شهدت الأجهزة الأمنية والعسكرية بعدد من الدول في الإقليم حالة من التشظي والانهيار، مهدت الطريق لإعلان تنظيم "داعش" سيطرته على مساحات واسعة من الدول، خلال الفترة (2014-2017). ومن هنا، برز دور التنظيمات والميليشيات المسلحة التي باتت أمرًا واقعًا، وأصبحت تمارس العمل العسكري بصورة مستقلة عن الدولة. فعلى سبيل المثال، تأسست قوات الحشد الشعبي عقب دعوة "نوري المالكي" في عام 2014 وفتوى المرجع الديني الشيعي في العراق "علي السيستاني" بضررورة حمل السلاح في وجه تنظيم "داعش" عقب اتساع نفوذه في العراق.
وفي سوريا تصاعد عدد التنظيمات المسلحة ليتجاوز -وفقًا لبعض التقديرات- ألف جماعة مسلحة، تقاتل في معظم الأحيان لأهداف متباينة. ولعل هزيمة تنظيم "داعش" وتصاعد الجهود الباحثة عن تسويات سياسية للصراعات الجارية لن تستطيع إغفال دور التنظيمات المسلحة غير النظامية وما استطاعت أن تفرضه من نفوذ، وما اكتسبته من قوة خلال فترة الصراع. ولا تزال الميليشيات المسلحة تتمدد في ليبيا، وستبقى ميليشيا الحوثيين في السلطة لفترة طويلة في اليمن. ومع بداية عام 2018 تثار تساؤلات حول دول التنظيمات المسلحة في مرحلة ما بعد تنظيم "داعش".
واقع جديد:
تواجه دول مثل سوريا والعراق معطيات جديدة فرضت واقعًا مختلفًا نسبيًّا، حيث انتهى دور التنظيمات العسكرية والميليشيات المسلحة الذي جاء مقترنًا بالحرب على تنظيم "داعش"، وتكشفت ضرورة وضعها كجزء من التسوية السياسية، على نحو يعكس مؤشر الاتجاه نحو أدوار أخرى بديلة يمكن أن تؤديها، خاصة في ظل تمكن العديد منها من تشكيل قوة عسكرية مسلحة، ونفوذ يصعب إغفاله خلال فترة الصراع.
ففي العراق -على سبيل المثال- نجد أن الميليشيا الشيعية، وخاصة ميليشيا الحشد الشعبي، قد تمكنت من تعظيم دورها العسكري خلال فترة الحرب، والتي أظهرت خلاله قدرات عسكرية عالية برز في صورة جيش منظم يصعب تحجيم دوره في الفترة القادمة، خاصة عقب ما قامت بترسيخه من صورة ذهنية لدى البعض وضعتها في مصاف المخلصين الذين ضحوا بأرواحهم دفاعًا عن العراق.
وفي ضوء ما يفرضه الوضع الراهن من واقع مختلف واتجاهات جديدة في مسارات الصراعات في دول الإقليم، من المتوقع أن يواجه مستقبل التنظيمات المسلحة أحد المسارات التالية:
تحت السيطرة:
1- الإدماج في هياكل الدولة: يعد إدماج الميلشيات والقوى المسلحة في الأجهزة الأمنية أو العسكرية النظامية البديل الأكثر طرحًا، على نحو تم تداوله بجدية في العراق، ففي ظل ما يواجهه رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" من تحديات حول التعامل مع الميلشيات المسلحة -خاصة ميلشيا الحشد الشعبي- يبدو أن وضعها تحت مظلة الدولة بديل وجيه، وهو ما أعلنه العبادي في بداية ديسمبر الماضي من أن "الحكومة تعمل على إدماج قوات الحشد الشعبي في القوات العراقية وفقًا للإطار القانوني ووضع كل الأسلحة تحت سيطرة الدولة".
كما صرح بهذا المعنى المتحدث باسم منظمة بدر "كريم النوري" من أن "نهاية الحرب على "داعش" لا تعني نهاية الإرهاب، ومن الأفضل أن تبقى القوات المدربة تحت ملاحظة الحكومة بدلًا من أن تظل حرة، لذلك ندافع عن فكرة ضمها لقوات الدفاع الوطنية"، إلا أن سيناريو الإدماج بشكل عام وإدماج الحشد الشعبي بشكل خاص يواجَه بتحديات عدة، يمكن ذكرها على النحو التالي:
أ- زيادة العبء على الدولة فعلى سبيل المثال كان رئيس الوزراء العراقي قد قرر في نهاية عام 2016 ضم عدد من المجموعات المسلحة لقوات الدفاع الرسمية، وهو ما أدى إلى زيادة العبء المادي الناتج عن الرواتب والالتزامات المالية، وعلى الرغم من ذلك لم تمثل هذه المجموعات في الحرب كتلة واحدة وعمل كل منها بصورة منفردة.
ب- الرفض الشعبي لبعض هذه الميلشيات التي ترى العديد من الشرائح في سوريا والعراق أنها قد ارتكبت جرائم في حقها، وهو ما يحول دون جدوى إدماجها، خاصة أن بعض التجاوزات ذات البعد الطائفي التي ارتكبتها بعض عناصر الميلشيات في المناطق المحررة تهدد باشعال أزمة طائفية داخلية.
ج- الخلافات الأيديولوجية والصراعات القائمة بين العديد من هذه التنظيمات من ناحية أو بينها وبين النظام من ناحية أخرى. فعلى سبيل المثال في سوريا تتفق معظم الجماعات المسلحة على رفض بقاء نظام الأسد، ويصعب ضمها ودمجها داخل الجيش السوري النظامي.
قوة سياسية:
2- التحول لقوى سياسية مؤسسية: تتصاعد التحليلات التي ترى أن تحويل التنظيمات والجماعات المسلحة إلى قوى سياسية منظمة يعد بمثابة البديل الأمثل والمتوقع حدوثه في المستقبل، وهو ما بدت بوادره في العراق، حيث من المتوقع أن يشهد عام 2018 الانتخابات البرلمانية التي من المتوقع أن يخوضها الحشد الشعبي متحايلًا على المحاذير القانونية والدستورية التي تحظر على القوى العسكرية خوض الانتخابات السياسية.
وقد ظهرت مؤشرات عدة على هذا التحليل، منها تصريحات العديد من القيادات التي اتجهت إلى إعلان المشاركة في الحياة السياسية، مثل "أحمد الأسدي" المتحدث السابق باسم ميليشيا الحشد الشعبي والذي أعلن إطلاقه تحالفًا انتخابيًّا أطلق عليه اسم "تحالف المجاهدين". وتحظى ميليشيا الحشد الشعبي بدعم رئيس الوزراء السابق "نوري المالكي". وأيضًا إعلان رئيس الحشد الشعبي "فالح الفياض" تكوين حزب سياسي بمسمى "عطاء" لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة.
وتتصاعد في هذا الصدد مخاوف من أن تكون الميليشيات الشيعية عائقًا أمام التحول السياسي في العراق، واستخدام إيران لها كمركز نفوذ في العراق بعد هزيمة "داعش"، وتتزايد احتمالات اتساع نفوذ الحشد الشعبي سياسيًّا وعسكريًّا، خاصة في ضوء ما يتلقاه من دعم إيراني، خاصة أن عدد أفراد الميليشيا أصبح يفوق مائة ألف عنصر، أي ما يوازي تقريبًا نصف عدد عناصر الجيش العراقي، مع تكهنات بزيادة عدده. ليتحول إلى قوة سياسية لها جناح عسكري وليصبح قوة مستنسخة من نموذج "حزب الله" اللبناني.
الدمج الميلشياتي:
3- الاندماج في فصيل موحد: لا شك في أن سيناريو اندماج الفصائل والتنظيمات المسلحة في وحدة واحدة تشكل قوة متماسكة لا يزال مطروحًا، وقد طُرح كثيرًا من قبل في ظل الصراع في سوريا، وبُذلت محاولات عدة في هذا الاتجاه أبرزها تجربة جيش الفتح في سوريا التي تمت في عام 2015 وضمت مجموعة من أقوى الفصائل في هذا التوقيت (مثل: حركة أحرار الشام، وفيلق الشام، وجبهة النصرة)، وقد تمكنت من السيطرة على محافظة إدلب، إلا أنها سرعان ما تفككت ولم تنجح بعدها أي محاولات أخرى للاندماج.
ولعل عدم ترجيح سيناريو الاندماج بين الفصائل المسلحة يعود إلى عدد من العوامل، التي تتمثل في الآتي:
أ- الاختلافات الأيديولوجية والعقائدية بين الفصائل المسلحة التي تجعلها أكثر تهيؤًا للصراع عن الاندماج، خاصة بين الجماعات ذات التوجه الديني المتشدد والجماعات ذات التوجه الثوري.
ب- البحث عن نفوذ خاصة في ضوء ما اتسم به الصراع من طول أمد صاعد من توقعات وطموحات العديد من الجماعات المسلحة التي تمكن بعضها من فرض سيطرته على مساحات من الأرض.
ج- استمرار الدعم الخارجي يُعد دافعًا وراء رفض الاندماج، خاصة أن العديد من القوى المسلحة تحارب بدعم من قوى خارجية وتعمل لمصالحها التي قد تتعارض مع مصالح دول أخرى تدعم قوى مسلحة أخرى في الداخل.
التوهج الميداني:
4- تصاعد الصراع بين التنظيمات المسلحة: يرجح هذا السيناريو تصاعد حالة الصراع بين الميلشيات المسلحة، والدخول إلى موجة أخرى من عدم الاستقرار داخل الدول، خاصة في ظل محاولات تحقيق مكاسب والبحث عن نفوذ، ولعل أسباب انهيار محاولات الاندماج قد تكون هي نفسها أسباب تصاعد الصراع بين التنظيمات المسلحة في سوريا على وجه الخصوص، نتيجة التباينات الكبيرة بين هذه الجماعات في الرؤى والأيديولوجيات، بالإضافة إلى تباين مصالح القوى الداعمة لها، وهو ما جعل استمرار صراع النفوذ فيما بينها هو السيناريو الأكثر احتمالًا.
تحولات مشروطة:
خلاصة القول.. لا يوجد مسار واحد سيحكم مستقبل الميليشيات المسلحة في بؤر الصراعات في الإقليم، فما ينطبق على الحوثيين في اليمن لا ينطبق على التنظيمات المسلحة في ليبيا، والخيارات المطروحة بالنسبة لميليشيا الحشد الشعبي لا تماثل المسارات المحتملة للجيوش الموازية في سوريا، وهو ما يرتبط بالمباريات الميدانية التي تخوضها تلك الميليشيات، سواء في مواجهة التنظيمات المماثلة أو الجيوش النظامية، فضلًا عن الدعم الذي تحصل عليه من قوى إقليمية ودولية، وكذلك مدى قدرة هذه الميليشيات على التعايش مع الأوضاع الجديدة والقيام بأدوار بديلة قد تفرضها لحظة "إنضاج الصراع" في هذه الدولة أو تلك.