أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

تحجيم الشارع:

تأثير الاحتجاجات العراقية على مفاوضات تشكيل الحكومة

29 أغسطس، 2018


على الرغم من احتدام الاحتجاجات الشعبية في محافظات وسط وجنوب العراق، وتحولها إلى احتجاجات سياسية على النخب السياسية على اختلاف انتماءاتها، لم تتغير معادلات المشهد السياسي في العراق، إذ استمرت تجاذبات ومفاوضات تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر تمهيدًا لتشكيل الحكومة في ظل تعامل القوى الشيعية مع مناطق الوسط والجنوب باعتبارها مضمونة الولاء، وعدم اهتمام القوى الكردية والسنية بالاحتجاجات، وتركيز القوى الإقليمية والدولية المرتبطة بالأوضاع السياسية في العراق على التوازنات السياسية، والحفاظ على نفوذها عبر ترجيح كفة وكلائها في السباق على تشكيل الائتلاف الحاكم. 

صعود الاحتجاجات السياسية:

تعج مُدن وسط وجنوب العراق بسلسلة من الاحتجاجات والتظاهرات المُنددة بالأحوال العامة في البِلاد، لا سيما فيما يخص قطاعات الخدمات والاقتصاد والنهب العام لخزينة الدولة ومواردها. ويحتج هؤلاء المتظاهرون على الطبقة السياسية المركزية القائدة للبلاد، التي يتهمونها بعدم الاهتمام بواقع وأبناء هذه المُحافظات، وتستند هذه التظاهرات على خِطاب ودعوات سياسية واضحة تتجاوز كل ما سبقها من حركات احتجاجية كانت في تلك المناطق. حيث كانت تُناهض وزيرًا أو قطاعًا خدميًّا أو مؤسسات بذاتها. 

وفي المقابل، تتسم التحركات الراهنة بالخصوصية والتفرد لأسباب تتعلق بتوسعها لأكثر من مُحافظة، ولشدتها التي تكاد أن تشلّ الحياة العامة داخل أية مدينة تندلع فيها، ولاستمرارها لفترة طويلة وطبيعة الطبقات العُمرية والمهنية والدينية المُشاركة فيها، ولعدم تبعيتها لأي تيارٍ سياسي 

 ومن ثم يمكن القول إنها تُشكل نمطًا من الاحتجاج الكُلي على الأوضاع الراهنة والنخبة السياسية في البلاد، بالذات الأحزاب السياسية الشيعية. وفي هذا الإطار، تعد الهجمات المتكررة من قِبل المتظاهرين على مقرات هذه الأحزاب دلالة رمزية واضحة المعالم على ذلك.

وتأتي هذه الاحتجاجات في لحظة سياسية استثنائية، كانت ترى فيها هذه الطبقة أنها هيمنت تمامًا على السياق السياسي العراقي، بعدما حققت أهم مكسبين سياسيين حيث قللت من التطلعات القومية الكردية الخاصة، واستطاعت تحجيم تأثيرات استفتاء الاستقلال عن العراق المنعقد في سبتمبر 2017، الذي ما لبث أن تدهور وتراجع بفعل توافقات إقليمية ودولية على حِساب التطلعات الكُردية، الأمر الذي سمح لهذهِ الطبقة بأن تُحجم مساحة الفاعلية الكُردية سياسيًّا وعسكريًّا، وأن تخرج محافظة كركوك عن سيطرة الكُرد تمامًا.

كما حجمت هذه النُخبة ما كان يطلق عليه "الاحتجاج السني" الذي كان يؤثر على شرعيتهم السياسية، ويتهمهم بتهميش العرب السنة بشكل متعمد، وذلك عبر تبني خطاب يفترض أن احتجاجات السنة من قبل قد أدت إلى المساهمة في ظهور "داعش". وفي هذا الإطار، يمكن القول إن هذه الاحتجاجات تُعتبر بمثابة انقلاب أولي من قِبل قواعد اجتماعية كانت تعتبرها نُخبة الحُكم العراقية المركزية ظهير اجتماعي لها، وفي وقت كانت تعتقد النُخبة فيه أنها صارت فيها مُطلقة الهيمنة على الكيان العراقي وقواه الفاعلة. 

تعثر تشكيل الحكومة:

في ظل هذه الاحتجاجات المستمرة لا تزال المداولات بشأن تشكيل الحكومة الجديدة جارية، وتسعى القوى الشيعية للنقاش فيما بينها لتشكيل الكُتلة النيابية الأكبر التي سوف تحدد رئيس الوزراء القادم. ففي حين تبدو بعض ملامح تلك المداولات واضحة، إذ ثمة كُتلتان رئيسيتان شبه متساويتين، واحدة مؤلفة من تناغم كُتلة "سائرون" المُسيطر عليها من التيار الصدري مع "تيار الحكمة" برئاسة عمار الحكيم، والأخرى مؤلفة من تآزر تحالف "الفتح" التي تُعتبر الجبهة السياسية لفصائل الحشد الشعبي برئاسة زعيم منظمة بدر هادي العامري، مع كُتلة "دولة القانون" برئاسة رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب الدعوة نوري المالكي، وبين هاتين الكُتلتين تقف كُتلة "تحالف النصر" بقيادة رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي التي تعتقد أن أيًّا من الطرفين سوف يلجأ إليها في المُحصلة ليتمكن من تشكيل الكُتلة البرلمانية الأكبر. 

على جانب آخر، يوجد نقاش سياسي عميق بين هذه القوى المركزية مع القوى السياسية الكُردية والعربية السُنية، لتستحوذ على توافق واضح معها، تستطيع من خلاله إعادة توزيع المناصب والمنافع بين هذه القوى المركزية ونظيرتها المهمشة. غير أن أولويات الطرفين الكُردي والعربي السُني تختلف بشكل واضح، ففي حين يحاول الأكراد جر الأطراف الشيعية للعودة إلى مرحلة الشراكة والتوافق الذي كان بين الطرفين قبل عام 2014، خصوصًا في ملف المناطق المُتنازع عليها والقضايا المالية والاقتصادية، فإن العرب السُنة يسعون لأن يتوافقوا مع الحكومة الجديدة لإعادة النازحين وإعمار المناطق المُحطمة في المُحافظات الغربية، بالذات في مدينة الموصل. لكن في المُحصلة فإن هذه القوى جميعها إنما تسعى للحصول على حيز أو حصة مما تدره سُلطة حُكم العراق، دون أية آمال بالمشاركة الحقيقية في تحديد هوية العراق الاستراتيجية وتوجهاته وعلاقاته الإقليمية والدولية.

ولا يقتصر الاهتمام بهذه الحكومة الجديدة على الداخل العراقي، حيث يمتد إلى كل من إيران والولايات المتحدة، وتركيا بدرجة أقل، فالحكومة الجديدة التي ستُشكل في العراق، ستُحدد هوية العراق وخياراته السياسية الاستراتيجية، وهو أمرٌ بالغ الأهمية في تحديد بعض ملامح الصراع الإقليمي، خصوصًا في مرحلة الانسحاب الأمريكي المتوقع في المُستقبل المنظور.

تداعيات الاحتجاجات الشعبية: 

يبدو أن الاحتجاجات لن يكون لها تأثير كبير على تغيير ملامح وتوجهات الحكومة العراقية بشكل جذري، حيث تتضح من مراجعة المداولات التي تجري لتشكيل هذه الحكومة ثلاثة ملامح رئيسية يمكن ذكرها فيما يلي.

1- استمرار النخبة: حيث أنه من المتوقع أن تستمر نفس نُخبة الحُكم المركزية في الهيمنة على المنابع الرئيسية للسُلطة والثروة العامة والمؤسسات البيروقراطية والاقتصادية، في دولة مركزية تُعتبر فيها الحكومة الفاعل الاقتصادي والمُجتمعي الأول، ورُبما الوحيد، في الحياة العامة، فعلى الرغم من حالة التذمر المنتشرة في الشارع تجاه الطائفية، إلا أن "هادي العامري" زعيم ميليشيا بدر أحد المرشحين الرئيسيين للفوز برئاسة الحكومة.

2- الارتباط بإيران: من المتوقع أن يظل العراق بمؤسساته الرئيسية مرتبط بشكل وثيق بالدوائر الإيرانية التي تسعي لإضعاف العراق لإبقائه في موقع التابعية للنفوذ الإيراني. الأمر الذي قد يزداد صعوبة في الفترات القادمة، خاصة لو تصاعدت المواجهة الأمريكية الإيرانية في المُستقبل المنظور.

3- الصراعات السياسية: عدم استقرار علاقة المركز السياسي العراقي مع الطرفين الكُردي والعربي السُني، وهو ما قد يدفع لأن تبقى أية حكومة عراقية جديدة في صراع مستمر مع هذين الطرفين، وعدم إيلاء المشاكل والقضايا الجوهرية لهذه القواعد الاجتماعية العراقية أي اهتمام يفوق ما تفعله راهنًا.

بمعنى آخر، فإن الحكومة العراقية القادمة ستبقى حكومة صراعات سياسية، دون استراتيجية واضحة المعالم ومدروسة تجاه مشاكل المُجتمع العراقي الجوهرية والمركبة، المتعلقة أولًا بدور وشكل وفاعلية الدولة في الحياة العامة، من حيث التنمية والاهتمام بالتعليم والصحة وتحقيق الاستقرار والسلم المُجتمعي، وقُدرتها على كبح الفساد السياسي والاقتصادي على حدٍ سواء.

حيث يبدو أن القوى السياسية المركزية غير مبالية بتأثير هذه الاحتجاجات على المشهد العراقي إذ تمضي هذه القوى لتشكيل الحكومة بنفس الوتيرة التي تم بها تشكيل الحكومات العراقية المركزية السابقة، فالقوى المركزية "الشيعية" ما زالت تعتبر القواعد الاجتماعية في مناطق جنوب ووسط العراق موالية لهاء، في حين أن القوى الرئيسية الكُردية والعربية السُنية لا تهتم بالاحتجاجات في الجنوب والوسط، أما مفاوضات القوى الدولية والإقليمية فإنها تركز على الحفاظ على التوازنات السياسية دون أن تهتم بما يجري في المدن والمناطق المحتجة، كما أن هذه الاحتجاجات لا تستطيع أيضًا أن تكبح مسيرة تشكيل الحكومة العراقية فهي ليست منظمة بما فيه الكفاية، كما أنه ليس هناك تنسيق بين المحافظات المختلفة.

ويظل أمام الحكومة العراقية الجديدة خياران بعد وصولها إلى الحكم، إما القبول بنوع من عدم المركزية الاقتصادية والإدارية غير المُعلن، تمنح عبرها المحافظات الجنوبية حصصًا معقولة من الثورة العامة، وقُدرة أوسع على إدارة شئونها الداخلية الخدمية والاقتصادية والبيروقراطية، وتستطيع من خلالها شراء ولائها السياسي من جديد، بعد تراجع قُدرة هذه الأحزاب على استقطاب هذه القواعد الاجتماعية بالخطابات والنزعات الطائفية والقومية، أو الاستمرار بنفس وتيرة الحكومات السابقة، وهو ما سيؤدي لتكرر الاحتجاجات وتمددها إلى محافظات أخرى.