أظهرت نتائج الاستفتاء على تعديلات الدستور التركي، التي تقضي بالتحول نحو النظام الرئاسي حيث يتمتع رئيس الجمهورية بصلاحيات تنفيذية واسعة، والذي أجري في 16 إبريل الجاري، تأييد الناخبين الأتراك للتعديلات الدستورية بنسبة 51.2% (24.32 مليون ناخب) مقابل 48.8% (23.2 مليون ناخب) رفضوا التعديلات الدستورية بنسبة مشاركة بلغت 85.46% (49.62 مليون ناخب من أصل 58.36 مليون ناخب مسجلين)، وهو ما اعتبره الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" "نصرًا لتركيا بأسرها"، في الوقت الذي رفض فيه أبرز حزبين معارضين في تركيا "الشعب الجمهوري" و"الشعوب الديمقراطية" الكردي نتائج الاستفتاء، متهمين الحكومة بالتلاعب بنتائجه.
ومن المقرر أن يطبق النظام الرئاسي الجديد مع الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر إجراؤها في 3 نوفمبر 2019، وفقًا للتعديلات الدستورية الجديدة.
وتحمل نتائج الاستفتاء التركي التي جاءت مؤيدة للتحول نحو النظام الرئاسي مجموعة من الدلالات والتداعيات المستقبلية على الداخل التركي والسياسة الخارجية التركية وهو ما سيلي تفصيله.
مضمون التعديلات الدستورية:
اشتملت التعديلات الدستورية على 18 مادة يرتكز جوهر مضمونها -في الأساس- على تحويل نظام الحكم في تركيا من نظام برلماني يتمتع فيه رئيس الجمهورية بصلاحيات تنفيذية محدودة مقارنة بتلك الممنوحة لرئيس الحكومة -وهو السائد حاليًّا في تركيا- إلى نظام رئاسي يتمتع فيه رئيس الجمهورية بصلاحيات تنفيذية واسعة.
ومن أبرز الصلاحيات التنفيذية الممنوحة لرئيس الجمهورية وفقًا للتعديلات الدستورية الجديدة، أنه رأس الدولة وتصبح السلطة التنفيذية في البلاد بيده بعد إلغاء منصب رئيس الوزراء، ويعين الرئيس نوابه والوزراء وإداريي الدولة، وله سلطة إنهاء مهامهم وحجب الثقة عنهم، ويكون نواب الرئيس والوزراء مسئولين أمام الرئيس وليس البرلمان، ويحصلون على الثقة مباشرة منه بشكل تلقائي، كون رئيس الجمهورية قد حصل على الثقة مباشرة من الشعب.
ورئيس الجمهورية، وفقًا للتعديلات الدستورية التي تم الموافقة عليها، هو المسئول عن صياغة السياسة الداخلية والخارجية للدولة، وإعداد الموازنة العامة للدولة، وتقديمها للبرلمان. ومن صلاحياته أيضًا إعلان حالة الطوارئ لمدة لا تتجاوز 6 أشهر، وتعيين 4 من أعضاء مجلس القضاة من أصل 13، فضلا عن تعيين وزير العدل رئيسًا للمجلس. وتعطي التعديلات الدستورية رئيس الجمهورية الحق في التمسك بصفته الحزبية بعدما كان القانون يُلزم الرئيس بقطع صلته بالحزب الذي ينتسب إليه بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية.
ووفقًا للتعديلات الدستورية فقد زاد عدد نواب البرلمان من 550 إلى 600 عضو، مع خفض سن الترشح للانتخابات البرلمانية من 25 إلى 18 سنة، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية كل خمس سنوات في يوم واحد، وتم تحديد 3 نوفمبر 2019 موعدًا لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
اتهامات بالتلاعب في نتائج الاستفتاء:
عقب إظهار النتائج الأولية للاستفتاء موافقة الناخبين الأتراك على التعديلات الدستورية بنسبة 51.2%، وجّه حزبا المعارضة الرئيسيين اتهاماتٍ للحكومة بالتلاعب في نتائج الاستفتاء، حيث أعلن حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي أنه قد حصل تلاعب في نتائج الاستفتاء بنسبة 3 إلى 4%، وأنه سيطعن في صحة البطاقات في ثلثي صناديق الاقتراع. كما أعلن حزب "الشعب الجمهوري" أنه سيطعن في نتائج نحو 37 إلى 60% من صناديق الاقتراع.
واعترض الحزبان أيضًا على قرار اللجنة العليا للانتخابات الخاص باحتساب البطاقات غير المختومة التي استخدمت خلال الاستفتاء، معتبرين هذا القرار خرقًا للقواعد، وحذر حزب "الشعب الجمهوري" اللجنة من أن البطاقات غير المختومة قد تحمل شبهة أن صاحبها أحضرها من مكان آخر، وعددها غير معلوم، وهو الأمر الذي رفضه رئيس اللجنة العليا للانتخابات "سعدي غوفن"، مبررًا قرار اللجنة باعتماد البطاقة الانتخابية غير المختومة بأن بعض اللجان أهملت ختم البطاقات الانتخابية، وأن اللجنة العليا قررت اعتمادها؛ نظرًا إلى أن التقصير ليس من المواطن، وإنما من لجان مشرفة على الصناديق.
دلالات نتائج الاستفتاء:
تُشير نتائج الاستفتاء على تعديلات الدستور التركي إلى مجموعة من الدلالات يتحدد أبرزها فيما يلي:
1- تراجع نسبة المشاركة في الاستفتاء: أظهرت نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية تراجع المشاركة بنسبة 1.94% مقارنة بالانتخابات التشريعية الأخيرة التي أجريت في نوفمبر عام 2015، حيث بلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء 85.46% بما يعادل 49.62 مليون ناخب من أصل 58.36 مليون ناخب مسجلين، في حين بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة 87.40% ما يعادل 46.55 مليونًا من أصل 54.49 مليون ناخب مسجل. وقد يرجع انخفاض نسبة المشاركة في الاستفتاء إلى عزوف عدد من الناخبين بسبب الاستقطاب الحاد الذي صاحب مرحلة الدعاية للتعديلات الدستورية بين المؤيدين والمعارضين، وعدم قدرتهم على تحديد موقف واضح من هذه التعديلات.
2- غياب التوافق المجتمعي حول التعديلات الدستورية: حيث تتقارب نسبة المؤيدين للتعديلات الدستورية (51.2%) مع الرافضين لها (48.8%)، وهو ما يفتح الباب أمام المعارضة للتشكيك في نتائج الاستفتاء، والطعن في مدى شرعية قبوله مجتمعيًّا، والمطالبة بوثيقة دستورية أكثر قبولا وتوافقًا لدى مختلف القوى المجتمعية والسياسية، وهو ما قد يُنذر بمزيد من الاستقطاب المجتمعي والسياسي في تركيا.
3- خسارة حزب العدالة والتنمية للتصويت لأول مرة بالمدن الكبرى ذات الثقل الاقتصادي، ويأتي على رأسها العاصمة (أنقرة) التي رفضت التعديلات بنسبة 51.1%، وإسطنبول (العاصمة الاقتصادية لتركيا) بنسبة 51.3%، ومدينة إزمير السياحية بنسبة 68.8%، وأنطاليا بنسبة 59%، ومدينة ديار بكر ذات الأغلبية الكردية بنسبة 67.6%. وتعكس تلك النسب استمرار تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية في المناطق الحضرية مقارنة بالمناطق الريفية، وهو ما ستكون له تداعيات سلبية على الحزب في أية استحقاقات انتخابية مقبلة إذا لم يعالج أسباب تراجع شعبيته في هذه المدن، خاصة وأن مدينة إسطنبول هي التي شهدت بداية الصعود السياسي لأردوغان عندما كان رئيسًا لبلديتها عام 1994.
4- فشل التحالف السياسي بين حزب الحركة القومية وحزب العدالة والتنمية في تأمين أكبر نسبة من الداعمين للتعديلات الدستورية، حيث بلغت نسبة الأصوات التي حصل عليها الحزبان في الانتخابات التشريعية الأخيرة في نوفمبر 2015 حوالي 61.38% (49.48% للعدالة والتنمية و11.90% للحركة القومية)، في حين أن نسبة مؤيدي التعديلات الدستورية بلغت 51.2%، وهو ما يشير إلى أن غالبية القاعدة الانتخابية لحزب الحركة القومية لم تصوت لصالح التعديلات، وفشل رئيس الحزب "دولت بهجلي" في إقناع كوادر حزبه بجدوى التحالف مع العدالة والتنمية وتأييد التعديلات.
التداعيات المستقبلية للتعديلات:
من المتوقع أن تترك التعديلات الدستورية في تركيا مجموعة من التداعيات، سواء على الداخل التركي أو على السياسة الخارجية التركية، ولعل من أبرزها ما يلي:
أولا- التداعيات المحتملة على الداخل التركي:
1- شخصنة السياسة التركية، بمعنى هيمنة الرئيس التركي "أردوغان" على عملية صنع القرار، وظهور توجهاته وانطباعاته على السياسات التركية مع تراجع أدوار الفاعلين الآخرين في عملية صنع القرار، وذلك بعدما ركزت التعديلات الدستورية الأخيرة الصلاحيات التنفيذية في يد رئيس الجمهورية، وهو ما يُدخل تركيا في مرحلة حكم "الرجل الواحد"، ويفتح الباب أمام مزيد من السياسات السلطوية -بحسب كثير من التحليلات- التي تزايدت منذ محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في 15 يوليو 2016 التي استغلها أردوغان للإطاحة بمعارضيه، وفرض مزيدٍ من الهيمنة على مؤسسات الدولة التركية وعلى رأسها الجيش.
2- تزايد حدة الاستقطاب المجتمعي والسياسي، فمع تمرير التعديلات الدستورية، من المتوقع أن تتزايد الاستقطابات السياسية داخل تركيا بين المحافظين الإسلاميين والقوميين المؤيدين للتعديلات من جهة والعلمانيين والأكراد المعارضين لها من جهة أخرى، وذلك ما لم يعمل حزب العدالة والتنمية الحاكم والرئيس أردوغان على تهدئة حدة الاستقطاب المجتمعي الذي تزايد خلال الدعاية للتعديلات الدستورية واستيعاب المعارضين للتعديلات، خاصة في ظل تقارب نسب المؤيدين والمعارضين لتلك التعديلات، ناهيك عما شهدته عملية التصويت من اشتباكات بين أنصار حزب العدالة والتنمية والمعارضين الأكراد داخل أحد مراكز الاقتراع في ديار بكر مما أسفر عن مقتل اثنين وجرح آخر.
ثانيًا- التداعيات المحتملة على السياسة الخارجية:
1- تزايد الدور التركي في الأزمتين السورية والعراقية: من المرجح أن تشهد السياسة الخارجية التركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص تجاه الملفين السوري والعراقي، انطلاقة جديدة بعدما فرغ أردوغان من مسألة تعديل الدستور التي كانت أكبر شاغل له خلال السنوات الأخيرة.
ومن المتوقع أن تقوم هذه السياسة على مزيد من الانخراط التركي على المستويين السياسي والعسكري في الملفين السوري والعراقي وذلك للمساهمة في وضع حل سياسي للأزمة السورية يضمن مصالحها في سوريا المستقبلية من خلال التواصل مع الفاعلين الإقليميين والدوليين الأساسيين هناك، وللحد من التداعيات السلبية للأزمتين على الأمن القومي التركي، خاصة فيما يتعلق بالتهديدات الكردية، كالحد من تهديدات حزب العمال الكردستاني انطلاقًا من شمال العراق، والحيلولة دون قيام كيان كردي في الشمال السوري، فضلا عن التصدي لدعوات إجراء استفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق، وهو ما يعني أن تركيا قد تطلق حملات عسكرية جديدة ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا وشمال العرق.
2- تهدئة العلاقات التركية-الأوروبية: كان التصعيد التركي ضد الدول الأوروبية مرتبطًا -في الأساس- برغبة أردوغان في إثارة النزعة القومية والدينية لدى الجاليات التركية المقيمة داخلها لرفع نسبة تأييد التعديلات الدستورية بينها. وبعد أن حقق أردوغان هدفه من هذا التصعيد تزايدت الترجيحات بأنه قد يتجه للتهدئة مع أوروبا.
تتوقف احتمالات التهدئة على مواقف القوى الأوروبية من نتائج الاستفتاء، خاصة وأن رئيس المفوضية الأوروبية "جان كلود يانكر" والممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية "فيدريكا موجريني" والمفوض الأوروبي للسياسة الأوروبية للجوار ومفاوضات التوسع "يوهانس هان" أصدروا بيانًا بخصوص نتائج الاستفتاء أعلنوا فيه انتظارهم تقييم بعثة المراقبة الدولية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا لعملية الاستفتاء بما فيها ادعاءات المخالفات. كما سيتم تقييم التعديلات الدستورية وتطبيقها عمليًّا في ضوء كون تركيا عضوًا مرشحًا للاتحاد الأوروبي، وعضوًا في المجلس الأوروبي.
وتُنذر رغبة بعض القادة الأوروبيين في استخدام ورقة التصعيد ضد تركيا لجذب الأصوات الانتخابية التي قد تذهب إلى الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تستغل العداء للمهاجرين والمسلمين لرفع شعبيتها بين الناخبين الأوروبيين، باستمرار التوتر في العلاقات بين الجانبين، وإن كان أقل حدة مما كان عليه وقت الاستفتاء.
ختامًا، يُمكن القول إن موافقة الناخبين الأتراك على التعديلات الدستورية التي تقضي بالتحول نحو النظام الرئاسي تدشن لمرحلة جديدة في تركيا تتسم أبرز ملامحها بهيمنة الرئيس "رجب طيب أردوغان" وحزب العدالة والتنمية على مفاصل الدولة التركية وعمليه صنع القرار، وهو ما سينعكس بدوره على المشهد الداخلي التركي لنصبح أمام نظام حكم يعكس إرادة أردوغان، ومجتمع أكثر استقطابًا على المستويين السياسي والاجتماعي نتيجة لغياب التوافق حول التعديلات الدستورية، كما سينعكس أيضًا على السياسة الخارجية التركية لتصبح أكثر تفاعلا وانخراطًا في قضايا المنطقة ذات التماس المباشر مع الأمن القومي التركي، ويأتي على رأسها القضيتان السورية والعراقية بعدما انتهى أردوغان من تحقيق هدفه في التحول نحو النظام الرئاسي.
ومن المرجح استمرار هيمنة "أردوغان" على عملية صنع القرار الداخلي والخارجي التركي إذا لم تنجح المعارضة التركية في استغلال أصوات الرافضين للتعديلات الدستورية البالغة نسبتهم ٤٨.٨٪ لتحقيق تقدم على أردوغان وحزبه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجراؤها في ٣ نوفمبر ٢٠١٩.