أخبار المركز
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)
  • محمود قاسم يكتب: (الاستدارة السريعة: ملامح المشهد القادم من التحولات السياسية الدرامية في كوريا الجنوبية)
  • السيد صدقي عابدين يكتب: (الصدامات المقبلة: مستقبل العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في كوريا الجنوبية)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)

تجاعيد سوفياتية في وجه النظام الإيراني

18 نوفمبر، 2019


مشهدٌ من الماضي السوفياتي قد يساعد في تفسير بعض الحاضر الإيراني على رغم اختلاف المسارح والمعطيات. في الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) 1986 اتَّجهت أنظار العالم إلى الكرملين لمناسبة انعقاد المؤتمر السابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي. كان يترقب باهتمام أول إطلالة واسعة للأمين العام للحزب ميخائيل غورباتشوف الذي اضطر كرادلة الحزب للجوء إليه قبل عام بعدما تعبوا من الجنازات المتتالية للقيادات الهرمة. وكنت بين الصحافيين الذين توافدوا إلى موسكو لتغطية الحدث.

كان كل شيء يوحي بالقوة في القاعة الكبيرة. جلس «فتى الكرملين» على منصة توزَّعَ عليها كبار قادة أوروبا الشرقية والدول الحليفة والصديقة وبينهم فيديل كاسترو ومنغيستو هايلي مريام. وانتشر في القاعة حزبيون من مختلف أنحاء العالم ومعهم جنرالات من المعسكر الاشتراكي تكاد صدورهم تنوء بحمل الأوسمة. كانت الإمبراطورية مسلحة حتى الأسنان ولدى بلاد لينين من الأسلحة النووية ما يكفي لتدمير العالم مرات عدة. ولم يخطر يومها ببال أحد أن الاتحاد السوفياتي سيختفي من الخريطة بعد خمسة أعوام، وأنَّ «الجيش الأحمر» ومعه الـ«كي جي بي» لن ينجحا في ردِّ الموت عنه. وفي ذلك المؤتمر أطلق غورباتشوف المدرك لشيخوخة النظام كلمتين سحريتين هما الشفافية وإعادة البناء، والغرض منهما التصالح مع حقائق العصر. لم يحتمل النظام المتكلس محاولة التطوير من الداخل وتحول فتح النافذة نوعاً من استدعاء العاصفة التي دفعت النظام إلى ركامه.

وعلى هامش المؤتمر أبلغني زميلٌ مقيمٌ في موسكو أنَّ أجهزة الأمن شنَّت منذ أسابيع حملة قاسية لإبعاد المتسولين من شوارع موسكو. فالدولة لا تعترف بوجود سوفياتي متسول بعد سبعة عقود من انتصار الثورة، ثم إنَّها لا تريد أن يعاين الزوار و«الرفاق» مشاهد تسول. استوقفني الموضوع خصوصاً حين رأيت الشرطة تسارع إلى إبعاد عجوز كانت تحاول أن تبيعَ قطعة صابون لأحد الواقفين في طابور انتظار زيارة ضريح لينين. وحين انهار الاتحاد السوفياتي بدا واضحاً أنه سقط بفعل الفشل الاقتصادي أكثر مما سقط بفعل غياب الحريات. وسقط أيضاً لأنَّ المواطن العادي لم يعدْ يصدق المفردات الخشبية للقاموس الرسمي. هذا علاوة على أنَّ الاتحاد السوفياتي توسع أكثر من قدرة اقتصاده على احتمال هذا القدر من التوسع وأعباء تمويل الحلفاء والأذرع.

جاءت الثورة الإيرانية من قاموس مختلف عن الذي جاءت منه الثورة البلشفية. منطلقاتها مغايرة وكذلك آلياتها ومرجعياتها. لكن ذلك لا يمنع من بعض المقارنات. تطلعت الثورة الروسية إلى تنظيم انقلاب كبير على مستوى العالم. وحلمت الثورة الإيرانية بتنظيم انقلاب كبير على التوازنات التي كانت قائمة في المنطقة. مارست الأولى عملية تصدير الثورة وهز الكيانات بدرجات متفاوتة تبعاً للمراحل، وكرست الثانية بنداً ثابتاً في دستورها. زعمت الأولى أنها تتطلع إلى بناء إنسان جديد، وكادت الثانية تدعي الأمر نفسه. تسللت الأولى إلى الخرائط عبر الأحزاب الشيوعية، وتسللت الثانية عبر علاقات مذهبية أو عبر شبكة الممانعة. حركت الأولى بيادقها وسجلت فتوحات جديدة في العالم فتزايدت أعباؤها. وتقدمت الثانية للإمساك بأربع عواصم عربية فتزايدت أعباؤها أيضاً. مارست الأولى سياسة زعزعة الاستقرار والحروب بالواسطة، وهو ما لم تتردد الثانية في ممارسته. تعمدت الأولى محاولة إضرام النار في الثوب الأميركي، وحرصت الثانية على درجة من تسخين خط التماس مع «الشيطان الأكبر».

الطلاق الذي وقع في الاتحاد السوفياتي بين الثورة والأجيال الجديدة يبدو واضحاً في إيران اليوم. يزيد من حدة الطلاق تدفق المعلومات والأنباء والصور بفعل ثورة الاتصالات. في الأسابيع الماضية، طرحت الاحتجاجات التي يشهدها العراق ولبنان موضوع الخيط الإيراني الحاضر بقوة في العاصمتين. نجحت طهران في تصدير نفوذها إلى بعض بلدان المنطقة، لكنها لم تستطع تصدير نموذج ناجح في الإدارة ومعالجة المشكلات الاقتصادية. وبسبب حضور إيران القوي في مواقع القرار في بغداد وبيروت بدا أن المطالبة بقيام دولة عصرية وطبيعية في البلدين تمر حكماً بتقليص قبضة إيران في البلدين. لكن المسألة بدتْ أبعدَ من ذلك حين وصلت الاحتجاجات إلى الداخل الإيراني الذي كان يعتقد أنه بعيد عن الموجة الحالية.

ليست المرة الأولى التي ينزل فيها إيرانيون إلى الشارع تعبيراً عن غضبتهم وخيبتهم. شهدت إيران احتجاجات في 2017، لكنها نجحت في قمعها وتشتيت المحتجين والالتفاف على مطالبهم. شهدت قبل ذلك «الحركة الخضراء» في 2009 بعد فوز أحمدي نجاد بولاية ثانية، وتمكَّنت آليات القمع المدروسة من إخماد نار الاحتجاجات. جديد الوضع الحالي هو أن إيران تعيش في أسوأ أوضاع اقتصادية منذ الثورة بفعل العقوبات الأميركية التي أعيدت بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الذي أبرم مع إيران في 2015. يزيد من حدة الأزمة سقوط الرهان على دور أوروبي يعوض الخروج الأميركي ولجوء طهران إلى تخفيف التزاماتها بموجب الاتفاق، ما أثار القلق الأوروبي مجدداً.

واضح أن النظام الإيراني الذي رفض التقاط الرسائل المتضمنة في احتجاجات العراق ولبنان يرفض بصورة قاطعة التقاط الرسائل التي تبعث بها الاحتجاجات الإيرانية. لذلك سارع المسؤولون الإيرانيون إلى الحديث عن التخريب الموجه من الخارج لتبرير قمع الاحتجاجات. الصعوبات التي تعيشها إيران جدية وفعلية. إنها تهدد اقتصادها وتهدد أيضاً قدرتها على متابعة دورها في الإقليم. يصعب الاعتقاد أنها ستسلم بأن الانتقال من الثورة إلى الدولة حتمي لتفادي الانهيار أو الصدامات التي لا تنتهي. لهذا يُخشى أن تلجأ إيران إلى الهروب إلى الأمام بافتعال حريق خارجي بعد أن صارت النار في الدار.

تشيخ الثورات وتنقطعُ صلتها الفعلية بالأجيال التي تولدُ بعد انتصارها ما لم تتمكن الأرقام من تأكيد تحسن حياة الناس في ظلها. غزا الاتحاد السوفياتي الفضاء وصوَّب صواريخه العابرة في اتجاه كل القارات، لكنَّه سقط في معركة الأرقام في الداخل. لم تعد الشعارات قادرة على إقناع المواطن العادي بشد الحزام مرة تلو أخرى. راح يسأل عن حقه في حياة أفضل، وعن مداخيله وتقاعده، وتواضع المتوافر على مائدته. لم يعدْ يصدق أرقام الخطة الخمسية ولا نتائج الانتخابات الشكلية. وحين يستحيل على المواطن التعبير عن سخطه بصورة علنية خوفاً من القمع، يلجأ إلى أشكال من المقاومة السلبية في العمل والإنتاج والسخرية، فتنحسر جاذبية الحزب، وتتعثر برامج القولبة التي ترمي إلى مصادرة العقول والقلوب.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط