رغم أن إيران أبدت اهتمامًا خاصًا، في البداية، بالجهود التي تبذلها فرنسا من أجل تقليص حدة الخلافات مع الولايات المتحدة الأمريكية، على نحو دفع وزير الخارجية الإيراني إلى زيارة بياريتز حيث تعقد قمة السبع الكبرى، في 25 أغسطس 2019، إلا أنها لم تتجاوب بشكل ملحوظ مع بعض الأفكار التي طرحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خاصة فيما يتعلق بعقد لقاء بين الرئيسين الإيراني حسن روحاني والأمريكي دونالد ترامب، للاتفاق على الآليات التي يمكن من خلالها احتواء التصعيد الحالي وعدم تطوره إلى مرحلة قد لا يمكن ضبط المسارات المحتملة التي ربما يتجه إليها هذا التصعيد فيها.
اعتبارات عديدة:
سعت إيران عبر إبداء دعمها الأوَّلي للجهود التي تقوم بها فرنسا، إلى تعزيز احتمالات الوصول إلى توافقات مرحلية يمكن من خلالها تقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها حاليًا بسبب العقوبات الأمريكية، والتي أدت إلى انخفاض مستوى صادراتها النفطية التي وصلت إلى 100 ألف برميل يوميًا في يوليو 2019، بعد أن كانت تبلغ نحو 2.5 مليون برميل يوميًا قبل فرض هذه العقوبات. ورغم أنه لم تتضح تفاصيل المبادرة الفرنسية، فإنها، وفقًا لتقارير عديدة، تضمنت تخفيف القيود على إيران فيما يتعلق بتصدير النفط، مقابل عودتها من جديد للالتزام بالاتفاق النووي.
لكن مع اتجاه باريس إلى طرح فكرة عقد لقاء بين روحاني وترامب، سارعت طهران إلى رفض ذلك، مشيرة إلى أن ثمة شروطًا مقابلة ينبغي وضعها في الاعتبار قبل أن تجرى مفاوضات جديدة مع واشنطن، يتمثل أهمها في عودة الأخيرة إلى الاتفاق النووي، وهو ما أشار إليه بوضوح وزير الخارجية محمد جواد ظريف، في 30 أغسطس الفائت، بقوله أنه "إذا أرادت الولايات المتحدة الأمريكية التفاوض فيجب عليها شراء تذكرة العودة إلى الاتفاق النووي".
وفي رؤية طهران، فإن عودة واشنطن للاتفاق النووي، رغم الصعوبات العديدة التي تواجهها، يمكن أن تحقق أكثر من هدف. إذ أنها ستؤدي إلى رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها وعودة الشركات الأجنبية الكبرى للاستثمار فيها من جديد. ومن هنا، حرصت إيران على توجيه إشارات بأنها غير معنية بترجمة مثل هذه الأفكار إلى خطوات على الأرض، على الأقل في هذه المرحلة، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- لقاء صور: ترى طهران أن أى لقاء محتمل قد يعقد بين روحاني وترامب يجب أن يكون نهاية للمفاوضات وليس بداية لها، بما يعني أنها تعتبر أن الأولوية بالنسبة لها تتركز في إجراء مفاوضات جديدة مع واشنطن تُهيِّئ المجال أمام عودة الأخيرة للاتفاق النووي ورفع العقوبات التي تفرضها عليها، مقابل أن تعود طهران للالتزام بالاتفاق النووي، بعد الخطوات التي اتخذتها في الفترة الأخيرة والخاصة بزيادة كمية اليورانيوم منخفض التخصيب ورفع مستواه.
وبمعنى آخر، فإن إيران لا ترغب في أن تتبنى السيناريو الكوري الشمالي، حيث عقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون لقاءات ثنائية عديدة في سنغافورة وفيتنام في 12 يونيو 2018 و27 فبراير 2019، قبل أن يعبر الأول الحدود بين الكوريتين في 30 يونيو 2019، في أول زيارة لرئيس أمريكي ما زال في منصبه، بعد لقاءه مع الأخير في المنطقة منزوعة السلاح.
وفي رؤية طهران، فإن هذه اللقاءات لم تسفر في النهاية عن نتائج إيجابية كبيرة تساعد في إنهاء الأزمة المستمرة بين واشنطن وبيونج يانج. ومن هنا، فإن اتجاهات عديدة في طهران اعتبرت أن مجرد عقد هذا اللقاء لن يحقق سوى هدفًا إعلاميًا لواشنطن، يتمثل في استجابة طهران لمطالبها بإجراء مفاوضات قبل أن تلبي الأولى شروطها الخاصة برفع العقوبات والعودة للاتفاق النووي.
ومن هنا، سارع الرئيس حسن روحاني إلى الرد على المقترح الخاص بعقد هذا اللقاء بقوله، في 26 أغسطس الفائت: "لا نريد التقاط صور مع أى أحد"، مضيفًا أنه "إذا كان الأمريكيون يسعون إلى استتباب الأمن في المنطقة ويريدون علاقات أفضل مع دولها، يجب أن يوقفوا العقوبات الجائرة".
2- ضغوط الإقليم: توازت الجهود التي تبذلها فرنسا في المرحلة الحالية مع اتجاه إسرائيل إلى توسيع نطاق المواجهة الإقليمية مع إيران لتتجاوز سوريا وتمتد إلى كل من العراق ولبنان، بعد الهجمات العديدة التي نسبت إليها واستهدفت مواقع تابعة لحزب الله اللبناني وميليشيا الحشد الشعبي العراقية.
ووفقًا لرؤية طهران، فإن مثل هذه الضربات تأتي في سياق الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي حرصت على توجيه إشارات متعددة بأن خلافاتها مع إيران لا تنحصر في الاتفاق النووي، وإنما تشمل أيضًا برنامج الصواريخ الباليستية، ونفوذ إيران في بعض دول المنطقة، لا سيما سوريا ولبنان والعراق واليمن.
ومن هنا، اعتبرت إيران أن الهدف الأساسي الذي تسعى مثل هذه الضربات إلى تحقيقه هو إضعاف موقعها في الإقليم وتقليص قدرتها على تحسين شروط التفاوض مع واشنطن، تمهيدًا لانتزاع تنازلات من جانبها في ملفات وقضايا تحظى باهتمام خاص من قبل الدول الغربية وإسرائيل.
3- نفوذ "الباسدران": ما زال الحرس الثوري حريصًا في الفترة الحالية على توجيه رسائل بأنه غير معني بالاستجابة لأية دعوة للتهدئة ووقف التصعيد الحالي، على نحو بدا جليًا في تعمده، بعد الجولة التي قام بها ظريف في بعض الدول الأوروبية، وآخرها زيارته لفرنسا مرتين في أقل من 48 ساعة، توجيه رسائل متشددة على أكثر من صعيد.
فقد كان لافتًا أن الحرس الثوري أجرى تجربة جديدة لإطلاق صاروخ في مركز الخميني الفضائي بشمال إيران، في 29 أغسطس الفائت، كان من المقرر أن يحمل قمرًا صناعيًا إلى الفضاء لكنه انفجر على منصة الإطلاق بسبب مشكلات فنية. ورغم أن التجربة فشلت، فإنها تكشف، في كل الأحوال، عن إصرار "الباسدران" على تحدي الدعوات التي تطلقها الدول الغربية بالتوقف عن إجراء أنشطة خاصة بتطوير برنامج الصواريخ الباليستية باعتبار أن ذلك يتعارض مع الاتفاق النووي وقرار مجلس الأمن رقم 2231.
وتوازى ذلك مع تأكيد تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 30 أغسطس الفائت، على أن إيران تجاوزت الحدود المسموح بها لتخصيب اليورانيوم وفقًا للاتفاق النووي، إذ وصلت كمية اليورانيوم منخفض التخصيب إلى 241.6 كيلو جرام، حيث من المفترض أن تكون عند حدود 202.8 كيلو جرام، كما بلغ مستوى التخصيب 4.5% رغم أن الاتفاق يقضي بأن يقف عند حدود 3.67%.
واللافت هو أن وسائل الإعلام الرئيسية القريبة من الحرس الثوري، على غرار وكالة أنباء "فارس"، كانت أول من سارع إلى نشر مقتطفات من هذا التقرير، على نحو يشير إلى أن إيران ما زالت حريصة على الترويج لإجراءاتها التصعيدية في الاتفاق النووي باعتبار أنها آلية تستخدمها في الرد على العقوبات الأمريكية.
وفي النهاية، يمكن القول إن جهود الوساطة التي تبذلها باريس يبدو أنها سوف تتواصل خلال المرحلة القادمة، حيث ما زالت باريس تسعى إلى ضمان استمرار العمل بالاتفاق النووي وتقليص حدة التصعيد الحالية، رغم أن إيران حريصة على وضع عقبات عديدة أمامها، خاصة فيما يتعلق بمحاولة تأجيج الأزمات الإقليمية في المنطقة في إطار تعاملها مع السياسة الأمريكية.