توجه المستشار الألماني أولاف شولتس، للصين، في 14 إبريل 2024، في زيارة استمرت لثلاثة أيام، بناءً على دعوة من رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ. وتُعد تلك الزيارة هي الثانية له منذ توليه منصبه، فقد جاءت الزيارة الأولى في عام 2022. وشهدت الزيارة الأخيرة مُناقشة العديد من الملفات التجارية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن لقائه بالرئيس الصيني شي جين بينغ، ورئيس مجلس الدولة للتباحث بشأن القضايا المشتركة.
تقليل المخاطر:
تأتي الزيارة في ظل وجود عدد من المتغيرات التي تجعل السياق العام للعلاقات الألمانية الصينية يشهد قدراً من التناقضات، لعل أبرزها:
1. الحفاظ على علاقات مُتوازنة: يستهدف الاتحاد الأوروبي بناء علاقات متوازنة مع الصين دون فك الارتباط معها؛ إذ يدرك الأوروبيون أن فك الارتباط بشكل كامل سوف يضر بالضرورة باقتصاديات أوروبا. في السياق ذاته، يجري الاتحاد الأوروبي عدة تحقيقات حول ما إذا كانت صادرات التكنولوجيا الخضراء الصينية مثل السيارات الكهربائية التي استفادت من الدعم الحكومي الصيني من الممكن أن تمثل ضرراً للمنتجين المحليين في الكتلة الأوروبية بفعل الإغراق، وتخشى صناعة السيارات الألمانية أن تؤدي هذه التحقيقات إلى حرب تجارية قد تضر بالصناعات الألمانية المتصلة بالصين في هذا الإطار، فضلاً عن المخاوف جراء اتجاه الاتحاد الأوروبي لتقييد تصدير التقنيات الحساسة للصين تحت وطأة الضغط الأمريكي.
2. خصوصية الارتباط مع ألمانيا: وذلك في ظل تزايد الاعتماد المتبادل بين الطرفين على بعضهما بعضاً. فعلى الرغم من التحسبات الموجودة في العلاقات بين الطرفين؛ ظل التعاون الاقتصادي حجر الزاوية في العلاقات الثنائية؛ إذ تُعد ألمانيا أكبر شريك تجاري للصين في الكتلة الأوروبية، بينما تستحوذ الصين على نحو 10.3% من الاستثمارات الألمانية الخارجية، بقيمة استثمارات مُباشرة تبلغ 11.9 مليار يورو، في عام 2023، بزيادة سنوية قدرها 4.3%، بحسب تقديرات المعهد الاقتصادي الألماني (IW).
كما أنه وفقاً لمسح ثقة الأعمال لعام 2023/ 2024 الصادر عن غرفة التجارة الألمانية في الصين، في يناير 2024، فإن أكثر من 90% من الشركات الألمانية التي شملها الاستطلاع تخطط لمواصلة ممارسة الأعمال التجارية في الصين.
ومع ذلك، تعرضت المصالح الألمانية للعديد من الأضرار؛ إذ شهدت بعض الصناعات الألمانية الرئيسية انخفاضاً في إيراداتها في الصين خلال الربع الأول من العام الحالي؛ جراء المنافسة الشرسة التي تواجهها صناعة السيارات الألمانية خاصة مع انخفاض حصة الشركات الألمانية في السوق الصينية بنسبة 4% منذ عام 2018.
وفي الشهر الماضي، أكد سفير الصين لدى ألمانيا أن الشركات الألمانية قد عززت الثقة في السوق الصينية عبر الإبقاء على أنشطتها بها؛ مما يعبر عن قوة العلاقة الاقتصادية بين البلدين.
3. توجهات السياسة الألمانية إزاء الصين: يمكن الوقوف على أبرز تلك التوجهات من خلال استراتيجية السياسة الخارجية الصادرة العام الماضي (2023)، والتي أشارت إلى أن ألمانيا تنظر إلى الصين باعتبارها قادرة على التأثير في أمنها ومصالحها الاقتصادية، لكن دون التوجه للانفصال عنها، بل العمل على ضبط التعاون لعدم الإضرار بالمصالح الألمانية، مع إعطاء الأولوية لتقليص الاعتماد على الصين في القطاعات الاستراتيجية، فضلاً عن أهمية تايوان كشريك تجاري واستثماري لبرلين. وقوبلت تلك الاستراتيجية بانتقادات من جانب الصين.
4. تصاعد الضغوط الداخلية: ثمّة اختلاف في المواقف بين مكونات الائتلاف الألماني الحاكم، فثمة تيار ينتقد بالأساس التقارب الألماني الصيني، في مقابل التيارات التي ترتبط مصالحها بالسوق الصينية وتتخوف من أي سياسات من شأنها أن تقوّض وصولها لتلك السوق. هذا إلى جانب الضغوط المتعلقة بضعف الاقتصاد الألماني نفسه.
يتبنى المستشار الألماني شولتس، منهج التقارب وتدعيم التبادل التجاري مع الصين، في حين يخشى عدد من وزرائه من أن هذا يُعد تكراراً لخطأ الاعتماد على الموارد البترولية الروسية، والذي أثر لاحقاً في الأوضاع الاقتصادية الألمانية بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، وهو ما عبّرت عنه وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، بشكل واضح عندما قالت إن الأخطاء التي تم ارتكابها سابقاً مع روسيا يجب تجنبها مع الصين، كما سبق واعترض ستة وزراء ألمان على صفقة استحواذ الشركة الصينية "كوسكو" على حصة في محطة الحاويات بميناء هامبورغ، اعتقاداً منهم أن ذلك بمثابة خطوة لاستحواذ الصين على بعض البنى التحتية الاستراتيجية في ألمانيا.
ملفات مُهمّة:
يمكن الاستدلال على القضايا ذات الأولية لتلك الزيارة من خلال تسليط الضوء على الوفد المرافق للمستشار الألماني، والذي لم يقتصر فقط على الوفد الحكومي الذي شمل وزراء البيئة والزراعة والنقل، وإنما ضم كذلك ممثلي الشركات الألمانية خصوصاً في مجال صناعة السيارات مثل شركتي مرسيدس وفولكس فاغن، وشركة التكنولوجيا سيمنز، وغيرها. وعليه؛ يمكن الوقوف على أبرز دوافع الزيارة على النحو التالي:
1. توطيد العلاقات الثنائية: وذلك في إطار اللقاء الذي جمع الرئيس الصيني شي، بالمستشار الألماني، والذي أكدا خلاله أن العلاقات تشهد نمواً مُطرداً، وتتعمق آفاق التعاون برغم التحديات المحيطة بها، وتم الاحتفاء بمرور عقد من الزمان على تأسيس الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين.
2. مُناقشة العراقيل الصناعية والمالية: التي تُعد أحد أهم جوانب التوتر في العلاقات الاقتصادية، فقد تضمنت تلك الزيارة التوجه إلى المركز الصناعي في تشونغتشينغ، الذي يُعد قاعدة إنتاجية للعديد من الصناعات، خصوصاً السيارات، مع زيارة شنغهاي التي تضم مكاتب إقليمية للشركات الألمانية، وشارك المستشار الألماني في حوار طلابي بجامعة تونغجي، التي تربطها شراكات مع الجامعات الألمانية، فضلاً عن زيارته مركز الابتكار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ التابع لشركة كوفيسترو الألمانية. وكذا منشأة لإنتاج محركات الهيدروجين تديرها شركة بوش الألمانية لصناعة السيارات.
جدير بالذكر أن المستشار الألماني، قد اطلع خلال تلك الزيارة على المشكلات التي تواجهها الشركات الألمانية العاملة بالسوق الصينية، والتي يبلغ عددها نحو 5 آلاف شركة، وتتمثل أبرزها في الإجراءات والسياسات التي تؤدي للممارسات والمنافسة غير العادلة.
3. مخاوف من تفاقم الحرب التجارية: خاصة فيما يتعلق بصناعة السيارات والتكنولوجيا الخضراء والسيارات الكهربائية في ضوء السياسات التي يتبناها الاتحاد الأوروبي. وقد تضمنت الجولة زيارة مصنع خلايا وقود الهيدروجين التابع لشركة بوش الألمانية، في تشونغتشينغ.
جدير بالذكر أن صناعة السيارات الألمانية تعتمد على السوق الصينية، إلا أن تزايد التوترات بين الغرب والصين يُثير مخاوف برلين التي يستفيد اقتصادها من طلب الصين على الاستثمار وعلى السلع الألمانية المصنعة، والتي تتراوح بين السيارات والمواد الكيميائية؛ مما يجعل تلك المصالح المتبادلة عرضة للخطر في إطار المنافسة المتزايدة من الشركات الصينية وتشديد القواعد التنظيمية، وكذا التدخل السياسي الذي أدى لانخفاض الاستثمار الأجنبي بالصين، فضلاً عن توجه برلين نحو سياسة إزالة المخاطر لتقليل الاعتماد على السوق والموردين الصينيين في خضم تلك العوائق داخل السوق الصينية.
4. الملفات السياسية والاستراتيجية: إذ كان من المقرر أن يتطرق شولتس، إلى دعم الصين لروسيا؛ لحث الصين على تبني دور أكثر نشاطاً في الجهود المبذولة لإنهاء الحرب، وأن تؤثر في روسيا وسلوكها؛ من خلال حث بكين على عدم الاستمرار في تقديم الدعم لموسكو.
كما أن الأزمة في الشرق الأوسط كانت حاضرة؛ إذ تم التطرق لها في تلك المحادثات خاصة مع تزامن الهجمات الإيرانية مع بداية تلك الزيارة، من أجل تجنب سيناريوهات التصعيد. كما أعرب المسؤولون الألمان قبل الرحلة عن أملهم في أن تؤدي بكين دوراً إيجابياً في تهدئة التوترات المتزايدة في الشرق الأوسط.
5. التبادل الطلابي: أعرب شولتس، عن أمله في زيادة التبادل العلمي مع الصين بعد انخفاضه خلال فترة الجائحة. وتمت مناقشة التعاون البحثي مع الصين؛ بسبب التوترات الجيوسياسية والاعتبارات الأمنية.
تداعيات مُتوقعة:
خلصت الزيارة إلى بعض المخرجات والنتائج التي لها العديد من الدلالات والتداعيات؛ الأمر الذي يمكن تبيانه على النحو التالي:
1. تعزيز العلاقات الثنائية: وفقاً لتصريحات شي، فإنه يتعين على البلدين العمل على تطوير العلاقات بمنظور استراتيجي طويل الأجل برغم الاختلافات عبر البحث عن أرضية مشتركة، والعمل معاً لضخ المزيد من الاستقرار والأمن في العالم؛ من خلال التعاون بين القوى الكبرى في خضم هذه الحقبة المتسمة بالاضطرابات. كما تُشير التقديرات إلى أن تلك الزيارة هي محاولة لتعزيز آفاق سياسات التعايش السلمي بدلاً من إحياء جوانب الحرب الباردة عبر تأكيد أهمية نهج الشراكة بدلاً من التنافس.
ومن جهة أخرى، فقد أكّد شولتس، أن المحادثات شهدت تطورات إيجابية في القضايا الاقتصادية التي تحتاج إلى مناقشتها بشكل عاجل، مثل: توفير فرص مُتكافئة للشركات الألمانية في الصين، وقضايا حقوق النشر والملكية الفكرية، معرباً عن أمله في أن تترجم هذه المناقشات إلى إجراءات ملموسة في أقرب وقت ممكن. كما وافقت الصين على استيراد لحوم البقر والتفاح من ألمانيا وتسهيل واردات لحوم الخنزير.
2. أداء بكين دوراً في تسوية الأزمة الأوكرانية: في ضوء الدعم الألماني لأوكرانيا، أكد شولتس، أهمية الجهود الدبلوماسية في تلك الأزمة، ومحورية الدور الصيني فيها لإنهاء الحرب عبر الضغط على روسيا. وقد وافق شي، على دعم مؤتمر سلام في سويسرا بشأن الحرب. بيد أن المناقشات تطرقت لمسألة بيع السلع ذات الاستخدام المزدوج لروسيا، دون الإفصاح عن تفاصيل حول نتائج هذه المحادثات.
6. موقف مُستقل عن الاتحاد الأوروبي: أكّد شولتس، أن أوروبا بحاجة إلى تكثيف الاتصالات القائمة وبناء اتصالات جديدة مع الصين، فضلاً عن تأكيد أهمية المنافسة العادلة والمتكافئة بين الشريكين ورفض الممارسات الحمائية؛ نظراً لأن المنافسة أمر حتمي لا يمكن تجنبه، ورفض شولتس، الإقرار بوجود ممارسات إغراق، وفائض في الإنتاج، وكذا انتهاك حقوق الطبع والنشر كما تقول السرديات الأوروبية. كما أشارت تقديرات رويترز، إلى أن بكين حثت برلين على عدم دعم إجراءات الاتحاد الأوروبي لوقف تدفق المركبات الصينية الصنع ومعدات طاقة الرياح والطاقة الشمسية إلى أوروبا. ولهذا الأمر تأثيره البالغ في فعالية السياسات الأوروبية وفرص نجاحها.
وفي التقدير، تمثل تلك الجولة من المحادثات عزم برلين على التمسك بمصالحها في السوق الصينية وخصوصية علاقتها ببكين دون الاضطرار للتماهي مع الموقف الأوروبي والأمريكي في هذا الإطار، خاصة في ظل المساعي الألمانية لتذليل العقبات والتحديات ومناقشة المخاطر التي تتعرض لها مع الجانب الصيني؛ إذ ثمة حالة من الترقب لتقييم تبعات الموقف الألماني وحدود التقارب مع الصين على النحو الذي قد يجعله يمثل فراقاً عن السياسات الأوروبية أو قد يجعله يسهم في تذليل العقبات بين الصين والتكتل الأوروبي، خاصة في ظل ترقب زيارة الرئيس شي، لأوروبا والتي ستتضح فيها ملامح الآفاق المستقبلية للعلاقات الأوروبية الصينية.