أدى فقدانُ الرئيس "ترامب" الأغلبيةَ الجمهورية في مجلس النواب الأمريكي إلى تغيرٍ جوهريٍّ في معادلات التوازن الحاكمة للعلاقة بين مؤسسة الرئاسة والسلطة التشريعية. فعلى الرغم من مركزية مكانة الرئيس الأمريكي في عملية صنع وتنفيذ السياسة الخارجية، فإن الأغلبية الديمقراطية بمجلس النواب بات لديها من الأدوات التشريعية والرقابية ما يُمكّنها من تحجيم سياسات "ترامب" المثيرة للجدل على المستوي الخارجي، وهو ما سيؤدي إلى تصاعد تأثير الاستقطاب والانقسامات الداخلية على السياسة الخارجية الأمريكية في عام 2019.
مسارات التغير والاستمرارية:
يؤكد البعض أن السياسة الخارجية الأمريكية سوف تشهد تحولًا جذريًّا في عام 2019 بسبب تغير تركيبة الكونجرس الأمريكي. غير أن فريقًا آخر يذهب للتأكيد على أن طبيعة النظام السياسي الأمريكي تساعد على تعزيز سلطات مجلس النواب فيما يتعلق بملفات السياسة الداخلية، بينما يسيطر الرئيس ومستشاروه على ملفات السياسة الخارجية، وهو ما يعني أن الحزب الديمقراطي قد يميل للتركيز على ملفات السياسة الداخلية، مثل: قوانين الضمان الاجتماعي التي ألغاها "ترامب"، والضرائب، وذلك استعدادًا لانتخابات 2020.
ويرى أنصار هذا الرأي أن "ترامب" سوف يميل إلى استغلال صلاحياته الواسعة فيما يتعلق بتنفيذ السياسة الخارجية ليترك بصمة خاصة فيما يتصل بالمباحثات الجارية مع كوريا الشمالية بغرض التوصل إلى صفقة، وكذلك لتجنب الانخراط المتزايد في السياسة الداخلية التي يُمكن أن تبدو معطلة؛ حيث يتطلب إنجازها توافقًا مع الديمقراطيين، وقدرة كبيرة على المساومة، وهو ما لم ينجح فيه "ترامب" طوال العامين الماضيين، ولكن قد يجبره الوضع الجديد على التعاون مع الديمقراطيين لإنجاز سياساته الداخلية المتعلقة بالاقتصاد وخلق الوظائف لكسب ثقة الطبقات الريفية التي تُعد ضمن كتلته الصلبة التي يعوّل عليها في انتخابات 2020. وعلى الرغم من صحة هذا الرأي في بعض جوانبه، إلا أن السياق الحالي قد يُمكّن الديمقراطيين من التأثير بعض الشيء على مسار السياسة الخارجية الأمريكية، وهو ما يتخوف منه "ترامب"، فعلى سبيل المثال قام "ترامب" بعد إعلان نتائج الانتخابات بإقالة وزير العدل "جيف سيشنز" الذي رفض طلبًا سابقًا لـ"ترامب" بوقف التحقيقات في قضية التواطؤ بين حملة "ترامب" وروسيا، وتعيين وكيل وزارة العدل "ماثيو ويتاكر" الموالي له، والمُعارض لما تسير فيه تحقيقات "لجنة مولر".
فعلى الرغم من اطمئنان "ترامب" إلى الأغلبية الجمهورية في حزب الشيوخ، والتي ستعارض أي تحرك من مجلس النواب لعزله؛ إلا أن ذلك لم يُقلل من تخوفاته بشأن ما قد تنتهي إليه تحقيقات "مولر"، وهو ما كان واضحًا في قراره بإقالة وزير العدل. وقد يقوم الديمقراطيون بتوظيف ورقة التدخل الروسي في الانتخابات للضغط على إدارة "ترامب".
أدوات التحجيم:
قد تلجأ الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب إلى استخدام صلاحياتها البرلمانية، مثل: الأداة التشريعية، والمساءلة والرقابة، وجلسات الاستماع؛ لممارسة الضغوط على إدارة "ترامب" بهدف إجباره على التنسيق والتوافق معهم حول قضايا السياسة الخارجية محل الخلاف، ويمكن الإشارة إلى هذه الأدوات فيما يلي:
1- الاعتمادات المالية: يستطيع الكونجرس الأمريكي الضغط على الرئيس الأمريكي عن طريق إيقاف الاعتمادات المالية اللازمة لتنفيذ مشروعات "ترامب"، مثل: إقامة جدار على الحدود مع المكسيك، وتطوير الترسانة النووية الأمريكية، بالإضافة إلى أنه قد يقلص المعونة الأجنبية التي تقدمها الولايات المتحدة لبعض الدول، أو يقوم بوضع مجموعة من الشروط الإضافية عليها.
2- إجراءات العزل: ينتظر الديمقراطيون نتائج التحقيقات التي يُمكن أن تُفضي إليها لجنة "مولر" حول التعاون بين حملة "ترامب" وروسيا خاصة بعد توصلها مؤخرًا إلى إدانة "بول مانافورت" مدير حملة "ترامب"، وعلى الرغم من تأكيد "نانسي بيلوسي" المرشحة الديمقراطية لرئاسة مجلس النواب على عدم رغبتها في تفعيل قانون المساءلة للبدء في إجراءات عزل الرئيس، إلا أن هذا الإجراء ما زال محتملًا، خاصة في ضوء ما يُمكن أن تُفضي إليه نتائج تحقيقات لجنة "مولر" إضافة إلى حالة العداء المتصاعدة بين الحزب الديمقراطي تجاه "ترامب". وتُمكِّن الأغلبية التي حصل عليها الحزب الديمقراطي في مجلس النواب من البدء في إجراءات العزل التي تتطلب أغلبية بسيطة (50%+1). ورغم عدم جدواها بسبب الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ إلا أنه قد يتم اللجوء إليها للضغط على "ترامب" والتغلب عليه في انتخابات 2020.
3- جلسات الاستماع: يُمكن أن تلجأ الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب إلى تفعيل أداة الاستدعاء للاستماع لشهادات مسئولي الإدارات الحكومية للتحقيق في قضايا التهرب الضريبي للرئيس "ترامب"، والتدخل الروسي في الانتخابات، بالإضافة إلى رغبتهم في التوصل إلى معلومات حول ما تم في اللقاء الذي جمع بين "ترامب" والرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في يوليو 2018 بالعاصمة الفنلندية هلسنكي، وكذلك المفاوضات التي تُجريها إدارة "ترامب" مع كوريا الشمالية فيما يتصل بمشروعها النووي.
قضايا السياسة الخارجية:
من المتوقع أن يهتم الكونجرس في تشكليته الجديدة بعددٍ من القضايا في عام 2019، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:
1- الحروب التجارية: من المتوقع ألا يشهد ملف الحروب التجارية والسياسات الحمائية خلافًا كبيرًا بين الجمهوريين والديمقراطيين في مجلس النواب، لا سيما وأن هناك انقسامًا داخل الحزب الديمقراطي حول هذا الملف. وعلى الرغم من ذلك، ستعمل الأغلبية الديمقراطية على الحفاظ على علاقات متوازنة مع الصين باعتبارها شريكًا استراتيجيًّا في الحوار مع كوريا الشمالية، بالإضافة إلى تبنيهم قوانين تتيح لهم الحفاظ على العلاقات مع الحلفاء مثل اليابان والاتحاد الأوروبي.
2- العقوبات على روسيا: يتشدد الديمقراطيون في العلاقة مع روسيا؛ إذ يرى النائب الديمقراطي "ليوت إنجل" -والذي من المتوقع أن يرأس لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب- أنّ تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية لا يُمكن أن يمر دون محاسبة. وسيعمل الديمقراطيون على زيادة العقوبات المفروضة على روسيا خاصة في ضوء التصعيد الأخير الذي تشهده الحدود الأوكرانية الروسية، وتصاعد الانخراط الروسي في سوريا. وعلى الرغم من تصديق "ترامب" على العقوبات المفروضة على روسيا، إلا أن الديمقراطيين لا يزال لديهم شك في علاقة "ترامب" مع روسيا.
3- كوريا الشمالية: على الرغم من تأكيد الديمقراطيين على ضرورة الحوار مع كوريا الشمالية، إلا أنهم يشككون في قدرة إدارة "ترامب" على التفاوض، مُبدين تخوفهم من هرولة "ترامب" لعقد صفقة نووية قد تكون مجحفة للولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين، وتزداد هذه المخاوف بسبب عدم اطلاع أعضاء الكونجرس على التفاصيل الكاملة حول هذا الملف، ومن المتوقع أن يشهد عام 2019 عقد جلسات استماع بمجلس النواب للوقوف على ما توصل له "ترامب" مع كوريا الشمالية.
4- سياسات الهجرة: من المتوقع أن يعمل الديمقراطيون على كبح جماح "ترامب" فيما يتعلق بسياسات الهجرة خلال عام 2019 خاصة بعد زيادة انتقاداتهم لسياسة الرئيس الأمريكي في التعامل مع قافلة المهاجرين القادمة من أمريكا الوسطى على الحدود الأمريكية المكسيكية. وفي السياق ذاته، سيعمل "ترامب" خلال عام 2019 للحصول على موافقة مجلس النواب على المخصصات المالية اللازمة لبناء الجدار الذي يرغب في بنائه على طول الحدود الأمريكية المكسيكية، وهو ما قد ترفضه الأغلبية الديمقراطية التي تبدو أقل تشددًا فيما يرتبط بملف الهجرة واللجوء.
5- الاتفاق النووي الإيراني: على الرغم من معارضة الديمقراطيين لنهج "ترامب" المتشدد تجاه طهران، إلا أنهم لا يُمكنهم إلغاء العقوبات المفروضة على طهران. وقد يتدخل الديمقراطيون مستقبلًا لمنع فرض مزيد من العقوبات على طهران، بيد أن العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران ليست فعالة بعدما قامت الولايات المتحدة بمنح استثناءات واسعة لبعض الدول الأوروبية والآسيوية المستوردة للنفط الإيراني من العقوبات.
ختامًا، يتوقع أن يهيمن الاستقطاب بين الجمهوريين والديمقراطيين بحيث يتعمد الديمقراطيون تعطيل أغلب التشريعات التي يدعمها "ترامب"، في مقابل تصعيد "ترامب" لخطابه العدائي تجاه الديمقراطيين، واتهامهم بمحاولة إعاقة تنفيذ تعهداته للناخبين، وستكون "صفقات اللحظة الأخيرة" هي المسار الحاكم لإدارة التفاعلات بين الطرفين في عام 2019.