أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

سياسات الاستدامة:

رؤية ألمانية للاستغلال الكفء للموارد عبر الاقتصاد الدائري

07 أغسطس، 2024


عرض: هبة محيي

مع تضاعف عدد السكان في العالم وارتفاع مستويات المعيشة، وزيادة ناتجها المحلي الإجمالي بمقدار أربعة أضعاف، ازدادت عملية استخراج الموارد الطبيعية واستخدامها بمقدار ثلاثة أضعاف في العقود الخمسة الأخيرة؛ مما يدلل على الاستخدام غير الكفء وغير المستدام للموارد، على نحو يعمق أزمة تغير المناخ. فوفقاً لتقديرات الهيئة الدولية للموارد الطبيعية التابعة للأمم المتحدة عام 2017، فقد كانت عمليات استخراج ومعالجة المواد الخام، بما في ذلك الكتلة الحيوية، والوقود الأحفوري والمعادن، مسؤولة عن أكثر من 90% من فقدان التنوع البيولوجي العالمي والإجهاد المائي وحوالي 50% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية.

ونتج عن الاستخدام غير المستدام للموارد، المرتكز على الاستخراج والمعالجة السريعة والاستهلاك والتخلص من الموارد، آثار اجتماعية واقتصادية وبيئية سلبية خطرة؛ الأمر الذي دفع إلى ضرورة التفكير في التحول نحو تطبيق اقتصاد دائري مستدام. انعكاساً لهذا الاتجاه، قامت الوكالة الاتحادية الألمانية للبيئة، بنشر تقرير بعنوان "تطوير السياسات الاقتصادية الهادفة إلى تحقيق الاستغلال الكفء للموارد والاستدامة في عام 2024" لمناقشة تلك التوجهات على الصعد الألمانية والأوروبية والعالمية، مع التركيز على أبرز المنظمات العالمية المعنية بالأمر وأهم اتفاقياتها، وأخيراً طرح مقترحات لإنجاح سياسات الاستدامة المنشودة. 

توجهات متعددة:

يَعتبر التقرير الاقتصاد الدائري، هو النظام الاقتصادي الفعَّال لضمان الحفاظ على الموارد وترشيد استخدامها؛ إذ يشير ذلك المصطلح إلى الميكانيزمات التي يتم بها تصميم المنتجات لضمان استخدامها لأطول فترة ممكنة مع القدرة على إعادة استخدامها أو تدويرها بعد ذلك، مع الأخذ في الاعتبار تقليل النفايات الخطرة الناتجة عن عملية التصنيع وتجنب إصدار الانبعاثات الكربونية، وفيما يلي أبرز التوجهات الألمانية، والأوروبية والدولية في هذا الصدد:

• التوجه الألماني: اقتصرت أهداف الاقتصاد الدائري، على مدى عقود عديدة ماضية، على تقليل النفايات الناتجة عن عمليات التصنيع؛ إذ لم يتم الاعتناء بتقليل هدر المواد المستخدمة أو تحقيق الاستغلال الأمثل للموارد، وذلك باعتبار ألمانيا دولة صناعية غنية؛ إذ لم تكن المنشآت الصناعية تواجه أية مشكلات في تلبية طلباتها عند حدوث عجز محلي في الأسواق العالمية. ثم ما لبث أن تغير الأمر بحلول عام 2012؛ إذ تم إطلاق أول برنامج لتحقيق كفاءة استخدام الموارد (ProgRess).

استهدف هذا البرنامج الاستمرار في تحقيق النمو الاقتصادي الألماني، في ضوء تقليل الموارد المستخدمة والنفايات والتلوث البيئي. بالإضافة إلى تعزيز قدرة الاقتصاد على تحقيق الاكتفاء الذاتي بالموارد المتاحة لديه، ومن أهم الموارد المُدرجة بالبرنامج آنذاك: المعادن الصناعية، والمعادن المستخدمة في البناء والمواد البيولوجية المستخدمة في البناء كالخشب. وحقق هذا البرنامج نجاحاً منقطع النظير في تنفيذ أهدافه، وأصبح حجر الأساس في ألمانيا لتوجه الاستدامة؛ إذ يتم تحديث أهداف ذلك البرنامج كل أربع سنوات؛ لضمان مجاراة الأوضاع الراهنة.

وتم إطلاق النسخة الثانية من البرنامج (ProgRess II) عام 2016، وكان الملمح الأهم لها هو تضمين الرقمنة في تحقيق أهداف الاستدامة، كما تم إطلاق النسخة الثالثة (ProgRess III) عام 2020؛ إذ تم التركيز على تحقيق العديد من الأهداف البيئية، كحماية المناخ والتنوع البيولوجي. وخلال تطور نسخ البرنامج، قدمت الحكومة الألمانية تقارير للبرلمان عن مدى تنفيذ أهدافه من عدمه. وتأثرت ألمانيا أيضاً بالعديد من القوانين واللوائح المصدرة بواسطة الاتحاد الأوروبي، والتي يُعد أحدثها لائحة التصميم البيئي للاتحاد الأوروبي، وهي تُعنى بتوافر المتانة وقابلية الإصلاح في المنتجات الأوروبية. 

• التوجه الأوروبي: بدأ طرح مفهوم الاستخدام الكفء للموارد منذ تسعينيات القرن الماضي، ضمن البرنامج البيئي الثالث (1982-1986)؛ إذ طالب بالاستخدام الحذر للموارد الطبيعية، لكن دون ذكر آليات تحقيق هذا الهدف. الجدير بالذكر أن البرامج البيئية لم يكن لها أي تأثير قانوني يذكر، حتى صدور معاهدة ماستريخت في عام 1993. تبع ذلك البرنامج البيئي السادس 2001؛ إذ تم وضع هدف الترشيد في استهلاك الموارد، كأحد الأولويات الأربع للبرنامج، كما تم اللجوء لفرض الضرائب على استخدام الموارد وإلغاء الدعم المالي الذي يؤدي إلى التعدي على الموارد، كآليات للتقليل من الهدر آنذاك.

في عام 2005، تم وضع استراتيجية للاستخدام المستدام للموارد الطبيعية، عمدت إلى تعزيز السلوكيات الإنتاجية والاستهلاكية المستدامة والحفاظ على الموارد الطبيعية من النضوب؛ ومع ذلك لم تحقق الاستراتيجية أية تغييرات ملموسة؛ إذ لم يتم تحديد هذه الأهداف بشكل كمي؛ بسبب أن البيانات والمؤشرات غير كافية. 

وشهدت نهاية عام 2023 طفرة سياسية جديدة مع طرح فكرة الصفقة الخضراء الأوروبية، والتي تُعنى بتوفير نمو اقتصادي مستدام في المستقبل، في ضوء سيادة مبدأ الحياد المناخي أيضاً؛ إذ تهدف الصفقة إلى تقليل انبعاث الغازات الدفيئة بنسبة 55% في عام 2030، والوصول إلى الحياد المناخي عام 2050، وتستهدف الصفقة أيضاً غرس 3 مليارات شجرة إضافية في أوروبا للمساعدة على حل قضية المناخ.

وعلى الرغم من كل تلك الجهود المبذولة؛ فإن التقدم الذي أحرزته أوروبا في التحول للاقتصاد الدائري لا يزال في بدايته؛ ومما يثير القلق بشكل خاص انخفاض نسبة إعادة التدوير للمواد؛ إذ بلغت نسبة إعادة التدوير للمعادن النادرة كالليثيوم والغاليوم والنيوديميوم 1%، بينما بلغت نسب تدوير النيكل والكوبالت المستخدمان في إنتاج البطاريات 16% و22% على التوالي.

• التوجه الدولي: تم طرح الفكرة لأول مرة خلال مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة، إعلان ستوكهولم، عام 1972، من خلال مبدأي حماية الموارد الطبيعية للأرض عبر التخطيط والإدارة الحكيمة لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية، فضلاً عن استخدام الموارد غير المتجددة، كي لا تنفد وتعود بالنفع على البشرية، إلا أنه لم يتم الاهتمام بتطبيق تلك المبادئ من القيادات السياسية. 

تلت ذلك مؤتمرات عدة، كمؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية عام 1992 في ريو دي جانيرو، غير أن الموضوع لم يشهد تغيراً ملحوظاً في التوجهات السياسية آنذاك. إلى أن انعقدت القمة العالمية للتنمية المستدامة عام 2002 في جوهانسبرغ، والتي عُدت خطوة أساسية في التحول نحو الاستدامة؛ إذ تم اتخاذ قرار بتطوير الإطار البرامجي لعشر سنوات؛ للاستهلاك والإنتاج المستدام؛ ومن ثم تم إنشاء العديد من الهيئات التابعة للأمم المتحدة كالهيئة الدولية للموارد الطبيعية عام 2007.

منظمات فاعلة: 

أشار التقرير إلى ازدياد إنشاء المنظمات والمبادرات الداعمة لتوجهات سياسات الاستدامة في التعامل مع الموارد في الآونة الأخيرة، وذلك لما يعانيه الكوكب من مشكلات بيئية ومناخية جمة، ومن أبرز تلك المنظمات والمبادرات: 

• الهيئة الدولية للموارد الطبيعية التابعة للأمم المتحدة (IRP)؛ إذ توفر قاعدة معلوماتية علمية هائلة للدول وللمؤسسات الصناعية والمجتمعات المدنية لمساعدتها على تنفيذ فكر الاستدامة، وفقاً لأربعة محاور تم تحديدها: صياغة حاضر ومستقبل مستدام بواسطة إدارة رشيدة لاستهلاك الموارد، اتخاذ إجراءات فعَّالة ضد التغير المناخي وفقدان التنوع البيولوجي وتلوث البيئة، الاعتناء بمجالات الصحة البشرية والرفاهية والعدالة، استخدام التجارة والتمويل والابتكار لتمكين عمليات التحول نحو الاستدامة. ومن أبرز الملفات المطروحة على طاولة النقاش في الهيئة حالياً تقليل انبعاثات الكربون، وإنقاذ الحياة البحرية. 

• مجموعة الدول الصناعية السبع؛ إذ اهتمت، في السنوات الأخيرة، بشكلٍ متزايد بتطبيق الاقتصاد الدائري، وكانت رئاسة ألمانيا للمجموعة عام 2015 سبباً للتحول نحو الاستدامة، وتقوم المجموعة عادة باستصدار خطط استرشادية تمكن من تحقيق أهداف الاستدامة؛ آخرها خارطة برلين في مايو 2022؛ إذ يعترف الأعضاء فيها بأن ثلثي التلوث الهوائي، ونصف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية و90% من فقدان التنوع البيولوجي سببه استخراج وتجهيز الموارد.

وعليه تتعهد المجموعة، خلال السنوات الثلاث المقبلة، بتقليل تلك الآثار عن طريق الانتقال إلى اقتصاد أكثر كفاءة في استخدام الموارد وأكثر اخضراراً، عن طريق تحقيق تكامل بين السياسات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية؛ إذ يتم الحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي مع انتهاج السياسات التي تحد من تغير المناخ دون إغفال البعد الاجتماعي المعني بعدم تعدي الأجيال الحالية على حقوق الأجيال القادمة في الموارد والرفاهية.  

مقترحات أساسية:

اعتبر التقرير أن الاستخدام الكفء للموارد لا يقتصر فقط على ضمان توافرها لمدة زمنية أطول أو للأجيال القادمة، وإنما يمتد تأثيره لها في حماية المناخ، والتنوع البيولوجي، وتقليل حالات الفقر المائي حول العالم. بيد أن هذه الآثار الإيجابية الممكن تحقيقها بواسطة الاقتصاد الدائري تحتاج إلى تطوير استراتيجية متكاملة الأركان مراعية لجميع العوامل المرصودة، حتى يتم تجنب حدوث أي أثر ارتدادي.

على سبيل المثال، قد تؤدي الحاجة للحفاظ على التنوع البيولوجي إلى استبدال الموارد الحيوية بالموارد غير الحيوية كالمعادن وغيرها في العملية الإنتاجية؛ مما يؤدي بالأخير إلى التعدي على حصة الأجيال القادمة من الموارد غير الحيوية. وأورد التقرير أهم الخطوط العريضة التي تجب مراعاتها عند رسم سياسات الاستدامة في التعامل مع الموارد، ومن أبرزها:

• مراعاة التأثيرات المحتملة لتطبيق سياسات الاستدامة في الدول الأوروبية ودول العالم الثالث أيضاً؛ إذ من الأهمية أن تسعى ألمانيا والدول الأوروبية إلى تطبيق مبادئ التعاون والتبادل الدولي، فعلى سبيل المثال، يمكن لألمانيا استغلال عضويتها في مجموعتي الدول الصناعية "السبع" و"العشرين"؛ للتوصل لصيغ اقتصادية توافقية. 

• مواصلة دراسة التغير في الأنماط الاستهلاكية للمجتمعات لضمان التحول إلى نظم استهلاكية مستدامة، كما تجب دراسة التأثيرات السلبية المحتملة الناجمة عن تلك السياسات في الفئات الاجتماعية المختلفة، والعمل على تقليصها أو تجنبها؛ بل يجب العمل أيضاً على تحقيق الرفاهية الاقتصادية في نطاق مفهوم الاستدامة، وبما يتجاوز المصطلحات التقليدية، كزيادة الناتج المحلي الإجمالي.

• إتاحة المعلومات والشفافية لضمان تحقيق تطورات في مجالي الاستدامة والاقتصاد الدائري؛ فالتطورات العلمية تتأتى دائماً بواسطة الجهود التراكمية؛ وهو ما يمكن ضمان تحقيقه بواسطة إتاحة المعلومات والشفافية، والتي ستدعم أيضاً العمل على توحيد المعايير والمؤشرات المستخدمة في التقارير الدولية الناشئة؛ مما يسهم في تعزيز التبادل الدولي.

• العمل على زيادة الوعي المجتمعي بأهمية التحول للاقتصاد الدائري المستدام، عن طريق إطلاق الحملات التوعوية، وإشراك المجتمع في تنفيذ هذا التحول.

المصدر:

Umweltbundesamt, “Ressourceneffizienz und natürliche Ressourcen im internationalen Kontext”, April, 2024.