في السادس من ديسمبر الجاري، يتوجه الناخبون الفنزويليون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب 277 مرشحًا في الجمعية الوطنية لمدة خمس سنوات. ومنذ عام 2015، حصلت المعارضة السياسية في فنزويلا على أغلبية المقاعد في الجمعية، وهي الهيئة التي برز من خلالها "خوان جوايدو" كرئيس مؤقت للبلاد في يناير 2019، في مواجهة الرئيس الاشتراكي الحالي "نيكولاس مادورو".
وتجري هذه الانتخابات في ظل أجواء سياسية مشحونة للغاية، مع القيود الشديدة التي يفرضها نظام الرئيس "مادورو" على المعارضة السياسية، التي قررت عدم المشاركة في انتخابات 6 ديسمبر، وهو قرار أيده عشرات الدول التي اعترفت بالرئاسة المؤقتة لـ"خوان جوايدو"، خاصة مع تمسك الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بموقفهما الرافض لإرسال مراقبين إلى فنزويلا للإشراف على الانتخابات، مما أثار العديد من التساؤلات حول جدوى إجراء هذه الانتخابات في ظل مقاطعة المعارضة، والشكوك الجدية في مدى نزاهتها، إلى جانب تأثيرها المحتمل على الأزمة السياسية في فنزويلا، وكذلك المستقبل السياسي لـ"جوايدو".
أهمية خاصة:
تكتسب الانتخابات التشريعية القادمة في فنزويلا أهمية خاصة، انطلاقًا من اعتبارات عدة، من أهمها:
1- حساسية التوقيت: يأتي إجراء الانتخابات التشريعية في فنزويلا في ظل سياق اقتصادي واجتماعي وسياسي شديد التعقيد، خاصة مع ما تشهده البلاد من أزمة سياسية حادة منذ إعلان "خوان جوايدو" رئيس الجمعية الوطنية نفسه رئيسًا انتقاليًا للبلاد. علاوة على أنها تأتي متزامنةً مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة التي تعاني منها البلاد، خاصة مع ارتفاع معدل التضخم الذي يبلغ 200% تقريبًا سنويًّا، وفي ظل توقعات بانكماش الاقتصاد بنسبة تتراوح ما بين 7% و10% هذا العام. إلى جانب النقص الحاد في السلع الأساسية، بما في ذلك المواد الغذائية والأدوية، وكذلك انهيار الخدمات العامة، بما في ذلك الكهرباء والمياه والمستشفيات. وتُغذي حالة الاستياء العام معدلات مرتفعة بشكل استثنائي من جرائم العنف.
2- الوزن النسبي للمؤسسة التشريعية: تنبُع أهمية الانتخابات التشريعية القادمة في فنزويلا من الأهمية والوزن النسبي للجمعية الوطنية، التي تكاد تكون المؤسسة الوحيدة المنتخبة ديمقراطيًّا في فنزويلا، والتي تسيطر عليها القوى المعارضة لنظام الرئيس "مادورو". ليس هذا فحسب، بل إن الاعتراف الدولي بـ"خوان جوايدو" كرئيس انتقالي لفنزويلا، جاء بشكل أساسي انطلاقًا من كونه رئيسًا للجمعية الوطنية.
3-صعود "جو بايدن": تجري الانتخابات التشريعية عقب انتخاب "جو بايدن" رئيسًا جديدًا للولايات المتحدة، وما يرتبط بذلك من تداعيات محتملة على الموقف الأمريكي من الأزمة السياسية في فنزويلا. وكانت الولايات المتحدة من أوائل دول العالم التي دعمت "جوايدو"، وعملت على مساعدته في الإطاحة بـ"مادورو" من خلال فرض العقوبات الاقتصادية على السياسيين والشركات الفنزويلية، كما أرسلت المساعدات الغذائية والطبية للبلاد. إلى جانب ذلك، ساهمت إدارة الرئيس "دونالد ترامب" في الحفاظ على حملة عالمية لدعم "جوايدو"، وتعزيز شعبيته، كما لوحت بالتدخل العسكري لحل الأزمة السياسية في فنزويلا.
ومع ذلك، فشلت جهود إدارة "ترامب" في الإطاحة بـ"مادورو"، وقد انتقد الرئيس الأمريكي المنتخب "جو بايدن" السياسة المتبعة من قبل إدارة "ترامب"، وحمّلها مسؤولية الفشل في حل الأزمة الفنزويلية. وبرغم أن "بايدن" لم يُشرْ إلى أي تحول جذري في نهج واشنطن تجاه "مادورو"، لكن من المتوقع أن ينسق بشكل أكبر مع الشركاء الدوليين، خاصة الاتحاد الأوروبي. ومن المحتمل أن يواجه ضغوطًا لتخفيف بعض الإجراءات، بما في ذلك القيود على واردات فنزويلا من البنزين لأسباب إنسانية وسط جائحة فيروس كورونا.
تداعيات محتملة:
تُثير الانتخابات التشريعية في فنزويلا العديد من التساؤلات حول انعكاساتها المحتملة على الأزمة السياسية في البلاد، والاستراتيجيات التي قد تتبناها المعارضة في ضوء نتيجة الانتخابات، وكذلك تداعياتها المرتقبة على المستقبل السياسي لـ"جوايدو"، وذلك كما يتضح فيما يلي:
1-تدهور الأوضاع السياسية: يخشى الكثيرون من أن تُسهم نتيجة الانتخابات التشريعية في حدوث المزيد من تدهور الأوضاع السياسية وتفاقم الأزمة الراهنة في البلاد. ففي حال فازت المعارضة، من خلال منح نظام "مادورو" لها فرصة عادلة في التمثيل السياسي، فإنه من غير المحتمل أن تكون لديها سلطة فعلية لإحداث تغيير سياسي حقيقي أو لوقف خطط "مادورو" لإحكام سيطرته على جميع مقاليد السلطة في البلاد.
ومن المرجّح فوز الأحزاب المؤيدة لـ"مادورو"، بزعامة الحزب الاشتراكي الموحد لفنزويلا الحاكم، بأغلبية مقاعد الجمعية الوطنية، خاصة مع عدم توافر الشروط الموضوعية التي يتطلبها إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وهو ما تأكد مع قيام المحكمة العليا الفنزويلية بعزل زعماء أحزاب المعارضة، واستبدالهم بآخرين موالين للحكومة. إلى جانب إحكام "مادورو" سيطرته على المجلس الانتخابي الوطني، المسؤول عن إدارة العملية الانتخابية، لمنع المرشحين البارزين من المشاركة، ومنع بعثات المراقبة الدولية من الحضور.
وفي حال فازت الأحزاب الموالية للحكومة بالانتخابات فإن هذا قد يُنذر بانسداد الأفق السياسي لحل الأزمة الفنزويلية بالوسائل السلمية، ويُسهم في اندلاع المزيد من أعمال العنف وانعدام الأمن، ويزيد من الصعوبات التي تواجه المواطن الفنزويلي؛ حيث تتعمق الأزمات الاقتصادية والإنسانية الخطيرة في البلاد، وتتفاقم بسبب الوباء والعقوبات الأمريكية ضد نظام "مادورو"، وهو ما أدى إلى أكبر حركة هجرة جماعية في التاريخ الحديث لمنطقة أمريكا اللاتينية، مع وجود 4.5 ملايين لاجئ ومهاجر فنزويلي حول العالم، الغالبية العظمى منهم في بلدان أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي.
2- استمرار انقسام المعارضة: مع إعلان تحالف أحزاب المعارضة مقاطعتها الانتخابات التشريعية، بذريعة أنه سيتم تزويرها، فقد أعلن "هنريك كابريليس" أحد أبزر الشخصيات المعارضة ومرشح رئاسي سابق في عامي 2012 و2017، عن نية حزبه المشاركة في الانتخابات. ويمكن أن تصب هذه الخطوة في صالح الرئيس "مادورو"، ومن المرجّح أن يُشير النظام الحاكم إلى وجود المعارضة في الجمعية الوطنية للادّعاء بديمقراطية نظام حكمه. غير أن هذه الخطوة سوف تُثير مزيدًا من الشكوك حول مدى وحدة وتماسك المعارضة الفنزويلية، ويمكن أن تُسهم في إضفاء الشرعية والاعتراف الدولي بهذه الانتخابات.
لذا فإن الانتخابات المقررة في 6 ديسمبر تُمثل "لحظة تاريخية" في مسيرة المعارضة في فنزويلا. فبالرغم من استمرار اعتراف أكثر من 50 دولة بـ"جوايدو" كرئيس مؤقت لفنزويلا، لكن حملته للإطاحة بـ"مادورو" قد تعثرت حتى الآن. ومع اقتراب موعد الانتخابات، تتعرض حركة المعارضة التي يتزعمها "جوايدو" لخطر التفكك والانهيار، خاصة مع تزايد التوقعات بفشلها في الاحتفاظ بالأغلبية التشريعية في الجمعية الوطنية.
وهناك حالة من الإحباط من جانب بعض قادة أحزاب المعارضة ومنهم "هنريك كابريليس"، بسبب فشل جهود "جوايدو" للإطاحة بـ"مادورو". وفي هذا السياق، قام "كابريليس" بتوبيخ "جوايدو" علانية، حيث قال: "لا يمكننا الاستمرار في اللعب مع الحكومة على الإنترنت"، "إما أن تكون حكومة، أو أنك معارضة.. لا يمكنك أن تكون كلاهما".
3- غموض المستقبل السياسي لـ"جوايدو": من المرجح أنه في حال فشلت المعارضة بزعامة "جوايدو" في الفوز بالانتخابات التشريعية، فسوف تشهد الشهور القليلة المقبلة تدهورًا في موقفه وتراجعًا في نفوذه وسلطته في مقابل تعزيز مكانة "مادورو". وفي الوقت ذاته، ستكون شرعية "جوايدو" على المحك، خاصة أن مطالبته بالرئاسة المؤقتة للبلاد ستنتهي فعليًا في 5 يناير المقبل، بانتهاء ولاية الهيئة التشريعية الحالية، وحينها لن يكون مسؤولًا منتخبًا. وفي الوقت نفسه، يخطط "جوايدو" لإجراء استفتاء شعبي ينظّم بين 5 و12 ديسمبر لإقرار تمديد ولاية البرلمان الحالي، غير أنه يفتقر إلى الأسس الدستورية والإمكانيات العملية للقيام بذلك. وفي الوقت نفسه، ربما سيواجه "جوايدو" خطر السجن من قبل إدارة "مادورو" إذا استمر في قيادة حكومة موازية.
جدير بالذكر أنه منذ أن أعلن نفسه كرئيس مؤقت لفنزويلا في يناير 2019، فشل "جوايدو" في الإطاحة بـ"مادورو" أو إقناع أي من المؤسسات الموالية للحكومة بالوقوف إلى جانبه. وبينما لا يزال يحظى بدعم الكثير من المجتمع الدولي، فقد تضاءل الحماس الداخلي تجاه حركته .كما انخفضت نسبة التأييد الشعبي لـ"جوايدو" من 61% في أوائل عام 2019 إلى 26% في أغسطس الماضي، وهو ما تمت ترجمته في الفشل في حشد أعداد كبيرة من المتظاهرين إلى الشوارع خلال الشهور الماضية.
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن نتيجة الانتخابات التشريعية المقبلة في فنزويلا سوف تكون من العوامل الحاسمة لمستقبل الأزمة السياسية في البلاد، والتي سوف تتأثر بشكل رئيسي بالمواقف التي ستتخذها إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب "جو بايدن"، وقدرته على تشجيع المعارضة والحكومة على الدخول في مفاوضات جادة لحل الأزمة الراهنة.