أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

شيخوخة اللاعب الأوروبي

29 يوليو، 2019


لا غرابة أن تحتجز إيران ناقلة ترفع العلم البريطاني لمبادلتها بالناقلة التي احتجزت في جبل طارق. احتجزتها من دون أن يرفَّ لها جفنٌ. تعرف إيران أن بريطانيا الحالية ليست بريطانيا السابقة. وأن أوروبا الحالية ليست أوروبا التي كانت. يمكن القول أيضاً إن الروح الأطلسية ليست في أفضل أيامها.

تشبه اللعبة الدولية كرة القدم. حظوظك فيها مرهونة باللياقة والفتوة والبراعة والصبر والتماسك وحسن توزيع الأدوار بين أعضاء الفريق. وفي كرة القدم الفتوة مفتاح. لذلك تتقلص فرص اللاعب الأوروبي، ليس في تسجيل نقاط جديدة فحسب، بل في الحفاظ على المكاسب السابقة.

يبحث الصحافي عن قامة أوروبية استثنائية فلا يجد. الديمقراطية لا تحب الرجال الأقوياء. وسائل التواصل الاجتماعي تعري المتسابقين من الهالة إذا وجدت. تستدرجهم إلى ملعب الفضائح والتارات والمهاترات. انتهت تلك المرحلة التي كانت الأحداث الكبرى تنجب فيها رجالاً استثنائيين. لن تعثر فرنسا على شارل ديغول آخر. لن تجد ساحراً من قماشة فرنسوا ميتران. صار من السهل استنزاف السيد الرئيس المقيم في قصر الإليزيه. هذه قصة فرنسا وقصة غيرها. تستعد أنجيلا ميركل للمغادرة من دون أن تكون ألمانيا موعودة بمستشار برتبة قائد. لا شيء يوحي بأنها قادرة على إنجاب كونراد أديناور الذي انتشلها من ركامها ودفعها في طريق الديمقراطية والازدهار والاستقرار. ولا تبدو قادرة على ارتكاب زعامة مشابهة لزعامة هلموت كول الذي التقط الفرصة التاريخية التي شكلها انهيار الجدار، وأعاد توحيد ألمانيا من دون نقطة دم. بريطانيا مصابة بالمرض نفسه. بوريس جونسون نفسه يعرف القصة. لا يكفي أن تجلس في مكتب ونستون تشرشل لتصبح تشرشل. ولا يكفي أن تجلس على مقعد مارغريت ثاتشر لتستحق لقب «الرجل الحديدي». هذا زمن أوروبي عادي جداً يصلح لرجال عاديين أو أقل وإن كانوا أكثر خطورة. هذا زمن الزعماء الذين يولدون في عيادة «تويتر» و«فيسبوك» وسائر وسائل التواصل.

لم تكن أوروبا تتوقع ما حدث. وفي الحقيقة لم يتوقعه أحد. انهار جدار برلين وألقت ألمانيا الشرقية بنفسها في حضن الوطن الأم. انهار الجدار. وانهار النموذج. وانهار الاتحاد السوفياتي. فتحت أوروبا صدرها للدول الفارة من القيد السوفياتي. حلف الأطلسي فتح هو الآخر ذراعيه. ساد الاعتقاد بأن العصر الأميركي قد بدأ، وأن العالم سيعيش في عهدة القوة العظمى الوحيدة. نظرت أوروبا إلى روسيا يلتسين فرأتها تترنح. رأت ضباط «الجيش الأحمر» يبيعون بزاتهم مع الأوسمة في شوارع موسكو بحفنة من الدولارات.

لم تتنبه أوروبا إلى أن روسيا العميقة كانت تتململ من إملاءات السفراء الغربيين ونصائحهم. وأنها كانت تعد للثأر من مشهد الانتحار السوفياتي. لم تلتقط أوروبا ما حصل في الليلة الأخيرة من القرن المنصرم. أطل بوريس يلتسين معلناً استقالته وتواريه، واضعاً روسيا المريضة في عهدة كولونيل كان يقيم على مقربة من الجدار الألماني حين راح يتداعى وسارع إلى إتلاف وثائقه السرية قبل المغادرة. كان اسم الكولونيل فلاديمير بوتين. رجل تعلم في أروقة جهاز الـ«كي جي بي» فنَّ إخفاء المشاعر وتوجيه الضربات القاصمة بقفاز من حرير.

بدت أوروبا حلماً إنسانياً رائداً. قطار بمقطورات متنوعة يسافر نحو التقدم والازدهار متكئاً على إرث ضخم من الثورات والاكتشافات والأفكار والأنوار. قارة تعلمت من حربين عالميتين خطورة المتعصبين والمغامرين وخطورة استخدام القوة للتلاعب بالخرائط ومحو ملامح وفرض أخرى. حلم مشترك وعملة موحدة وحدود تم تحويلها فرصة تلاقٍ وممراً آمناً لتدفق السلع والمسافرين والأفكار. واقتصرت النزاعات على المجادلات في شأن الميزانيات وأسعار الأجبان والنبيذ، قبل أن تنفجر يوغوسلافيا لتذكر أوروبا المطمئنة بشياطين أزمات الهويات ورائحة الدم.

كانت أوروبا تواصل بهدوء أحلامها وخلافاتها حين كانت الصين تنهض من نومها الطويل. أحال ورثة دينغ هسياو بينغ ضريح ماو تسي تونغ إلى التقاعد الفعلي، وأطلقوا أكبر ورشة إصلاح وتحديث في التاريخ. البلاد التي كانت تعج بالفقراء الذين يتوسدون «الكتاب الأحمر» قررت الإمساك بمصيرها وتغيير موقعها ومستقبلها. تحت الرقابة الصارمة للحزب الشيوعي غادر مئات الملايين من الصينيين حالة الفقر، واندفعت البلاد في سباق محموم للإمساك بالثورة التكنولوجية والانخراط عميقاً فيها. ثم أفاق الأوروبيون ذات يوم ليكتشفوا أن الصين صارت الاقتصاد الثاني في العالم ومن دون أن تعتنق نظاماً يشبه الذي يعيشون في ظله.

وفي السنوات الأخيرة وجدت أوروبا نفسها أمام ثلاثة لاعبين مقلقين. رئيس أميركي يدير شؤون بلاده والعالم عبر «تويتر» ويطالب القارة القديمة بدفع ثمن الاستمرار في حمايتها ومضاعفة ميزانية الدفاع لديها. ورئيس روسي لا يرى حرجاً في ضم القرم وزعزعة استقرار أوكرانيا لمعاقبة الأطلسي على الاقتراب من روسيا إلى حد تطويقها. ورئيس صيني يطلق هجوم «الحزام والطريق» منعشاً طرق الحرير وحلم العصر الصيني.

في هذه الأثناء كان وجه الاتحاد الأوروبي يتجعَّد. دوله تعيش بسرعات مختلفة اقتصاديا وسياسيا وثقافياً. أرسلت انتخابات عدة إشارات تعب قسم من الأوروبيين من الحلم الذي ساد الاعتقاد أن لا رجعة عنه. أطل اليمين المتطرف في أكثر من مكان ودفعت الأمواج الشعبوية أصواتاً مقلقة إلى مقاعد البرلمان الأوروبي والحكومات مستغلة فشل سياسات الاندماج واستمرار تدفق أمواج اللاجئين. وتولت بريطانيا التي كان ديغول يشكك في صدق مشاعرها الأوروبية توجيه الضربة الأقسى باختيار ناخبيها الطلاق تحت عنوان «بريكست». بدت أوروبا أشبه بمجموعة جزر أو قوارب تستعد للسير في اتجاهات مختلفة. وصول بوريس جونسون رسالة في هذا الاتجاه. لقد شاخ اللاعب الأوروبي. والشيخوخة عقاب وموعد مع الغروب والتفكك.

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط