أدت التطورات التي تشهدها سوريا، في ظل الهجوم الذي تشنه فصائل مسلحة ضد الجيش السوري في شمال ووسط البلاد، إلى استحضار العراق درس سقوط الموصل عام 2014 في يد تنظيم داعش الإرهابي؛ وذلك على خلفيتين، الأولى أن ما يجري في سوريا قد يعيد تنشيط داعش مرة أخرى سواء من خارج الحدود العراقية أم من الداخل، والثانية أن العراق يخشى من دائرة التصعيد الإقليمي التي قد تجعله هدفاً للمزيد من الفوضى بعد سوريا؛ إذا ما وضعته إسرائيل على قائمة الأهداف المستقبلية.
وفي هذا الإطار، يتخذ العراق العديد من التدابير الاستباقية، منها الإجراءات الأمنية، ولاسيما إجراءات إحكام الحدود المشتركة مع سوريا، بالإضافة إلى التواصل مع الفاعلين الإقليمين والدوليين، خاصةً التنسيق مع الجانبين الإيراني والسوري.
المقاربة الأمنية العراقية:
تُعد المقاربة العراقية للتطورات الجارية على الساحة السورية، في الأساس مقاربة أمنية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- الحرب على الإرهاب: وفقاً لتحليل الخطاب الأمني والعسكري والتحركات العراقية، يبدو أن المقاربة العراقية تتصدرها في المقام الأول الحرب على الإرهاب، وتحديداً تنظيم داعش، حيث يشير العراق إلى أنه قضى على ما يُسمى "والي العراق" في داعش وعدد آخر من كبار قيادات التنظيم، في عملية مشتركة مع التحالف الدولي ضد داعش، وذلك قبل نحو شهر واحد من التطورات الحالية في سوريا.
ومن ثم لا يتحدث الجانب العراقي عن محاور أو أبعاد أمنية أخرى، مثل الإمدادات العسكرية التي تنقلها إيران إلى سوريا عبر العراق، في حين يعتقد أن إسرائيل والولايات المتحدة تراقب التحركات الإيرانية عن كثب في المرحلة التي تلت هجمات أكتوبر 2023 أكثر من أي وقت مضى، كما كثفت إسرائيل من ضرباتها في هذا الصدد.
واللافت أن من يتصدر المشهد الأمني حالياً هو الجيش العراقي، دون تجاهل الدور الذي يقوم به "الحشد الشعبي"، والذي يشارك الجيش العراقي في عملية تأمين الحدود؛ إذ عزز الجيش قواته الحدودية بثلاثة ألوية عسكرية، بالإضافة إلى لواءين يشارك بهما "الحشد الشعبي".
وكانت عملية تعزيز أمن الحدود مع سوريا أيضاً قد شهدت بناء سور خرساني طويل على مدار العامين الأخيرين، يصل إلى 360 كيلومتراً تقريباً (يغطي نحو نصف الحدود المشتركة التي تصل إلى 610 كيلومترات)، ويمتد من سنجار إلى القائم، وتم تزويده بكاميرات حرارية للمراقبة، وخندق على طول الحدود، إضافة إلى أبراج مراقبة مُحصَّنة، وطائرات مُسيَّرة لمتابعة المنطقة.
وربما من المتصور أن حركة نقل السلاح الإيراني برياً إلى سوريا في اتجاه حلب ستواجه تحدياً كبيراً مع سيطرة فصائل "هيئة تحرير الشام" الإرهابية على الطرق الرئيسية، ولاسيما طريق حلب دمشق، بعد السيطرة على مدينة سراقب في محافظة إدلب، وحتى لو تم نقل الأسلحة جواً ستواجه الأمر ذاته.
كما أن التهريب عبر منطقة البوكمال قد يُواجه بعراقيل أخرى، على خلفية اتجاه قوات سوريا الديمقراطية "قسد" لقطع طريق الرقة باتجاه الشمال الغربي، كإجراء أمني، بالإضافة إلى أن الجانب الأمريكي هو الآخر متمركز في الشمال الشرقي، وضمن جغرافيا "قسد" سيُشدد من تلك الإجراءات.
2- التنسيق الأمني متعدد الأطراف: بطبيعة الحال تقوم الحكومة العراقية بالتنسيق مع الأطراف المختلفة؛ بل والمتناقضة المصالح في المرحلة الراهنة، حيث تنسق مع إيران، فيما كان الاتصال بين الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوادني، من بين أول الإجراءات التي قام بها الأسد بعد سيطرة الفصائل المسلحة على حلب.
ويظل التركيز على الجانب الحدودي إجراءً وقائياً، لكن بشكل جزئي، في ظل قضايا أمنية عديدة، ويرى مراقبون عراقيون أنه لا يشكل عاملاً كافياً للحيلولة دون انتقال عدوى ما يجري في الساحة السورية إلى العراق. ومع ذلك، تضمن بيان الاجتماع العسكري في العراق إشارة مهمة حول العمليات الاستخبارية الخاصة بالحدود مع دول الجوار، حيث يُفهم من ذلك التنسيق مع سوريا وإيران والأردن، وإن كان من غير الواضح ما هي كفاءة إدارة منظومة استخبارات على هذا النحو؛ بمعنى أنه من غير الواضح لصالح أولويات أي طرف سيكون هذا التعاون.
كذلك في اللحظة الحالية تتضارب المصالح الإيرانية والأمريكية، وهنا سيتعين على الحكومة العراقية أن تقوم بدور عامل التوزان بين الطرفين، وليس مجرد "ساعي بريد" بين الأطراف المتعددة. ويشير بيان البيت الأبيض حول التطورات الجارية في سوريا إلى أن دور إيران هناك هو سبب رئيسي فيما يحدث في سوريا.
وثمة نقطة ضعف أخرى تتعلق بمواقف المليشيات العراقية، وهو لا ينسجم بالضرورة مع الموقف العراقي الرسمي، حتى ولو كان العنوان واحداً وهو دعم الحكومة السورية، لكن ربما لا تسعى الحكومة العراقية إلى الانخراط المباشر في سوريا، كما لا تريد أن يتم جر بغداد إلى معركة بفعل انخراط أطراف خارجة عن السيطرة. وفي حين يمكن للحكومة العراقية السيطرة على "حشد العتبات"، وهو بالفعل يسهم على التوازي مع قوات الجيش، إلا أنها لا يمكنها السيطرة على "الحشد الولائي" ولاسيما مليشيا "عصائب أهل الحق" التي ستبقى رهن إشارة إيران للتحرك في سوريا، وستتحرك هذه المليشيا تحديداً من منطلق أنها رأس الحربة الإيرانية بعد الخسائر التي لحقت بحزب الله اللبناني.
وقد توزع الحكومة العراقية دورها ما بين الطرفين؛ بمعنى أنها ستتعاطى مع الملف السوري من زاوية أمنية؛ بحيث تتعاون مع الجانب الأمريكي والتحالف الدولي في ملف الإرهاب، وفي الوقت ذاته تدعم التحركات الإيرانية في الملف السوري لتأمين وضع النظام السوري هناك.
وهناك تحد آخر يتعلق بزاوية التوازنات الطائفية، وهي عامل مهم في منظور السياسات الإيرانية وحلفائها، حيث ستعتبر أن وجود وزن سني كبير في سوريا لصالح "هيئة تحرير الشام" سينقلب على الوزن الطائفي الذي أقامته إيران ووكلاؤها في سوريا على مدار عقد تقريباً. وفي حال أنه لم يغير تلك الموازين؛ فإنه في الحد الأدنى قد يحفز تنظيم داعش داخل العراق مرة أخرى ضد تلك المليشيات الشيعية.
هاجس دورة التصعيد الإقليمي:
تراقب إسرائيل العراق في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر 2023، باعتبار الأخير إحدى الساحات الموالية لإيران، بالإضافة إلى كونه يشكل عاملاً لوجستياً مهماً في البنية العسكرية الإيرانية في الإقليم. وفي العراق، ووفق تقارير محلية، ثمة سؤال متكرر في الآونة الأخيرة حول إمكانية دخول العراق ساحة المواجهة المباشرة مع الجانب الإسرائيلي، وفي هذا السياق يمكن النظر إلى عدة مؤشرات منها الآتي:
1- تُعد سوريا حلقة الوصل الرئيسية بين المليشيات العراقية وإيران منذ أزمة 2014، والتي تسبق أزمة غزة، وهناك العديد من المليشيات العراقية في سوريا، وهي تعمل تحت خارج سيطرة الدولة العراقية، لكنها تظل تحت مسؤوليتها، كما أنها تعمل أحياناً ضد اتجاه الحكومة. وفي هذا الصدد، كان المرجع العراقي علي السيستاني قد طالب في فتوى بحصر السلاح بيد الدولة، دون استجابة حقيقية من تلك الفصائل الولائية.
2- أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في خطاباته السياسية، أن العراق يقع ضمن الساحات التي تخوض إسرائيل المواجهة معها، وتتلقى منها تهديدات. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت الإدارة الأمريكية، في نوفمبر الماضي، أنها سعت إلى الحيلولة دون قيام إسرائيل بعمليات عسكرية في العراق كرد فعل على الهجمات التي تشنها ما تُسمى "فصائل المقاومة الإسلامية". وهذا قد يُعد إشارة ضمنية إلى أن واشنطن قد لا تتدخل في حال إقدام إسرائيل على خطوة من هذا النوع، ولكن إذا كانت تل أبيب ترى حالياً أن هناك أطرافاً أخرى قد تخوض هذه المواجهة مع الفصائل العراقية، فستترك "الفخار يكسر بعضه بعضاً".
تهديد المليشيات:
ستظل المليشيات التي تعمل خارج سيطرة الدولة إشكالية كبرى تواجه العراق، ولاسيما فيما يتعلق بدور هذه المليشيات خارج حدود البلاد، وسيكون من الصعب احتواؤها طالما ظل هناك طلب إيراني عليها، خاصةً في ظل الرابط الطائفي القوي. فعلى سبيل المثال، يهدد قادة "الفصائل الولائية" بالانخراط في الساحة السورية؛ إذا ما تعرضت "هيئة تحرير الشام" للمراقد في سوريا، وذلك رداً على تصريح نسب لزعيم "هيئة تحرير الشام"، أبو محمد الجولاني، قال فيه: "لن نتوقف إلا في دمشق".
الوضع الحالي في سوريا وما يثيره من تداعيات على العراق، قد يشكل كابحاً مرحلياً لخوض إسرائيل مواجهة مباشرة في العراق، لكن في حال رفع المليشيات العراقية مستوى التهديد ضد إسرائيل قد يغير ذلك من الموقف، إضافة إلى أنها قد تعمل على استهدافهم في سوريا.
وقد يكون عامل الإرهاب الخطر الرئيسي الذي يهدد العراق، مع الأخذ في الاعتبار أن التنظيمات الإرهابية في حالة منافسة، وقد تجد ما يحدث في سوريا فرصة مرة أخرى للعودة إلى تلك الساحات التي كانت تشغلها من قبل، ومن بينها بالطبع الساحة العراقية.