ثمة مشكلة جوهرية في المفاوضات الجارية بشأن الأزمة السورية، وتكمن فيما يسمى "سوريا المُغلقة" على نظام الأسد، حيث إن تغيير هويتها لتصبح "سوريا الجديدة ما بعد الأسد" هو شرط بدء التفاوض، وخروج الصراع السوري من حالته الراهنة. غير أن النِظام السوري ما زال مُصراً على أن سوريا بحالتها السياسية ونِظامها الحاكم ومجالها الداخلي العام وهويتها ومُستقبلها المنظور، ليست هي المسألة التي يجب أن يُتفاوض عليها.
وما تعنيه "سوريا الجديدة" هو أن تخرج مؤسسات الدولة السورية وأجهزتها العامة من سُلطة تيار أو عائلة أو طبقة سياسية بعينها، وأن تغدو عامة وشفافة ولكُل السوريين، بأكبر قدر من المساواة فيما بينهم. وهو شيء يعني فعلياً إزالة القداسة والامتياز والاستثناء عن أي من السوريين، طبقة أو طائفة أو مؤسسات أو أشخاص أو أجهزة. وبذلك يغدو المجال العام السوري بكُل تفاصيله وأدواته وشروطه مُتاحاً لكُل السوريين، ليتصارعوا فيما بينهم فيما بعد، بالسلوكيات التقليدية غير العنيفة.
بهذا المعنى، يُمكن اعتبار الاعتراف والقبول بذلك شرطاً أولياً لبدء المرحلة الانتقالية في سوريا، وبالتالي التحول من سوريا القديمة إلى نظيرتها الجديدة، أو سوريا ما بعد نظام الأسد، إذ إن أي شيء من دون ذلك، إنما هو استمرار لسوريا "الأسدية".
لكن يبدو أن القبول بهذا الشرط في المفاوضات شبه مستحيل من قِبل النِظام السوري، وطبقته الحاكمة، وحلفائه الإقليميين والدوليين، لأسباب ودواعٍ تتعلق بالمصالح المرتبطة بكل فئة من هذه المستويات الثلاثة.
تحدي النظام السوري
بالمعنى الموضوعي، فإن النظام السوري يعني تلك الأجهزة الأمنية والعسكرية العُليّا المُسيطرة، وتتحكم في الحياة العامة في البِلاد، بينما تعد باقي المؤسسات الأخرى، التشريعية والتنفيذية والقضائية، شكلية ووظيفية وخاضعة تماماً لإرادة هذه الأجهزة وتفاعلاتها ومصالحها.
وبالنسبة لهذه الأجهزة، حيث يُقارب أعداد القيادات العُليا منها عشرات الآلاف من الضُباط، فإن "سوريا الجديدة" تعني لها ثلاث قضايا مُرتبطة بها: أولاها أن تخسر كُل امتيازاتها وسُلطاتها الاستثنائية. وثانيتها أن تكون هذه الأجهزة عُرضة لأن يتم فضح جميع سلوكياتها وممارساتها و"جرائمها" التي كانت، فـ"سوريا الجديدة" لا يُمكن التحكم في أي خطاب وإعلام عام بها. وثالثتها أن تكون قابلة لأن تتعرض للمُحاكمة عن مُمارساتها الماضية، فالضمانات التي يُمكن أن تُقدم راهناً في جولات التفاوض ومن قِبل القوى الدولية التي تُدير المسألة السورية الراهنة، لن تغدو لها أية قيمة قانونية وسياسية فيما لو تجاوزت سوريا ظروفها الحالية.
ما سبق يكاد يعني أن يقبل النِظام السوري، المُتمثل في هذه الأجهزة الأمنية، بـ"الانتحار الذاتي". فحتى لو تضمنت مفاوضات السلام شرط إصدارِ عفوٍ عام عن مُجمل الأعمال والأشخاص الذين مارسوا انتهاكات قبل تاريخ إقرار السلام، لكن المُعضلة تكمن في أن "سوريا الجديدة" تعني تحديداً خلع هذه الطبقة من الفاعلين الأمنيين والعسكريين في النِظام السوري؛ لأنهم حتى لو تحولوا إلى العمل السياسي أو المدني، مثلما جرى في لبنان وباقي الدول التي جرت فيها حروب أهلية، مثل التي في سوريا، فإنهم سيكونون في أضعف حالاتهم وتحت سُلطة المحاسبة الأدبية والسياسية على الدوام، لأنهم بالضبط سيكونون مُمثلين لأقلية سُكانية وسياسية واضحة، وليس لطبقة سياسية وسُكانية تستطيع أن تخلق توازناً مع باقي الطيف السياسي الذي سيصعد مع "سوريا الجديدة"، والذي سيمثل "الأغلبية الأهلية" السورية.
فسوريا تفتقد توازناً سكانياً/ طائفياً مثل الذي في باقي الدول التي حدثت بها حروب أهلية طويلة، ثم توقفت بالقبول بالتوازن السياسي بين الطوائف السُكانية المُتقاتلة، وبالتالي بالتوازن بين نُخبها الطائفية الحاكمة للدولة فيما بعد.
تحدي الطبقة الاجتماعية الموالية للنِظام السوري
بمستوى مواز لما سبق، فإن الطبقة الاجتماعية الموالية للنِظام السوري ستفقد أغلبيتها السياسية المُطلقة على البِلاد، لتغدو أقلية واضحة المعالم.
فحتى لو لم تكن هذه "الطبقة الموالية" تعني الأغلبية المُطلقة من الطائفة العلوية فحسب، واعتبارها "طبقة" تضم تيارات واسعة من الطوائف السورية الأخرى، سواء من الأقليات الطائفية السورية، أو من النُخب السياسية والتجارية "السُنية"، فهي بمجموعها تشكل أقلية واضحة جداً، وتماسكها أيضاً قائم بالأساس على الإمساك بمؤسسات وأجهزة السُلطة؛ أي أنه لو تفككت هذه السُلطة وفقدت هيمنتها على هذه المؤسسات، فإن هذه الطبقة سوف تتفكك فيما بينها، وتتحول إلى أقليات سياسية وصغيرة جداً.
وقد يُعزز من ذلك، كون طبقة الحُكم المُهيمنة في "سوريا الجديد ما بعد الأسد" ستكون حتى فترة طويلة بيد نُخب طائفة الأغلبية الأهلية السُكانية. فسوريا بشكل فعلي تفتقد كُل التيارات والنزعات الأيديولوجية السياسية، ولا يوجد بها سوى الحساسيات الأهلية لتتحول إلى طبقات سياسية. بهذا المعنى، فإن الطبقة الموالية للنِظام السوري، تُدرك تماماً أنها لا تستطيع أن تُكوّن أية "أغلبية سياسية" أخرى في "سوريا الجديدة".
من ناحية أخرى، فهذه الطبقة الموالية ليست مُجرد مجموعة سُكانية طائفية أو سياسية تُوالي النِظام السوري الحاكم، بل هي قائمة في بنيتها الجوهرية على شبكة واسعة من المصالح الاقتصادية والمؤسساتية والبيروقراطية الثابتة والمُسيطرة على البِلاد منذ قُرابة نصف قرن، وبالاعتماد بالأساس على هيمنة النِظام السوري المُطلقة على اللعبة السياسية والاقتصادية والقضائية والتشريعية في البِلاد. وذلك يعني أن هذه الطبقة سوف تخسر موقعها الامتيازي والمُهمين على المُجتمع السوري، وستحتاج إلى زمن طويل لإعادة ترتيب شبكة مصالحها الاقتصادية، عبر التشارك مع الطبقات الاقتصادية الصاعدة، أو عبر تمركزها في مناطق بعينها تُشكل فيها هذه الطبقة الموالية أغلبية سُكانية واضحة.
تحدي القوى الإقليمية والدولية الداعمة للنِظام السوري
آخر الأطراف التي يُمكن أن تخسر مواقعها الامتيازية هي القوى الإقليمية والدولية الداعمة للنِظام السوري، وبصفة خاصة إيران وروسيا.
فإيران تعتبر سوريا قاعدتها السياسية الأكثر ثباتاً في شرق المتوسط، وأداتها لخلق نفوذ سياسي في العالم العربي، حيث تحولت سوريا مُنذ حُكم بشار الأسد من شريك للسياسية الإيرانية الإقليمية، إلى مُجرد أداة لها في اللعبة الإقليمية.
وتعرف طهران جيداً أنها لا تستطيع أن تُشكل في "سوريا الجديدة" منطقة نفوذ مُطابقة لما تفعله في كُل من لبنان والعِراق، حيث نفوذها في هذين البلدين وإن كان نسبياً، لكنه يبقى النفوذ الأقوى، لأسباب ومُسببات مُركبة. وتُدرك إيران أنها لا تستطيع أن تخلق المستوى نفسه من النفوذ فيما لو خرجت مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية والأمنية من السيطرة المُطلقة للطبقة الراهنة الموالية لها، وأن سعيها لتشكيل فصيل عسكري من خارج نِصاب مؤسسات الدولة مثل حزب الله في لُبنان، سيبوء بالفشل تماماً، لتعقيدات المسألة السورية، ولسلوكيات إيران في الحرب السورية الراهنة. وعلاوة على ذلك، فإن إيران تفتقد أي حظوظ لتشكيل أية أغلبية سياسية برلمانية سورية، كما تفعل حالياً في العِراق.
الأمر ذاته ينطبق بشكل نسبي على روسيا نفسها، وذلك لما حدث من قطيعة بينها وبين جزء واسع من السوريين، جراء موقفها من الثورة السورية مُنذ اندلاعها. وتُدرك موسكو أن كُل التطمينات التي تسعى المُعارضة السورية لأن تُقدمها لها بحفظ نفوذها في سوريا المُستقبل، لن تكون ذات معنى فيما لو تغيرت الأوضاع. كما تُدرك روسيا بعمق فُقدانها أي أغراء ونفوذ على الكيانات والأنظمة التي تتمتع سُلطة الحُكم بها بنسبة معقولة من شرعية التمثيل السياسي، وأنها فقط تستطيع أن تحتفظ بنفوذها على أنظمة الحُكم التي تُعاني مُعضلة التمثيل هذه، ومن رفض عام لسلوكياتها من قِبل الولايات المُتحدة والدول الأوروبية.
وبناءً عليه، فإن الرئيس بوتين يُدرك في قرارة نفسه أن "سوريا ما بعد الأسد" تعني بشكل عملي خروجها من دائرة النفوذ الروسي.
ختاماً، من خلال النظر لكُل هذه العقبات أمام خيار "سوريا الجديدة ما بعد الأسد"، الذي يُشكل بدوره شرطاً جوهرياً وتأسيسياً للخوض في أية عملية تفاوض سورية ما، يبدو أن المسألة السورية ما زالت بعيدة عن أي حل في المستقبل القريب. كما يبدو أن قراراً أمريكياً/ دولياً بالخوض الجدي في هذا الشرط، قادر على حلحلة كُل ذلك، ولو بشكل نسبي، وهو ما ستكشف عنه مُجريات مفاوضات جنيف في شهورها القليلة القادمة.