مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بأبوظبي يصدر كتابا جديدا بعنوان 'الجائحة: الملامح الاقتصادية والتكنولوجية الجديدة في عالم ما بعد كورونا'، في محاولة لفهم الآثار التي تركتها ويمكن أن تتركها تحورات الجائحة على العالم، على المستويين الاقتصادي والتكنولوجي.
أعاد متحور فيروس كورونا الجديد الذي أطلقت عليه منظمة الصحة العالمية تسمية "أوميكرون"، العالم إلى المربع الأول، حيث سارعت العديد من الدول إلى الاستنفار والإسراع باتخاذ إجراءات جديدة، في محاولة لدرء مخاطر تفشيه، الأمر الذي سينعكس حتما على حركة الاقتصاد العالمي الذي كاد أن يلتقط أنفاسه متعافيا بعد انتاج عدة لقاحات واقتراب مختلف الدول شرقا وغربا من تلقيح شعوبها.. وانطلاقا من ذلك أصدر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بأبوظبي، كتاباً جديداً بعنوان "الجائحة: الملامح الاقتصادية والتكنولوجية الجديدة في عالم ما بعد كورونا"، في محاولة لفهم الآثار التي تركتها ويمكن أن تتركها تحورات الجائحة على العالم، على المستويين الاقتصادي والتكنولوجي.
ضم الكتاب مجموعة من الدراسات لخبراء وباحثين متخصصين في الشأنين الاقتصادي والتكنولوجي من بينهم د.إيهاب خليفة، وأندرو ألبير شوقي، ود.رغدة البهي، ود.صدفة محمد محمود، ود.علي صلاح، وتم تحريرها من قبل الباحث مصطفى ربيع، رئيس برنامج المؤشرات وتحليل البيانات بالمركز. وقد أكد الكتاب أن جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) تركت آثاراً عميقة على العالم، شملت المستويات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والتكنولوجية كافة، بحيث يمكن القول إن عالم ما بعد جائحة كورونا ليس كما قبلها. وبرغم ما واجهه العالم من أوبئة عبر التاريخ، يبدو أنها أخطر من وباء كورونا، قياسا على معيار الوفيات الناجمة عن الوباء، إلا أن تداعيات كورونا قد تتخطى ما أحدثته الأوبئة السابقة نظراً لعامل رئيسي وهو العولمة. فمثلا، أودت الإنفلونزا الإسبانية في الفترة من 1918 وحتى 1920 بحياة أكثر من 50 مليون إنسان، في حين تبلغ وفيات كورونا حتى تاريخ 15 أكتوبر 2021 نحو 4 ملايين و879 ألفا و235 حالة، بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية.
وأشار محرر الكتاب د.مصطفى ربيع في تقديمه إلى أن جائحة فيروس كورونا تسببت في أسوأ ركود الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، متخطية في آثارها الأزمة المالية العالمية في عام 2008. إذ أثرت الجائحة على جميع الأنشطة الاقتصادية من دون استثناء، حيث تسببت في انخفاض الطلب على إنتاج جميع الأنشطة تقريبا، وأجبرت معظمها على التوقف عن العمل، والعمل بالحدود الدنيا في أفضل الأحوال. ويعد قطاع السياحة والسفر من أكثر الأنشطة تضرراً بالجائحة. وفي المقابل، أدت أزمة كورونا وما صاحبها من إجراءات إغلاق إلى صعود الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد في الأساس على شبكة الإنترنت كوسيلة للوصول إلى المستهلك، ويأتي قطاع الاتصالات والشركات المقدمة لخدمات الإنترنت في مقدمة الأنشطة الاقتصادية التي شهدت حدوث طفرة في حجم أنشطتها. كما تسببت أزمة كورونا في أعباء ضخمة للبشر، فالإغلاق العام الذي اتبعته الدول لمحاصرة الفيروس، تسبب في عدم قدرة الكثير من الشركات على الاحتفاظ بموظفيها، ودفع بالعديدين حول العالم إلى مصاف البطالة، وتحول الكثير منهم إلى فقراء.
وأكد أن الأزمة الراهنة تشبه أزمة "الكساد الكبير" في بعض الجوانب، لا سيما فيما يتعلق بالتغيرات المتوقعة في النظام الاقتصادي العالمي. فأزمة "الكساد الكبير"، ساقت العالم إلى تغيير الطريقة التي كانت تتعامل بها الدول مع اقتصادياتها، حيث أعيد النظر من جديد في الدور الاقتصادي للدولة، فبعد أن كانت الدولة قد انسحبت من الأنشطة الاقتصادية في العقود التي سبقت الكساد الكبير، وكان ذلك سببا في وقوع أزمة الكساد هذه؛ فإن عملية التعافي منها جاءت عبر عودة الدولة بقوة إلى النشاط الاقتصادي. ومن ثم، تضع الأزمة الراهنة النظام الاقتصادي العالمي على عتبة مرحلة جديدة، كونها تدفع نحو تغيير الكثير من ثوابته، وتتجه نحو تغيير النظريات الاقتصادية المتعلقة بثروة الأمم وقوتها، وتجبر الدول على تغيير القواعد التي حكمت منظومة علاقاتها الاقتصادية لمدة تزيد على سبعة عقود، والتي تقوم على تحرير التجارة السلعية والخدمية، وتحرير حركة البشر، وكذلك تحرير حركة رؤوس الأموال بين الدول.
ولفت إلى أن غالبية الدول بدأت استعداداتها منذ مطلع عام 2021 للدخول في مرحلة "التعافي"، عقب إنتاج اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، وبدء التطعيمات ً بسرعة كبيرة، إلا أنه سرعان ما ظهرت العديد من المشكلات التي تؤثر سلبا على مسارات سياسات التعافي، بعض هذه المشكلات ناتج عن الطبيعة الخاصة بالفيروس نفسه وتحوره، إذ تحور الفيروس في شكل سلالات جديدة أشد قوة، وأعلن الوزير المسؤول عن توزيع اللقاحات في المملكة المتحدة، في مطلع فبراير 2021، عن وجود 4 آلاف سلالة متحورة من فيروس كورونا؛ وهو الأمر الذي يعكس تراجع فاعلية اللقاحات. بينما يعود بعضها الآخر لطريقة تعامل الدول مع "اللقاحات"، حيث تحولت "اللقاحات" إلى محور تنافس وصراع جديد بين القوى الكبرى، سواء تعلق الأمر بالإنتاج أو بالتصدير أو بالتوزيع، وظهرت ثنائية متناقضة بين "دبلوماسية اللقاحات" و"حرب اللقاحات"، وثنائية أخرى بين "عالمية اللقاحات" و"قومية اللقاحات"، وبينهما نشبت حرب معلوماتية ودعائية بين الدول وشركات الأدوية الكبرى، التي أصبحت فاعلاً اقتصاديا جديداً، يدخل في جدالات قانونية وسياسية مع الدول، في استغلال من بعض الدول والشركات لما يمكن أن يطلق عليه "اقتصادات اللقاحات".
وأضاف ربيع أن جائحة كورونا أدت إلى ما يمكن وصفه بأكبر وأسرع تحول رقمي في التاريخ، إذ دفعت إجراءات الإغلاق للحد من تفشي الفيروس إلى اعتماد الدول والأفراد، بشكل غير مسبوق، على التكنولوجيات الرقمية، إذ طلب من الموظفين العمل من منازلهم، وتحولت المدارس والجامعات لتقديم الدروس عبر الإنترنت، وتم عقد القمم والاجتماعات الحكومية عن بعد، وإذا كانت هذه الأزمة أثبتت أن الانترنت والتكنولوجيا هما سبيل الإنسان الوحيد لتسيير حياته حياته بصورة "شبه طبيعية" في ظل كارثة إنسانية كبرى مثل وباء كورونا، فإن أهم ما يميز هذه التجربة أنها جعلت الأفراد يستخدمون الإنترنت كما خلق له أن يكون، فتشكلت الحياة الافتراضية الطبيعية القائمة على الإنترنت، وأصبح هناك حديث عن "عالم سيبراني حقيقي" يمكن من خلاله العمل والتعلم مثلما يتم استخدامه في التسوق والترفيه.ولكن الاعتماد المتزايد على الإنترنت والتقنيات الذكية، حمل في الوقت نفسه تهديدات ومخاطر، مثل الهجمات السيبرانية، والجرائم السيبرانية، والإرهاب السيبراني، الذي يمكن أن تتسبب في تحقيق خسائر فادحة للحكومات والشركات والأفراد، سواء على مستوى الخدمات أو الاقتصاد أو الأرواح البشرية، فاستهداف النظم الطبية، ونظم المواصلات التي تعمل عن بعد، ومحطات الطاقة والكهرباء والأقمار الصناعية، عبر الهجمات السيبرانية، يمكن أن يتسبب في خسائر بشرية كبيرة في دقائق. وقد أدى الاعتماد المتزايد على الفضاء السيبراني، عقب تفشي كورونا، إلى اهتمام الدول بفرض سيادتها عليه، لمواجهة التهديدات المتنامية المترتبة على ذلك.
تناول الكتاب في فصله الأول، التداعيات الكبيرة لجائحة كورونا على الاقتصاد العالمي بكل قطاعاته، حيث تصاعدت الأعباء الاقتصادية التي تواجهها الاقتصادات الوطنية، وتزايدت معدلات الفقر وتهديدات الأمن الغذائي. ونتيجة لذلك، توسعت الدول في أدوارها الاقتصادية بالتوازي مع التحولات في ثوابت المالية العامة، كما بدأت الشركات الصغرى والضعيفة تواجه معضلة البقاء في مقابل صمود الشركات القوية، وحققت أنماط الاقتصاد الافتراضي مكاسب ضخمة. ورصد الفصل الثاني، التحديات غير المسبوقة التي شكلتها الجائحة للشركات الكبرى، منها صدمات الطلب على السلع والخدمات، والنقص أو الزيادة الكبيرة في الطلب، وانقطاع سلاسل التوريد، والبطالة والركود الاقتصادي. واستعرض أنماط استجابة الشركات للتحديات التي تفرضها أزمة كورونا بتصنيفها في فئتين رئيسيتين، أولاهما، ما يمكن وصفه ب"أنماط الاستجابة التقليدية"، التي يندرج ضمنها تصفية الاستثمارات، وتخفيض التكاليف، وتسريح العمالة، والتقدم بطلب الحصول على الدعم الحكومي، وذلك من أجل إحداث تحسينات فورية في الأداء، والتخفيف من الخسائر الضخمة التي تتكبدها الشركات. وثانيهما، فيتضمن مجموعة من "الأنماط المرنة والخّلقة" للاستجابة للأزمة، والتي تقوم بالأساس على استثمار الفرص المتاحة، وتحويل التحديات إلى مكاسب ملموسة، وذلك عبر حزمة من الآليات والتدابير المرنة والمبتكرة التي تمكن الشركات من تعظيم أرباحها التجارية بالرغم من أزمة كورونا، كما قدم الفصل مجموعة من الآليات والأدوات والاستراتيجيات المقترحة للشركات للاستعداد الجيد للوباء القادم، انطلاقا من أن فيروس كورونا ليس تحديا لمرة واحدة، ومن الممكن أن نشهد في المستقبل أوبئة أخرى أشد فتكا.
وناقش الفصل الثالث المشكلات التي تؤثر سلبا على مسارات سياسات التعافي، فعلى الرغم مما شهده العالم من إنتاج سريع ومكثف للقاحات، حيث بدأ التطعيمات في ديسمبر/كانون الاول 2020، أماً في الحد من انتشار فيروس كورونا، فإنه قد ظهرت العديد من المشكلات التي تؤثر سلبا على مسارات سياسات التعافي، بعضها يتعلق بالتحورات التي طرأت على فيروس كورونا. وبعضها الآخر يتعلق بما أظهرته عمليات إنتاج اللقاحات من ناحية والتصدير والتوزيع من ناحية أخرى، عن وجود سباق خفي تخوضه الدول ضد بعضها البعض، وذلك من أجل تحقيق المصلحة الوطنية لكل دولة على حدة دون سواها في الحصول على اللقاحات. كما تحولت اللقاحات إلى محور تنافس وصراع جديد بين القوى الكبرى، وأصبح إنتاج اللقاحات بمنزلة أحد مؤشرات النفوذ والقوة، وسباقا محتدما تخوضه الدول الكبرى.
أما عن التحولات التكنولوجية التي طرأت على العالم في ظل أزمة كورونا، فاختص بها الفصل الرابع، كاشفا أن الأفراد والمؤسسات عامة وخاصة اعتمدت بشكل كثيف على التقنيات الذكية لتسيير شؤونها، سواء على مستوى العمل أو التعليم أو الترفيه، وذلك في ظل إجراءات الإغلاق التي اتخذتها كثير من الدول لمواجهة تفشي الفيروس. وتوجد مؤشرات على استمرار عدد من المؤسسات في تبني بعض النماذج التي أفرزتها أزمة كورونا، على رأسها التعليم والعمل عن بعد، لما تحققه من مزايا متعددة، تضمن توفير الوقت والجهد والتكلفة، وتحقيق النتائج المرجوة نفسها التي كانت تتحقق بالطرق التقليدية.
وناقش الفصل الخامس والأخير، مساعي الدول لفرض سيادتها التكنولوجية على مختلف الفاعلين في المجال السيبراني الخاص بها، في ظل الاعتماد المتزايد على الفضاء السيبراني عقب تفشي كورونا. ويقصد بالسيادة التكنولوجية، سيطرة الدول على البنية التحتية التكنولوجية على أراضيها، شاملة الكابلات والسيرفرات وغيرها من التجهيزات الرئيسية، بالإضافة لفرض القواعد على الفاعلين المنخرطين في التفاعلات التكنولوجية. ويختلف هذا المفهوم عن "السيادة السيبرانية"، التي يقصد بها السيطرة على الفضاء الافتراضي، شاملا التفاعلات وتدفقات البيانات والاتصالات. كما استعرض الفصل أدوات الدول لفرض سيادتها التكنولوجية، والإجراءات والتدابير التي تتخذها للتصدي لمنتهكي سيادتها التكنولوجية، فضلاً عن العوائق التي تواجه الدول لفرض السيادة التكنولوجية.