هل الموجة الشعبوية القوية التي يمر بها العالم الغربي، هي مظهر لانهيار كلي للأيديولوجيات التي أطّرت الحقل السياسي في العصر الحاضر، أم نمط من الأيديولوجيا الجديدة التي احتلت مكان الأيديولوجيات السابقة المنهارة؟
للإجابة عن هذا السؤال، يتعين أن نستحضر السمات المشتركة بين النزعات الشعبوية في تشكيلاتها اليمينية واليسارية التي يمكن إجمالها مع المفكر السياسي الفرنسي «بيار روزنفالون» في ثلاث سمات أساسية: التصور التنميطي التجانسي للشعب من حيث هو كتلة موحدة لها هوية أحادية، والعداء للنخب الاجتماعية والسياسية المتهمة باستغلال الشعب وبالفساد والنفعية، وتصور الرابطة الاجتماعية على أساس معيار الهوية القومية لا على أساس قيم التعاقد القانوني أو الخلفيات الطبقية الاجتماعية.
وفي ما وراء الجدل الإعلامي السريع حول هذه الأفكار الرائجة حالياً، يتعين إبراز الخلفيات الفكرية العميقة لهذه النزعات الشعبوية التي لم تعد مجرد تيارات هامشية في الحياة السياسية، بل أصبحت من محددات وثوابت الحركية السياسية في كبريات الديمقراطيات الغربية، وقد وصل بعضها عملياً للسلطة، وللبعض الآخر وزن انتخابي متزايد.
ما نريد أن نبينه هو أن هذه الأفكار ترجع إلى إشكالية كبرى لها سياقها النظري والأيديولوجي في العصر الحاضر، تتصل بالانفصام الأصلي في الفكر السياسي الغربي الحديث بين التأسيس القانوني للشرعية السياسية للدولة والمنظور القومي للهوية الاجتماعية التي تجسدها هذه الدولة من حيث هي وحدة روحية تتجاوز طابعها التعاقدي العرضي. وقد عانى الفكر الليبرالي بشدة من هذا الانفصام، باعتباره ينطلق من أولوية الذات المستقلة الحرة على النظام الاجتماعي العام الذي يجب أن يصدر عن الإرادة الفردية، ويضمن حقوقها غير القابلة للنفي، وبذا تكون الهوية الجماعية حالة تاريخية مبنية ومخترعة لا هوية أصلية عضوية، في حين يؤدي اختزال الدولة في صورة الحكم المحايد بين الإرادات السيادية إلى إضعاف الجسم الاجتماعي وتحويله إلى رابطة تشاركية نفعية هشة.
وإذا كان الفكر الليبرالي قد انتهى إلى الجمع بين أطروحة الحرية الفردية والهوية القومية للحالة التعاقديّة، فإن هذا الحل ظل إشكالياً يتأرجح في بعض الحالات بين نفي الحريات السياسية باسم منطق الهوية الجماعية (الأيديولوجيات النازية والفاشية) وتقويض دوائر التضامن الجماعي باسم منطق الحرية (التيارات النيوليبرالية).
كان الفيلسوف الأيرلندي «إدموند برك» الذي عاصر الثورة الفرنسية، وكتب في نقدها كتاباً مشهوراً قد اعتبر أن فكرة العقد الاجتماعي تناقض مفهوم السياسة من حيث هي تدبير للشأن المدني وفق توازنات التركيبة المجتمعية، فلا يمكن أن تتحول إلى هندسة اجتماعية وإلا آلت إلى العنف بالنظر لتنكرها للحالة الطبيعية للاجتماع الإنساني القائم على التراتب والارتباطات العضوية القبلية وغير الإرادية.
وإذا كان الفكر الليبرالي قد تخلى عن فكرة السياسة من حيث هي فضيلة مدنية وتربية بشرية (التصور اليوناني والوسيط) لكون التصورات الأخلاقية للسياسة تؤدي إلى الاستبداد، فإن التصور الإجرائي القانوني للسياسة لا يحمي من أشكال أخرى من الاستبداد مثل: الديكتاتوريات الانتخابية التي تحدث عنها الكسيس دي توكوفيل والديكتاتوريات الأيديولوجية التي تتوهم القدرة على صناعة الإنسان عن طريق القانون والمدرسة.
ومن هنا، فإن التيارات الشعبوية تستفيد دوماً من الأزمات الاجتماعية التي تعرفها المجتمعات الليبرالية في مؤهلاتها الإدماجية والتأليفية للعودة بالسياسة إلى منطق الفضيلة المدنية، وإطار الانتماء العضوي الذي يغطي التمايز الطبقي والتراتب الفئوي من منظور الهوية القومية الجامعة، فينتقل رهان الصراع الداخلي إلى الغريب والأجنبي والمهاجر، وتغدو المحافظة على الخصوصية الذاتية هو الحل من المأزق الداخلي.
الأيديولوجيا الشعبوية إذن بقدر ما هي تعبير عن أزمات مجتمعية عميقة تفتح الجرح الأصلي للمنظومة الليبرالية وتأزمها بإعادة طرح معضلاتها التأسيسية بعد أن أصبحت الشرعية القانونية الإجرائية عاجزة عن توفير المنظور المعياري اللازم للعدالة الجماعية، وبعد أن تقلصت قدرة الدولة على ضبط وإدارة الجسم الاجتماعي.
كان الفيلسوف الألماني «لبو شتراوس» يقول إن الليبرالية لا يمكنها أن تقيم حالة سياسية مستقرة ومتماسكة، لأنها تصدر عن فهم تقني للسياسة، ولذا فإن سحر النزعات الشعبوية، ينبع من الحاجة إلى إرجاع هالة القداسة إلى السياسة ومدها بحرارة الانتماء وروح الصدام وهاجس الخطر، بيد أنها وإنْ نجحت في استثمار مشاعر السخط والإحباط وأهواء الانتماء والتجذر، فإنها غير قادرة على حل الأزمات الاجتماعية القائمة بأدوات التهييج العاطفي العقيم.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد