفوذها في منطقة شمال أفريقيا والمغرب العربي بصفة عامة. وتسعى واشنطن لإقناع الرئيس سعيد بضرورة إنهاء الحالة الاستثنائية الراهنة، والمضي قدماً في خريطة الطريق، وهو ما لاقى استهجاناً من جانب بعض الأحزاب السياسية التونسية باعتباره تدخلاً صريحاً في الشؤون الداخلية.