أسفرت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة عن فوز نتنياهو مرة ثالثة أخرى بأكثرية الأصوات للتآلف الانتخابي الذي يمثله؛ وهكذا دخل النظام السياسي الإسرائيلي إلى الغرفة المظلمة لتشكيل الحكومة الذي كان حتى وقت كتابة هذا المقال لا يزال حائراً. الشائع أن نتيجة الانتخابات معبرة عن التفتت الشديد في الساحة السياسية، وعجز النخبة الحاكمة عن التوافق حول مستقبل إسرائيل، وهو الأمر الذي ربما يدفع الناخب الإسرائيلي مرة رابعة إلى صناديق الانتخابات.
من وجهة النظر العربية فإنَّه ليس كل ما هو شائع له أهمية بالنسبة للمصالح العربية والفلسطينية، فما يهم أكثر أن الانتخابات، وبشكل مطرد منذ الانتخابات الأولى والثانية في العام الماضي هو أن اليمين الإسرائيلي المتطرف، أو ما بات يسمى «اليمين الصلب» على حساب «اليمين الناعم» قد تقدم خلال الانتخابات الثلاث، حتى بات لديه 59 مقعداً في الكنيست أو قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة (61 مقعداً). حزب «أبيض وأزرق» بقيادة غانتس تراجع بالقدر نفسه إلى 53 مقعداً، وحدث ذلك رغم أن الخصم نتنياهو وجهت إليه اتهامات بالرشوة، وانتهاك الثقة، والاحتيال.
وفي أي مجتمع ديمقراطي، وحتى في إسرائيل، فإن مثل هذه الاتهامات لا تشكل إضافة، وإنما تشكل خصماً من سمعة المرشح وتدفع به إلى أسفل السافلين في عالم السياسة. ولكن ذلك لم يحدث، والنتيجة هي أن الناخب الإسرائيلي لم يفضل نتنياهو فقط، وإنما أرسل رسالة إلى النخبة السياسية أن عليها أن تجد طريقة لمنح رئيس الوزراء فترة ولاية خامسة؛ وقد يكون أفيغدور ليبرمان هو الذي تعنيه لكي يضم حزبه صاحب المقاعد السبعة فاقداً مقعدين، وهذه رسالة أخرى، لكي يخلص نتنياهو من مأزقه ويرفع من قدراته إلى 66 مقعداً.
ورغم أن ذلك يعني من وجهة النظر العربية ليس فقط اتجاهاً نحو اليمين المتطرف، وإنما أيضاً يعني كما ذكر صائب عريقات رفضاً للسلام، فإنَّ فوز نتنياهو يحدث مع مبادرة السلام الأميركية التي توفر له اعترافاً بالسيادة الإسرائيلية على المستوطنات في الضفة الغربية وغور نهر الأردن، ومن ثم يستطيع ضمها إلى إسرائيل. كل ذلك يمثل أخباراً سيئة بالنسبة للعرب وللفلسطينيين بوجه خاص؛ وفي العادة فإن هذه الأخبار تتراكم فوق أخبار سيئة أخرى جرت خلال أكثر من عقود سبعة سابقة حدث فيها من الذنوب والمعاصي الإسرائيلية ما يثير الغضب ويصب اللعنات على الوجود الإسرائيلي في المنطقة.
ولكن المعضلة في وجهة النظر هذه أنها تجعل مسرح الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي يجري داخل إسرائيل وحدها، سواء كانت تتجه نحو اليسار وتنتخب رابين وتفرز اتفاقيات أوسلو؛ أو كانت تفرز انتخاباتها نتنياهو أو أياً من أمثاله فيكون الاحتلال مستمراً والضم قائماً والوحشية دائمة.
ما هو مفتقد في الصورة أربعة أمور: الأول منها أن الواقع بالفعل ودون انتخابات ومساومات انتخابية هو أن إسرائيل تسيطر سيطرة كاملة أمنية وسياسية واقتصادية على الأرض من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. ورغم أن غزة تقع خارج هذا الإطار، فإنها حققت نوعاً من التعايش مع إسرائيل؛ بل إنها في مباحثات منفصلة مع الإسرائيليين تحاول بشدة التوصل إلى «هدنة ممتدة» مع إسرائيل تفاصيلها تعطي لإسرائيل تحكماً وسيطرة. والثاني أنه رغم انتخاب نتنياهو وجماعته من الأحزاب المتطرفة، فإنها وفي الجولة الانتخابية نفسها فازت القائمة العربية ولأول مرة في التاريخ على 15 مقعداً يجعلها أكبر حزب معارض في الدولة. والثالث هو أن الحصول على الحقوق «المشروعة» لا يمنعه فقط انتخاب الخصم أكثر قياداته تطرفاً، وإنما يمكن استعادة الحقوق مع هذه القيادات أيضاً.
لقد حصلت مصر على كل حقوقها المشروعة، وإلى آخر «ميلليمتر» من أراضيها من حكومة إرهابيين سابقين لا تقل تطرفاً عن نتنياهو وشركائه وهي حكومة مناحيم بيغن. ونجح الجزائريون في الحصول على حرية الجزائر من قيادة شارل ديغول اليمينية والاستعمارية أيضاً. وكان نيكسون وليس غيره هو الذي فتح الطريق للتفاوض مع الفيتناميين الذي انتهى بالحصول على الاستقلال والوحدة.
وبالطبع فإن هناك فارقاً تاريخياً كبيراً بين هذه الحالات والحالة الفلسطينية - الإسرائيلية، ولكن كذلك تجعل الاجتهاد ضرورياً ليس لتكرار الحديث عن الظلم والعدوان الإسرائيلي، وإنما كيف يمكن تحقيق الأهداف الفلسطينية في ظل هذا الواقع. والرابع أن الحقيقة التي لا تستطيع أن تفعل معها الانتخابات الإسرائيلية شيئاً هي أن هناك ستة ملايين وأكثر من الشعب الفلسطيني بين نهر الأردن والبحر المتوسط؛ وفي الانتخابات الأخيرة نجح الفلسطينيون ليس فقط في الحصول على 15 مقعداً، وإنما يضاف إلى ذلك أنه فتح الباب إلى إمكانية الحصول على ما يزيد على 20 مقعداً بأصوات عرب وإسرائيليين أيضاً.
الحقائق الأربع ينبغي لها تشكيل وجهة نظر عربية مختلفة عن وجهة النظر «الميكانيكية» التي تلقي باللائمة على تعصب وإمبريالية الإسرائيليين، فاللوم هنا لا يحرر أرضاً وإنما يضيف مرارة أو يلقي باللوم على الدول العربية، لأن الأمر ببساطة أن هناك كثيراً مما يخصها من مصالح وأعداء وخصوم؛ أو يرى الأمر كله يقود مرة أخرى إلى الكفاح المسلح أو الانتفاضة المسلحة، لأن كل ما تم بناؤه من سلطة وطنية بعد اتفاقيات أوسلو قد انتهى؛ ليس فقط بسبب العدوانية الإسرائيلية، وإنما يضاف لها أن الانتفاضة الثانية الفلسطينية كانت مسلحة في ظل تفاوت حاد في توازنات القوى، أضافت له «حماس» ضعفاً على ضعف بالانقلاب على السلطة الوطنية وانتزاع السلاح الشرعي منها، والسياسة الخارجية والأمن الوطني الذي يخص غزة وليس فلسطين. وضع كل هذه الأمور في الاعتبار يدفع في اتجاهات جديدة لرد الفعل سواء كان للمبادرة الأمريكية للسلام (صفقة القرن)، أو لنتيجة الانتخابات الإسرائيلية. أولها وضع استراتيجية سياسية واقتصادية للحفاظ على الشعب الفلسطيني في أرضه التاريخية. وثانيها منع «النكبة» من الحدوث مرة أخرى، حيث تتبنى تيارات متطرفة إسرائيلية فكرة ارتكاب سلسلة من المذابح للشعب الفلسطيني حتى يغادر أرضه ومن ثم نجد الفلسطينيين على منافذ وأسوار الدول العربية، كما نرى السوريين الآن على الحدود التركية - اليونانية. وثالثها فتح الأبواب والنوافذ للنواب العرب واليهود المشاركين معهم في الكنيست، وكل من تبقى من أنصار السلام - معرفاً باتفاقيات أوسلو والمساحة المقررة فيها للفلسطينيين - في الوسط واليمين «الناعم» للحوار والنقاش. ورابعاً الاشتباك مع المبادرة الأمريكية مع الاتفاق مع الولايات المتحدة بأن وقف إجراءات الضم والاستيطان خلال السنوات الأربع المقبلة ضرورة للمفاوضات ونجاحها. وخامساً الإعداد الدبلوماسي للمفاوضين للتعرف بالدراسة الكاملة للحالات المماثلة للكيانات السياسية في داخل دولة أخرى مثل ليسوتو وسوازيلاند في جنوب أفريقيا وجبل طارق في إسبانيا. وسادساً أن يكون هدف المفاوضات الفلسطينية تماسك الكيان الفلسطيني وارتباطه الجغرافي، وانفتاح المسالك الجغرافية إلى البحر المتوسط والبحر الميت. والفكر العربي يمكنه إنجاز ما هو أكثر من الأفكار.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط