أسفرت الموجة الراهنة من الصراعات المسلحة العربية، وتحديدًا في سوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال وجنوب السودان، وما انطوت عليه من مواجهات بين الجيوش النظامية وقوات التحالف الدولي من جانب والتنظيمات الإرهابية من جانب آخر، والحروب الميدانية بين الميلشيات المسلحة، عن فقدان الكثير من الأطفال (الذين تتراوح أعمارهم ما بين يوم و15 عامًا) لعائلاتهم، سواء توفوا أو اختطفوا أو فروا لوجهات أخرى دون تحديد مكان إقامتهم، وهو ما عبرت عنه الناشطة الإغاثية دانيال أباتي في مؤسسة "Save the children" في 4 يوليو 2017 بقولها: "إنهم يهربون من أوضاع تعرضوا فيها للموت"، على نحو يعكس زيادة تنقلهم بين مناطق جغرافية مختلفة، وهو ما يضعف من احتمال لم شمل الأسرة مرة أخرى.
وإذا كان هذا واقع الأطفال الفاقدين لذويهم، إكراهًا أو طوعًا، فإن بقاء الأطفال مع أسرهم ليس أفضل حالاً، وهو ليس وليد اليوم بل يتوازى مع تطور "دورة الصراع". فقد حذر التقرير الأممي الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعام 2013 من أن "جيلاً كاملاً من الأطفال السوريين في خطر، وبينما يشهد ملايين الأطفال داخل سوريا والمنطقة ضياع ماضيهم ومستقبلهم وسط الركام والدمار في هذا النزاع الذي طال أمده، تتزايد كل يوم مخاطر ضياع جيل بأكمله". ويقصد بتلك الأجيال الضائعة الأطفال المحرومة من فرص في الالتحاق بالتعليم والحصول على الرعاية الصحية أو امتلاك المهارات اللازمة ليصبحوا أعضاء منتجين في المجتمع.
فضلا عن ذلك، هناك شرائح من الأطفال ولدوا خلال فترة الحرب السورية ولم يتم تسجيلهم في السجلات الرسمية، وبعضهم تم تسجيله باعتباره "مجهول الأب"، لأن والده محسوب على قوى المعارضة المسلحة، حيث لا تجرؤ أم المولود، وفقًا لتقارير عديدة، على التصريح بذلك خشية الاعتقال. ويشكل هؤلاء الأطفال شريحة آخذة في الاتساع في مناطق سيطرة النظام. وقد عبر عن هذا القلق مبعوث الأمم المتحدة لدى سوريا ستيفان دي ميستورا، في 14 أغسطس 2015، قائلاً: "لدينا جيل كامل من السوريين، أطفال صغار، لم يشهدوا سوى الحرب".
أطفال الموصل:
يقع الأطفال في بؤر الصراعات العربية في خانة الفئات المستضعفة، من خلال عيشهم في بيئة فقيرة، وغير آمنة، ويصبحون أهدافًا محددة لمختلف أشكال الاستغلال من قبيل التجنيد في أوساط التنظيمات الإرهابية والميلشيات المسلحة والجماعات الإجرامية، وهو ما ينطبق على حال المئات من أطفال الموصل، وخاصة خلال الشهور التسع الماضية، والتي ازدادت فيها المواجهات بين القوات العراقية والتحالف الدولي في مواجهة تنظيم "داعش".
ووفقًا لما تشير إليه "اليونيسيف" في بيان صادر في 30 يوليو الماضي: "تم العثور على أطفال في حالة صدمة وسط الركام أو في أنفاق في الموصل. بعضهم فقد عائلته أثناء الفرار إلى الأمان. غير أن بعض الآباء اضطروا أحيانًا إلى التخلي عن أطفالهم أو تركهم لآخرين". وأضاف البيان: "إن الكثيرين من الأطفال أُرغموا على القتال أو ارتكاب أفعال عنف. كما تعرض الأطفال للعنف الجنسي".
ولم يقتصر الوضع على أطفال العراق وإنما امتد ليشمل أطفال سوريا، حيث قال سجاد مالك ممثل مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين في سوريا، في 13 يوليو 2017: "هناك حرب حاليًا للقضاء على داعش، لكن في خضم العملية ينبغي أن نحاول حماية المدنيين"، وأوضح أنه "إذا انتهت العمليات العسكرية في الرقة سيعاني الناس من أزمة إنسانية وصدمات، وإن الكثير من الأطفال تنتابهم حاليًا نوبات خوف من أصوات الطائرات.. وسيستغرق ذلك وقتًا أطول كثيرًا حتى يعودون إلى طبيعتهم".
ثمة مجموعة من العوامل التي تسهم في ازدياد تعقيد ملف الأطفال التائهين في بؤر الصراعات المسلحة العربية، ويتمثل أبرزها في:
صراعات معقدة:
1- تعقد الصراعات العربية المسلحة: إذ أن الأطفال هم أكثر الشرائح تضررًا من استمرار تلك الصراعات، فعلى سبيل المثال، تزايدت حدة أزمة اللاجئين في جنوب السودان خلال السنوات الأربع الماضية مع فرار نحو 1,8 مليون شخص من قراهم ومدنهم، وقد أحصت الأمم المتحدة بينهم نحو مليون طفل. وفُصل نحو 75 ألفًا عن عائلاتهم ولم يعد لهم أقارب، ويصعب التعرف على عائلات الأطفال التائهين في ظل الفوضى الحاكمة للتفاعلات داخل البلاد، فضلا عن فرار تلك العائلات من جنوب السودان إلى أوغندا وكينيا والسودان وإريتريا.
فثمة تأثيرات حادة للحرب في جنوب السودان على شريحة الأطفال، بحيث أن واحدًا من كل خمسة أُجبر على النزوح. ووفقًا لرؤية العاملين في شئون الإغاثة، فإنهم يشاهدون باستمرار عبور أطفال الحدود من جنوب السودان، سواء كانوا بصحبة كبار غرباء عنهم، أو بمفردهم.
أشبال الخلافة:
2- وقود البقاء للتنظيمات الإرهابية: إن ثمة اتجاهًا متزايدًا لتجنيد الأطفال داخل ساحات القتال في صفوف أطراف الصراع، إذ إن المجندين الأصغر سنًا في تنظيم "داعش" أطفال يتامى ومهجورون ومختطفون، فيما يطلق عليهم "أشبال الخلافة"، لا سيما مع صمود بضعة جيوب للتنظيم في سوريا والعراق بدرجة أقل.
ويزيد ذلك في شرائح الأطفال اللاجئين الذين أصابهم الملل من العمل لساعات طويلة في المصانع مقابل أجور ضئيلة في مقابل الأجور المغرية التي يحصلون عليها من جراء الانخراط في ساحات القتال. وقد عبر عن هذا المعنى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق جوردون براون قائلا: "إن الأطفال النازحين هم أكثر عرضة ليصبحوا أصغر العمال في المصانع وأصغر العرائس وأصغر الجنود في الخنادق".
جيوش جوالة:
3- تجنيد المقاتلين في صفوف الجيوش الموازية: حيث تقوم الميلشيات المسلحة (وبصفة خاصة قوات سوريا الديمقراطية الهجينة من مقاتلين عرب وأكراد)، التي تحل محل تنظيم "داعش" في مناطق تراجع نفوذه في سوريا، بتجنيد الأطفال للقتال، من خلال الخطب العامة أو عبر شبكة الإنترنت، عن طريق الإغراء بالأموال والتزويد بالأسلحة، والجمع بين التشدد الديني والتدريب العسكري، والشعور المتغلغل بالانتماء.
كما انخرطت ميلشيا "الحشد الشعبي" في عمليات خطف للأطفال في بعض البلدات العراقية مثل الصقلاوية بالأنبار في عام 2016، لا سيما في ظل غياب المحاسبة القضائية، وهو ما حدث أثناء عمليات عسكرية لاستعادة مدينة الفلوجة وهى كبرى مدن محافظة الأنبار ذات الغالبية السنية والمناطق المحيطة بها، من سيطرة تنظيم "داعش"، فقد تم فصلهم عن عائلاتهم، ونقلهم إلى مباني سكنية ومحلات تجارية مهجورة، وصادروا وثائقهم الشخصية وهواتفهم الجوالة ومقتنياتهم، ولا يزال مصيرهم مجهولاً.
شبكات إجرامية:
4- العمل ضمن الشبكات الإجرامية: على نحو ما عكسته ظواهر عصابات أولاد الشوارع داخل سوريا، التي تمتهن التسول والسرقة، وخاصة في السنوات التي تلت عام 2011. وهنا تجدر الإشارة إلى أن القانون السوري يمنع عمل الأطفال تحت سن 15 عامًا، ليسمح فقط بعمل الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و18 عامًا ضمن شروط محددة. لكن مئات الأطفال البالغ أعمارهم ما بين 6 إلى 15 عامًا في سوق العمل جراء الحرب وفقدان المعيل.
ذكريات العنف:
5- مقاومة الأطفال لخيار العودة مع أسرهم: فهناك بيئة صادمة للغاية يعرفها الأطفال ولا يودون العودة إليها مرة أخرى تجنبًا لذكريات العنف المفرط. ففي بعض الحالات، يرفض الأطفال أنفسهم العودة إلى أهلهم لأن ذلك قد يعني بالنسبة إليهم العودة إلى الحرب التي هربوا منها، على نحو ما حدث بالنسبة لحالات من الأطفال القادمين من جنوب السودان. وقد يكون ذلك بناء على رغبة الأهل، في بعض الأحيان، لمنح الأطفال فرصة جديدة في الحياة.
عقاب مجتمعي:
6- عدم تقبل قطاعات من المجتمع في بؤر الصراعات لانتماءات بعض الأطفال: لا سيما أن أسرهم قد تكون متورطة في دعم "داعش"، الذي ارتكب عمليات قتل لآلاف من الأفراد، وساهم في تشريد الأسر وتدمير البنية التحتية في المناطق التي سيطر عليها، وهو ما يفسر احتجاز عائلات الجهاديين في أماكن معزولة داخل العراق، الأمر الذي يشير إلى ظهور جيل من المنبوذين. وحتى عندما يتم التعرف على مكان وجود أقارب لهؤلاء الأطفال، يرفض البعض التكفل بهم.
هيئات محدودة:
7- قلة عدد المؤسسات التي تقدم الخدمات المختلفة: على غرار المنظمات الإغاثية الدولية والإقليمية المعنية بتوفير الخدمات المتخصصة الطبية وخاصة الرعاية النفسية، في الوقت الذي تفتقر الحكومات إلى الموارد المالية والبنية التحتية لمواجهة هذا التحدي، لا سيما في ظل ضخامة التحديات التي تواجهها دول الصراعات العربية.
غير أن ثمة نماذج قليلة تقوم بتلك الخدمات في بعض بؤر الصراعات مثل مركز الهلال الأحمر في مصراتة بغرب ليبيا حيث يساهم الأخير في تأهيل الأطفال اليتامى والفاقدين لذويهم (المنتمين لجنسيات مختلفة من تونس والسنغال ونيجيريا والنيجر والصومال) على الصعيدين النفسي والصحي بعد أن عانوا بدرجات مختلفة سواء من نقص الأطعمة والمياه والأدوية والفزع من سماع أصوات الرصاص أو من التعرض لإصابات خطيرة ناتجة عن أعيرة نارية في الرأس والصدر والقدمين وهو ما استلزم تركيب أطراف صناعية في بعض الأحيان.
جهود متوازية:
إن التوصل لحلول ناجحة بشأن الأطفال التائهين في بؤر الصراعات المسلحة العربية سيستغرق وقتًا طويلاً، وفقًا لمجموعة من الإجراءات، التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- التوصل إلى تسوية لتلك الصراعات المزمنة، وهو المسار المتعثر حدوثه في تلك المرحلة لأسباب تتعلق بتعقيدات تلك الصراعات من حيث أطرافها المحليين والقضايا الخلافية التي ترتبط بالسلطة والثروة، وتدخلات الأطراف الإقليمية ذات الأجندات المتباينة، وتبلور شبكة ضخمة لاقتصاديات الصراعات الداخلية، وعدم الوصول إلى ما يطلق عليه "لحظة إنضاج الصراع"، بما يعزز من استمراره ويحول دون تسويته.
2- استعادة القوات الحكومية السيطرة على المناطق التي كانت بحوزة الفواعل المسلحة العنيفة ما دون الدولة، خاصة أن انتصار القوات النظامية على الفاعلين العنيفين لا يكفي لإنهاء مشكلات المدنيين. وفي هذا السياق، قال المجلس النرويجي للاجئين – وهو يضم عدة حكومات ومنظمات دولية مساهمة في جهود الإغاثة وإعادة التأهيل- في بيان صادر في 19 يوليو 2017: "نهاية معركة الموصل ليست نهاية محنة المدنيين. الوضع الإنساني ليس خطيرًا، فحسب بل قد يتفاقم".
3- زيادة أعداد وكالات حماية الأطفال، حيث تعمل تلك الوكالات أو منظمات الإغاثة على لم شمل هؤلاء الأطفال مع عائلاتهم مرة أخرى، فتبدأ في مهمة التعرف على هؤلاء الأطفال في المواقع الميدانية التي تشهد تدفقات للمدنيين، وتقوم بتأسيس نقاط للتسجيل، ويتم تكليف فرق متنقلة متخصصة في حماية الأطفال بزيارة المنازل بهدف الوصول إلى الأوصياء القانونيين (الأب أو الأم أو الأخوة) أو أحد الأطفال.
4- توثيق العلاقات بين منظمة "اليونيسيف" وحماية الأطفال والمفوضية العليا لشئون اللاجئين، وذلك بهدف التقليل من حدة الأزمات التي يواجهها أطفال الصراعات وخاصة الأطفال الرضع. وفي حال التعثر في الوصول إلى الأهل أو الأقارب يتم إسكان الأطفال التائهين في بعض المخيمات مع بعض الأسر بشكل مؤقت، وقد يتم نقلهم إلى بيوت رعاية بموافقة حكومية، وفي حال إخفاق الجهود السابقة يتم اللجوء إلى برنامج للتبني.
5- توظيف وسائل التواصل الاجتماعي للمساعدة في مهمة البحث عن عائلة الأطفال، من خلال نشر صورة الطفل واسمه الكامل الصحيح وطلب المساعدة في الوصول إلى أى من أفراد عائلته.
إرث الصراعات:
خلاصة القول، تكررت حالات ضياع الأطفال في بعض مناطق الصراعات العربية، سواء طوعًا أو إكراهًا، ويظل أحد التحديات الرئيسية التي تواجه المنظمات الإغاثية الإنسانية والمؤسسات الأممية المعنية بالطفولة "اليونيسيف" يتعلق بتوفير حماية للأطفال، وخاصة لمن فقدوا ذويهم، لأن لذلك عواقب طويلة المدى على مستقبل دول الصراعات، لا تقتصر على البنية التحتية المتضررة والاقتصاد المتهالك وإنما تمتد إلى كيفية استيعاب "أشبال" التنظيمات الإرهابية والميلشيات المسلحة الذين يقاتلون على الخطوط الأمامية. هذا بخلاف الجروح الخفية المرتبطة بتأثير الصراعات الداخلية على الصحة النفسية للأطفال في بؤر الصراعات العربية.