يشكل مخيم الركبان على الحدود الأردنية – السورية أزمة مزدوجة ذات طابع إنساني – سياسي. وفيما بدأت نذر حل الأزمة الإنسانية تلوح فى الأفق من خلال التفاهم على تخفيف معاناة عشرات الآلاف من لاجئي المخيم، فإن الأزمة السياسية لا تزال شديدة التعقيد، بسبب العقبات التي تواجه الحوار بين الأطراف المعنية. فالمخيم يقع فى نطاق قاعدة التنف الأمريكية، وفيما تدفع روسيا والنظام السوري إلى تفكيك أكبر جيب بشرى فى الطريق إلى التنف، فإن الولايات المتحدة لا تتعاطى مع تلك الرغبة بدعوى أن الأمر لا يزال بحاجة إلى ضمانات لعودة اللاجئين إلى مناطقهم الخاضعة لسيطرة النظام، وهو ما يعكس مدى ارتباط الأزمة بمصير الوجود العسكري الأمريكي في سوريا والموقفين الروسي والسوري منه.
وترى كافة الأطراف التي تتعامل مع ملف الركبان أنه يشكل "خاصرة رخوة" بالنسبة لها، وقد تكرست هذه النظرة مع الهجوم الإرهابي الذي وقع في 21 يونيو 2016 وتبناه تنظيم "داعش" وأسفر عن مقتل بعض عناصر الجيش الأردني. لكن فضلاً عن ذلك، تعتبر كل من روسيا والنظام السوري المخيم جيبًا تشرف عليه الولايات المتحدة، بالنظر إلى المنطقة التي يقع فيها داخل دائرة قاعدة التنف التابعة للتحالف الدولي وما يسمى بـ"جيش مغاوير الثورة".
مفاوضات صعبة:
وقد عقد اجتماع ضم مسئولي مركز المصالحة الروسي في سوريا ومسئولي الأمن السوري والإدارة المحلية وعددًا من وجهاء العشائر في الركبان بهدف حل الأزمة التي يفرضها المخيم، وأبرز الجانب الروسي – السوري رفض قيادات التحالف الدولي عقد جلسة التفاوض داخل المخيم بمنع ممثلي مركز المصالحة والنظام من الوصول إليه والاطلاع على أوضاعه، وأبدى رغبته في التعاطي مع الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة بعدم اتخاذ إجراءات انتقامية ضد العناصر التي ستعود إلى مناطقها التي تقع تحت سيطرة النظام وتسوية أوضاع الهاربين من الخدمة العسكرية.
لكن الإدارة الأمريكية تعتبر أن تلك المؤشرات لا ترتقي إلى مستوى الضمانات الأمنية المطلوبة، ووفقًا للمتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية روبيرت بلادينو، فإن الولايات المتحدة تؤيد دعوة الأمم المتحدة لإيجاد حل مستدام لمشكلة الركبان، طبقًا لمعايير الحماية وبتنسيق الجهود مع كافة الأطراف المعنية، معتبرًا أن المبادرات الروسية التي تنفذ من جانب واحد لا تفي بهذه المعايير. بينما لا يزال موقف العشائر يتراوح بين القبول بالضمانات المعروضة والخوف من المصير المرتقب لاحقًا.
اتجاه واحد:
وتدفع الأوضاع المطروحة للحل حاليًا إلى تحرك نازحي المخيم في اتجاه واحد، وهو الممر الإنساني الذي قدمته السلطات السورية والروسية. وفى ظل التفاهمات الأردنية - السورية التي سمحت بإدارة الحدود المشتركة مؤخرًا، فإن وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أشار إلى أن هناك أفقًا لحل الأزمة، وهو ما يراهن عليه السوريون والروس الذين أبدوا تأييدًا لدور تقوم به الأمم المتحدة في التعامل مع الأزمة، باعتبار أنه يمكن أن يحل معضلة لكافة الأطراف بما يسهم في تحقيق الأمن والاستقرار.
ملفات متداخلة:
ومن المرجح أن المواقف التي تبديها الأطراف حول المخيم لا تنفصل عن سياستها إزاء الملفات الأخرى. فبالنسبة للولايات المتحدة، فإن الأمر يتوقف على مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في سوريا ومصير التنف وليس مصير الركبان، بما يعني أنها تربط مصير الركبان بمصير التنف، وما إذا كانت ستوافق على تفكيك التنف في مقابل السماح بانتشار قوة قوامها 400 جندي أو أكثر في المنطقة الشمالية الخاضعة للأكراد، وبالتالي فإن حل الأزمة سيُرحَّل لاحقًا إلى جولة أخرى من تعقيدات الانتشار، على نحو قد يدفع في اتجاه ظهور طرح آخر يقوم على ترجيل نازحي المخيم إلى وجهة أخرى بعيدًا عن سيطرة النظام. وفي المقابل، تعتبر روسيا والنظام أن حل المشكلة الآن سيُقوِّض فكرة وجود مناطق خارج السيطرة في المستقبل، وهو ما يؤكد عليه الأخير، الذي تشير تصريحات مسئوليه إلى أنه يعمل وفق قاعدة فرض السيطرة والنفوذ على كافة المناطق، لا سيما مناطق خفض التصعيد التي لم يعد متبقيًا منها سوى التنف وإدلب.
سيناريو بديل:
واللافت في هذا السياق، أن مؤشرات عديدة ظهرت في سبتمبر 2018، ودعمت من احتمال توجه كل من موسكو وواشنطن إلى حل أزمة الركبان على غرار سيناريو المصالحات الذي جرى في الغوطة الشرقية ودرعا والقنيطرة، حيث أُعلن آنذاك عن لقاءات بين الجانبين كانت تتجه إلى عودة العناصر المسلحة التي تقبل بالتسوية إلى قراهم وبلداتهم، وعلى من لا يرضى بالتسوية الانتقال إلى جرابلس في الشمال السوري، وأشارت تقارير محلية ودولية أيضًا إلى أنه كان هناك بالفعل ثلاث أطراف تعاطت مع الخيارات المطروحة بين العودة إلى القرى والبلدات وبين الانتقال إلى جرابلس، لكن على ما يبدو فإن الموقف الأمريكي من تفكيك التنف هو ما تسبب في تأجيل تلك الخطة، بشكل يضفي مزيدًا من الأهمية والزخم على فرضية ارتباط المصير بين التنف والركبان.
احتمالات التصعيد:
وبينما يبدي النظام السوري مرونة في التعامل مع أزمة المخيم، فإنه، على الجانب الآخر، لا يستبعد القوة كآلية أخرى للتعامل مع وضعها المعقد. ففي 19 مارس الجاري، قال وزير الدفاع السوري على أيوب أن "بلاده قادرة على إخراج القوة الأمريكية من التنف"، وذلك بالتوازي مع تحرك عسكري لقوات الجيش السوري بالقرب من قاعدة التنف، وفقًا لتسريبات النظام التي أشارت إلى أن هناك استعدادات للتعامل مع احتمال التصعيد على الجانبين وهو احتمال وراد طبقًا لذلك، ففي حال قررت الولايات المتحدة الإبقاء على قوة عسكرية في التنف – حسب التقارير الأمريكية – تشكل نصف قوام القوة الموجودة، فإن اتجاهات عديدة لا تستبعد أن يلجأ النظام إلى خوض مواجهة لاختبار الموقف، لا سيما وأن كافة حلفائه يدفعون في هذا الاتجاه، خاصة وأن وقوع خسائر في صفوف القوة الأمريكية قد يشكل عامل ضغط على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لسحب تلك القوة، بل إن هناك احتمالاً آخر يتمثل في هجوم من على الجانب الآخر في العراق على التنف بدلاً من الهجوم من الداخل السوري، خاصة وأن إيران تعتبر أن التنف تشكل عقبة بالنسبة لها، وهو ما قد يعيد تشكيل الوضع بالنسبة للقاعدة والمخيم في الوقت ذاته. لكن من المتصور أن قوى عديدة قد تحاول كبح هذا السيناريو خشية ارتداداته المحتملة عليها.
وعلى ضوء ذلك، من المتصور أن الولايات المتحدة لن تبد اهتمامًا بالدعوات الروسية - السورية تجاه حسم ملف الركبان، وذلك في مقابل إصرار روسيا والنظام على دفعها نحو اتخاذ موقف يؤدي إلى الوصول لتفاهم حول هذا الملف، على نحو سوف يفرض تداعيات مباشرة على الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها داخل سوريا في المرحلة الحالية.