إعداد: نوران شريف مراد
أدت الأحداث الإرهابية التي استهدفت عواصم أوروبية في الفترة الأخيرة، سواء باريس ومن بعدها بروكسل، إلى تذكير الأوروبيين بمدى ضعفهم. فوصول الهجمات الإرهابية إلى قلب أوروبا أكد ضرورة تعزيز الصمود الأوروبي في مواجهة أي تحركات عدائية مضادة. وعلى الرغم من أن هذه المهمة ليست عسكرية بشكل كامل، بل تشمل عدداً من الجوانب الثقافية والفكرية، فإن الجانب العسكري أيضاً ضروري لتقوية القدرة الدفاعية الأوروبية.
في هذا الإطار، نشر "معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية" دراسة تحت عنوان: "استشراف منظومة الدفاع الأوروبي.. خمسة سيناريوات"، أعدها عدد من الخبراء في مؤسسات بحثية أوروبية متنوعة، وتطرقوا خلالها إلى الاحتمالات الخمسة المتوقعة لمستقبل منظومة الدفاع في أوروبا خلال عقد قادم، مع توضيح العناصر التي قد تساعد على تحويل كل سيناريو محتمل إلى واقع.
السيناريو الأول: الإبقاء على السياسات الدفاعية الحالية
وفقاً لهذا السيناريو، من المحتمل أن تُبقي الحكومات الأوروبية على سياساتها الدفاعية الراهنة التي تبنتها منذ نهاية الحرب الباردة، والمتمثلة في تخفيض قدراتها الدفاعية، وهو ما أدى إلى فقدان هذه الدول نحو 20% من قدراتها العسكرية بين عامي 2008 و2014 في ظل الأزمات المالية التي شهدتها الكثير من دول أوروبا.
وتشير الدراسة إلى أن الاستمرار في هذا النهج الدفاعي قد يترتب عليه حدوث انقسامات بين الناتو والاتحاد الأوروبي، كما سيكون الاهتمام بالدفاع أمراً تقديرياً متروكاً لرؤية كل دولة، ولن يكون المنظور الجماعي هو الأساس لتحقيق الدفاع الأوروبي. وبالتالي، قد تتحرك الدول الأوروبية بصورة فردية للدفاع عن نفسها، وقد تتحالف مع الولايات المتحدة في هذا الشأن.
وبناءً عليه، ستتبنى الدول الأوروبية استراتيجيات غير متجانسة، تتحدد انطلاقاً من أولويات وحسابات كل دولة، وهو من شأنه أن يحد من فرص التعاون بينها، ومن ثم إحداث فجوة دفاعية أوروبية.
وطبقاً لهذا السيناريو أيضاً، ستعجز الدول الأوروبية عن قيادة العمليات العسكرية الكبيرة أو متوسطة الحجم في إطار جماعي متماسك، في ظل انخفاض إنفاقها العسكري.
السيناريو الثاني: تشكيل التكتلات الدفاعية
يتمثل هذا السيناريو في توقع حال منظومة الدفاع الأوروبي إذا بدأت دول القارة الآن في تنفيذ الإصلاحات التي كانت قد أعلنت عنها على مدار الأعوام القليلة الماضية. وتشير الدراسة إلى أن الحكومات الأوروبية تتخذ مجموعة من الخطوات الإصلاحية بالفعل على أرض الواقع، إلا أنها لا تزال بطيئة. ومن ثم، فإن زيادة وتيرة تلك الإصلاحات من الممكن أن تؤدي إلى نتائج أفضل.
ووفقاً للدراسة، فإن هذا المنحى قد يضمن قدراً أكبر من الاستقلالية وحرية الحركة لأوروبا، إلا أنه من المتوقع أن تستمر أوروبا في مواجهة العديد من العقبات التي ستحول دون تعاملها مع العديد من الأزمات مستقبلاً.
وطبقاً لهذا السيناريو، سيتم تحديد القدرات الدفاعية الأوروبية في إطار جماعي، سواء كان في إطار الناتو أو الاتحاد الأوروبي، على أن يكون الهدف من ذلك هو دمج القدرات الأوروبية. ومن ثم، سيكون متاحاً للدول الأوروبية أن تلعب دوراً قيادياً في الأمن الإقليمي، خاصةً في ظل توجه الولايات المتحدة نحو آسيا، وما ارتبط بذلك من تطبيق مبدأ "القيادة من الخلف" في العديد من المناطق.
وعلى الصعيد المالي، تتوقع الدراسة ألا يشهد الإنفاق الدفاعي الأوروبي زيادة كبيرة نتيجة للأزمات المالية التي ضربت القارة الأوروبية في الفترة الأخيرة. والمشكلة هنا أنه لا يوجد ضامن لمساهمة الدول الأوروبية بصورة متساوية في هذا الإطار الدفاعي الجماعي.
ومن أجل ترجمة هذا السيناريو إلى واقع، ترى الدراسة أن الدول الأوروبية عليها أن تبدأ في تنفيذ ما اتفقت عليه من مشروعات وما حددته من أولويات سلفاً على المستوى الدفاعي. كما سيتعين على الدول الصناعية الأوروبية الكبرى، خاصةً فرنسا وألمانيا، أن تتولى قيادة الدول الأوروبية في هذا الصدد. كذلك تؤكد الدراسة ضرورة مراعاة التجانس والرشادة والعقلانية في تشكيل التكتلات الدفاعية.
السيناريو الثالث: المشاركة في عمليات السلام
يستند هذا السيناريو إلى خبرة الماضي، حيث يمكن استقراء أن الدول الأوروبية ستتبنى فكرة دفاعية بعيدة تماماً عن الاتجاه التقليدي للدفاع. وطبقاً لذلك، سوف تطغى المشاركة في عمليات السلام على أي منظور دفاعي آخر، وسيكون اهتمام الدول الأوروبية بالجوانب التسليحية والعسكرية مرتبطاً بصورة أساسية بالمشاركة في عمليات حفظ السلام.
وفيما يتعلق بالجانب التمويلي، تفترض الدراسة أن يتم تخصيص ميزانية لهذا السيناريو، بحيث تكون منفصلة عن ميزانية الاتحاد الأوروبي، ويتم اقتسام تمويلها على الدول الأعضاء على أساس الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة.
وتشير الدراسة إلى أن الهدف النهائي المراد تحقيقه من تبني هذا الاتجاه المحتمل، هو أن يصبح الاتحاد الأوروبي قادراً على تنظيم عمليات واسعة المدى تضم أعداداً كبيرة من العسكريين والمدنيين، وتكون قادرة على التعامل باستقلالية مع العديد من الأزمات الراهنة، مثل إقرار السلام في ليبيا، ودعم جيران الاتحاد الأوروبي (تركيا، والأردن، ولبنان) في التعامل مع مشكلة اللاجئين.
وتؤكد الدراسة أن ترجمة هذا الاحتمال إلى واقع يتطلب أن تبحث الدول الأوروبية مدى قدرتها الجماعية على الانخراط في عمليات سلام طويلة المدى. كما أنه كلما كانت هناك مراعاة للتجانس مع القدرات المحلية الدفاعية، كلما زادت احتمالية تطبيق هذا الخيار المستقبلي.
السيناريو الرابع: الناتو الأوروبي
وفقاً لهذا السيناريو، تنظر الدراسة إلى الدفاع الأوروبي باعتباره جزءاً وثيق الصلة بحلف شمال الأطلسي "الناتو". وبالتالي سيكون "الناتو" والتحالف مع الولايات المتحدة هو جوهر التعاون الدفاعي الأوروبي في المستقبل. كما أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لن تتحرك لإدارة الكوارث المختلفة والتصدي لها أو لتحقيق طموحات دفاعية مستقلة بصورة فردية، ولكن ستقوم بالاعتماد على بنية وهيكل "الناتو" في أي عمليات أوروبية جماعية.
وفي هذا السياق، تشير الدراسة إلى أن التكتل الأوروبي في إطار "الناتو" لن يُنظر إليه على أنه مصدر تهديد لوحدة الحلف، ولكن باعتباره عنصراً مُعززاً للقيادة والسيادة الأوروبية. وبموجب هذا المنظور، سوف يتم دمج البنية العسكرية الأوروبية التابعة للاتحاد الأوروبي في إطار تركيبة حلف شمال الأطلسي. وسيكون "الناتو" مُطالباً بإنجاز عدة مهام أساسية، ومنها: الدفاع الجماعي، وإدارة الأزمات العسكرية.
والسبيل الأساسي لتحقيق هذا السيناريو، كما تراه الدراسة، هو توفير الموارد المالية بما يساعد على زيادة الإنفاق الدفاعي، وامتلاك القدرة على القيادة من دون الولايات المتحدة إذا اقتضت الحاجة ذلك.
السيناريو الخامس: الجيش الأوروبي
يستند هذا السيناريو إلى وجود تعاون دفاعي أوروبي مُكثف يعود تاريخه إلى بداية جهود التكامل الأوروبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وبالتالي ففكرة إنشاء جيش أوروبي ليست بالجديدة، وتتزايد أهمية هذا الخيار، خاصةً في ظل تعقد الأوضاع الأمنية وظهور التهديدات غير التقليدية التي لن تتمكن الدولة بمفردها من التصدي لها.
وترى الدراسة أن التحديات التي تواجه الموازنات الحكومية الأوروبية سوف تعزز من التكامل العسكري، على اعتبار أنه سيكون السبيل الوحيد لأوروبا من أجل القيام بدور عسكري ذي مغزى في منطقة الجوار، وفي باقي العالم. وفي هذا الصدد، ستتوافق عدد من الدول الأوروبية على إيجاد آلية دفاعية، تكون أكثر رشادة، خاصةً على المستوى الاقتصادي.
وتشير الدراسة إلى أنه بتبني هذا الخيار، سوف تحتل أوروبا وقوتها الدفاعية مجتمعةً المرتبة الثانية بعد القوة العسكرية الأمريكية، الأمر الذي سيكفل للقارة استقلالية على صعيد الدفاع، وإدارة الأزمات والكوارث الطبيعية. كما سيساهم تشكيل جيش دفاعي أوروبي مُوحد في تحسين التعاون مع "الناتو"، وسيدعم مكانة أوروبا في الحلف.
ختاماً، تؤكد الدراسة ضرورة أن يفكر القادة الأوروبيون حالياً في مستقبلهم الدفاعي، على اعتبار أن أي تحرك لاحق سوف يكون عديم الجدوى، ولن يُحدث الأثر المطلوب. كما تشير الدراسة إلى عدة معايير يجب أن ينتبه لها صانعو القرار في أوروبا عند وضع أي سياسة دفاعية مستقبلاً، وهي:
- القدرات: بمعنى ما هي القدرات اللازمة من أجل تحقيق الأهداف الأوروبية الموضوعة؟
- الموارد المالية: تعتمد درجة فاعلية الدفاع الأوروبي على ما ستقرره الحكومات الأوروبية فيما يتعلق بالموارد المالية. ومما لا شك فيه أن تحسين ميزانية الإنفاق العسكري سوف ينعكس إيجابياً على منظومة الدفاع الأوروبي.
- التعاون: السؤال المحوري هنا هو هل الحكومات الأوروبية لديها الرغبة في جعل التعاون أمراً أساسياً في إطار الدفاع الأوروبي؟
* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "استشراف منظومة الدفاع الأوروبي.. خمسة سيناريوات"، والصادرة عن "معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية" في مارس 2016.
المصدر:
Jan Joel Andersson and others, Envisioning European defence: Five futures, (Paris: EU Institute for Security Studies, March 2016).