في تقديري أن جوهر الأزمة الراهنة التي فجرتها التصريحات القطرية الأخيرة لا يرتبط بما إذا كانت ناجمة عن اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية ومن ثم تكون تصريحات مزيفة وتصبح تداعياتها غير ذات موضوع، ذلك أنه بغض النظر عن صدق هذه التصريحات أو زيفها فإن المشكلة الحقيقية تتمثل في أن هذه التصريحات، وإن جاءت نغمتها زاعقة تعكس بأمانة سياسات حقيقية اتبعها النظام القطري وما يزال يتبعها. أليست الاتصالات القطرية- الإسرائيلية الرسمية معروفة منذ زمن ومتناقضة مع علاقة قطر بـ«حماس» التي ورد في التصريحات التي فجرت الأزمة أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني؟ ألم نألف السياسة القطرية الخارجة على الخط الخليجي والعربي تجاه إيران على النحو الذي جعل وزير الخارجية القطري يلتقي في العراق قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري قبل ساعات من انعقاد القمة الإسلامية - الأميركية؟ والواقع أنني لم أصدق أن هذا اللقاء قد تم إلا بعد أن وضعته الحكومة العراقية على موقعها الرسمي. أليست الحكومة القطرية هي الوسيط النشيط المفضل لدى «جبهة النصرة» في التفاوض وتسليمها المبالغ الطائلة التي تُدفع على سبيل الفدية للإفراج عمن تختطفهم، والتي تُعتبر مصدراً مهماً لتمويل هذا التنظيم الموغل في الإرهاب؟ وقبل هذا كله وبعده أليست الحكومة القطرية هي الحاضن الأساسي لحركة «الإخوان المسلمين» بكل تخريبها في البلدان العربية وغيرها؟
كمصري عربي أستطيع أن أُقدم شهادتي عما فعله «الإخوان المسلمون» بمصر منذ تأسيس حركتهم في عشرينيات القرن الماضي، ولكن المقام يضيق بسجلهم الكامل، ولذلك يكفيني سلوكهم في ثورة يناير 2011 التي ترددوا في المشاركة فيها، وكانوا أول المهرولين إلى التفاوض مع النظام الذي انتفض عليه الشعب، فلما تأكدوا من أن الثورة منتصرة لا محالة تسللوا إلى صفوفها وجاء مرشدهم الروحي الذي تحتضنه قطر إلى ميدان التحرير ليخطب في الثوار، ويدشن خطة الاستيلاء على الثورة. وبسبب الضعف التنظيمي لقوى الثورة والأحزاب المصرية أصبحت لـ«الإخوان» وحلفائهم السلفيين اليد الطولى في الانتخابات البرلمانية قبل إلغاء نتائجها بحكم للمحكمة الدستورية. ثم ما لبثوا أن وصلوا إلى سدة الرئاسة بفارق ضئيل، وكان العامل الأساسي في فوزهم هو انخداع كثيرين بشعاراتهم، خاصة بالنظر إلى الطبيعة المتدينة للشعب المصري وعدم معرفة الأجيال الجديدة بسجلهم الدموي. غير أنه سرعان ما انكشف عجزهم الفادح عن إدارة الدولة ومحاولتهم السيطرة على كل مفاصلها، وفاشيتهم الدينية، وبدأ الرفض الشعبي لحكمهم يتصاعد حتى تمت الإطاحة بهم بثورة شعبية جديدة أيدها الجيش، وهنا تأكدت طبيعتهم الإرهابية فأعملوا العنف والدمار في كل مكان ووجد قادتهم الملاذ الآمن لدى الحكومة القطرية التي سخرت قدراتها الإعلامية كافة لدعم الثورة المضادة والإرهاب الذي صبغ أعمالهم. وقادت «الجزيزة» حملة ضارية لإنقاذهم فقدت فيها البقية الباقية من مهنيتها، ناهيك بوسائل الدعم الأخرى التي نعلمها علم اليقين، وإن كنا لا نملك وثائق دامغة تثبتها، وبعد ذلك يتصور البعض أن المشكلة تكمن في تصريحات نتجادل حول صحتها أو زيفها.
شكلت السياسة القطرية منذ بدأت تتبنى توجهاتها الحالية لغزاً للمحللين ليس فقط لأنها تتناقض مع المصالح الخليجية والعربية، ولكن لأنها تتضمن عوامل للتناقض بين عناصرها التي تجمع على سبيل المثال بين مغازلة إيران وإسرائيل معاً، وذهب البعض إلى تفسير هذه السياسة بأنها انبثقت من الرغبة في الحفاظ على الأمن القطري بإقامة شبكة من العلاقات المتوازنة مع الجميع، بينما ذهب آخرون إلى أن قطر ضالعة في مخططات خارجية. وبعيداً عن هذا الجدل، فإن ما يعنينا أن هذه السياسة تضر بالأمن الخليجي والعربي على الأقل من زاوية التدخل الذي يرقى إلى مرتبة التخريب في شؤون دول عربية، وهو ما يحتاج وقفة من الدول العربية. ومن التداعيات الضارة لهذه السياسة أيضاً أنها لا شك تُعَرض مجلس التعاون الخليجي للخطر وهو التجربة الوحيدة الباقية من تجارب التجمعات العربية الفرعية، والواقع أن السياسة القطرية الراهنة لم تعد تُعَبر عن الشعب القطري أو حتى نخبته الحاكمة، ومن المهم أن تكون ثمة وقفة خليجية عربية لبلورة الإجابات المثلى على هذه السياسة.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد