أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تحديات قائمة :

هل يؤدي اكتشاف البحر الأسود إلى تغيير سياسة الطاقة التركية؟

31 أغسطس، 2020


تعتبر تركيا الاكتشاف الأخير للغاز الطبيعي، الذي أعلنت عنه في 21 أغسطس الجاري، بمنطقة "تونا-1" بالبحر الأسود، والذي يحتوي على نحو 320 مليار متر مكعب، أحد العوامل ذات الأهمية الاستراتيجية للبلاد، حيث لن تقتصر أهميته، من وجهة نظرها، على تقليص واردات الطاقة السنوية فقط، وإنما تمتد إلى تعزيز موقفها التفاوضي مع موردي الخام إليها على غرار روسيا وإيران. ورغم ذلك، لازالت هناك شكوك حول الجدوى التجارية لهذا الاكتشاف، لاسيما مع عدم معرفة الكميات الحقيقية القابلة للاستخراج، فضلاً عن الصعوبات التقنية المحيطة بعمليات الحفر والتنقيب عن الهيدروكربونات في البحر الأسود. 

خطوة جديدة:

حققت تركيا مؤخراً كشفاً هاماً للغاز الطبيعي، أعلن عنه الرئيس رجب طيب أردوغان في 21 أغسطس، بموقع "تونة 1" على بعد 150 كيلو متراً من السواحل التركية، وتم حفره بواسطة سفينة الحفر "فاتح -1" التابعة لمؤسسة البترول التركية. ويحتوي الكشف على موارد محتملة بحجم 320 مليار متر مكعب، وهو أكبر اكتشاف للغاز في البحر الأسود منذ عقود.

ويمثل هذا الكشف تطوراً مهماً لتركيا بالنظر إلى أنها تعد حالياً دولة مستوردة صافية للطاقة، حيث تعتمد على الخارج في تلبية أكثر من 98% من حاجتها من النفط والغاز الطبيعي. وفي العام الماضي، استوردت تركيا نحو 44.2 مليار متر مكعب منها عبر خطوط الأنابيب نحو 31.3 مليار متر مكعب، وشحنات غاز مسال بـــ12.9 مليار متر مكعب.

ومن اللافت أن حصة شركة "غاز بروم" الروسية تقلصت بالسوق التركية من 52% في عام 2017  إلى 47% في عام 2018، ثم إلى حوالي 33% فقط في عام 2019، حيث تحاول أنقرة تقليص اعتمادها على موسكو في توريد الغاز، وزيادة إمدادات الغاز المسال من الموردين الآخرين للاستفادة من انخفاض أسعار التسليم وسط أزمة كورونا التي أدت إلى حدوث تباطؤ شديد في الاقتصاد العالمي.

ونظرياً، إذا ما كانت كل الكميات المعلنة قابلة للاستخراج، فسوف تغطي استهلاك تركيا من الغاز، البالغ 45 مليار متر في عام 2019، نحو سبع سنوات ونصف، وهى تمثل أيضاً حوالي ضعفين ونصف موارد حقل أفروديت جنوب قبرص البالغة نحو 127 مليار متر مكعب.   

وقد أعطى الكشف الأخير آمالاً لأنقرة بالعثور على موارد جديدة أخرى في البحر الأسود. ووفق وزير الطاقة فاتح دونميز، ستواصل مؤسسة البترول التركية "تباو" التنقيب عن الهيدروكربونات على مساحة جديدة تبلغ 6000 كيلومتر مربع. وبدورها، تأمل الشركات الأخرى العاملة بالبحر الأسود أن تتمكن من تكرار نجاح "تونا -1".

تداعيات محتملة: 

يترتب على اكتشاف الغاز الطبيعي عدداً من الآثار المحتملة بالنسبة للاقتصاد التركي وسياسة الطاقة: يتمثل أولها، في تحول تركيا إلى أحد المنتجين الواعدين في منطقة البحر الأسود، وبما يجعلها قادرة على تلبية نسبة ما من طلبها السنوي من الغاز الطبيعي بالاعتماد على المصادر المحلية.

فيما يتصل ثانيها، بتعزيز قدرة أنقرة على الحد من اعتمادها على واردات الغاز القادمة من روسيا وإيران وأذربيجان، والتي بلغت قيمتها نحو 41 مليار دولار في عام 2019، وتعد أحد أسباب تصاعد عجز المعاملات التجارية، والضغط على سعر صرف الليرة التركية. 

أما ثالثها، فينصرف إلى دعم الموقف التفاوضي لتركيا في استيراد الغاز الطبيعي من الموردين. ولدى تركيا عقود طويلة ومتوسطة الأجل لتوريد الخام مع روسيا وإيران وأذربيجان. كما تحصل على شحنات من الغاز المسال بموجب عقود قصيرة ومتوسط الأجل من أذربيجان ونيجيريا والجزائر، وسيضع هذا الكشف تركيا في موقف أفضل عند التفاوض بشأن أسعار أو أحجام تسليم الغاز الطبيعي بمجرد انتهاء عقودها مع الموردين مثل روسيا أو إيران.

متطلبات رئيسية:

يشكك كثير من المراقبين في أن الكميات الكبيرة المكتشفة المعلن عنها لا ترقى إلى وصفها احتياطيات مؤكدة، فقد تم الكشف دون إجراء مزيد من حفر الآبار أو إجراء اختبارات للضغط والحرارة لتبيان الجدوى التجارية للموقع. ويمتد الاكتشاف في غرب البحر الأسود على مساحة 250 كيلومتر مربع، وكان من المفترض إجراء ما لا يقل عن 8 إلى 10 عمليات حفر في هذه المنطقة، وفق الخبراء، من أجل الإعلان عن حجم الاحتياطيات الحقيقية، وهو ما لم يحدث حتى الآن.

ويضاف إلى ذلك أن ثمة صعوبات أخرى تتعلق بأن هدف بدء الإنتاج في عام 2023 مفرط في التفاؤل، حيث أن الفترة بين الاكتشاف والإنتاج بالصناعة لاسيما بالأعماق الكبيرة تصل إلى أربع أو خمس سنوات على الأقل. وما قد يشكك أيضاً في الخطة الزمنية لبدء الإنتاج أن البحر الأسود يتسم بظروف جيولوجية ومناخية صعبة تعرقل، في كثير من الأحيان، عمليات الاستكشاف والإنتاج، وهو ما يبدو جلياً في تعرض منصات الحفر لبعض الشركات للتدمير بسبب المناخ المتقلب هناك.

من ناحية أخرى، ونظراً لأن عمق الكشف الغازي الجديد يبلغ 3500 متر، فإن الوصول إلى الغاز الطبيعي واستخراجه سيتطلب شركات أجنبية تمتلك تقنيات متطورة لاستخراج الهيدروكربونات من المياه العميقة، وهى غير متوافرة لدى الشركات التركية. 

وليس مؤكداً أن الكشف الجديد سيتمكن من جذب الشركات الأجنبية للمشاركة في عمليات الاستكشاف أو الإنتاج، وذلك وسط التوترات الجيوسياسية بين تركيا من ناحية وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى بسبب السياسة التركية في منطقة حوض شرق المتوسط، فضلاً عن انخفاض أسعار الطاقة العالمية على المديين المتوسط والبعيد والتي تقلص شهية المستثمرين للمشاريع ذات المخاطر العالية، كما أنه سيتطلب تكلفة استثمارية عالية ستتراوح بين 5 و6 مليار دولار، وفق التقديرات الأولية.

وختاماً، يمكن القول إن جدوى الكشف التركي الأخير للغاز الطبيعي ستتوقف على الاحتياطيات القابلة للاستخراج، فضلاً عن مدى قدرة أنقرة على تجاوز الصعوبات الفنية والمالية المحيطة بعمليات الاستكشاف والإنتاج.