لعبت الأجهزة الاستخباراتية دورا مهما في استشراف الحرب الروسية الأوكرانية قبل اندلاعها في العام الفارط، حيث توقعت مجموعة من وكالات الاستخبارات الغربية خطط هذه الحرب قبل موعدها المحدد بأشهر، من خلال رصد حشد القوات الروسية على حدود أوكرانيا، وذلك ربما في أكبر عملية استخباراتية شهدها العالم منذ أزمة الصواريخ الكوبية في فترة الحرب الباردة.
في هذا الإطار، يعرض العدد (29) من سلسلة “رؤى عالمية”، الصادرة عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، سبعة كتب متنوعة أوصت بها مجلة “إيكونيميست” البريطانية من أجل فهم مجتمع الاستخبارات في العالم، حيث تُغطي مناحي العمل الاستخباراتي منذ الحرب الباردة حتى الآن، وتسلط الضوء كذلك على ماضي وحاضر العمل السري، وتستشرف أدواره في مختلف القضايا الدولية ذات الصلة.
قصة حقيقية من التجسس والخيانة في الحرب الباردة
في هذا الكتاب، يروي ديفيد هوفمان قصة حقيقية أثناء الحرب الباردة لأدولف تولكاتشيف، مهندس الإلكترونيات السوفيتي الذي عمل في عمق قوات الدفاع الجوي السوفياتي، وقدم وثائق حيوية عن الأسلحة السوفياتية إلى وكالة الاستخبارات المركزية بين عامي 1979 و1985، ويتساءل: كيف تفوقت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) على وكالة الاستخبارات السوفياتية السابقة (KGB) في معقلها، وقامت بزرع العديد من العملاء السريين لسنوات في موسكو؟
اعتمد الكتاب على وثائق رفعت السرية عنها منذ سنوات قليلة، وأسهمت في معرفة خفايا الحرب الباردة التي دارت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق حتى انهياره في عام 1991، حيث يروي عن تولكاتشيف رغبته الشديدة في الانتقام لأفراد عائلة زوجته بسبب ما تعرضوا له، حيث أعدمت وأرسل والدها إلى معسكرات السخرة التي أعدها الزعيم السوفياتي السابق جوزيف ستالين في النصف الأول من القرن العشرين لمعاقبة المعارضين ومثيري الشغب.
وينقل الكتاب رواية لأحد ضباط الاتصال من وكالة الاستخبارات الأمريكية يقول فيها: “كان تولكاتشيف عازماً على طول الخط على إيقاع أكبر ضرر ممكن بالاتحاد السوفياتي السابق بالرغم من أن المخاطر قد تلحق به جراء ذلك، فقد كانت عقوبة الخيانة في عهد الاتحاد السوفياتي السابق هي الإعدام، ما جعله يطلب من وكالة الاستخبارات الأمريكية تزويده بحبة انتحار ليستخدمها في حال أوقعت الاستخبارات السوفياتية به.
ويذكر الكتاب أن تولكاتشيف كان عميلاً فريداً من نوعه، فهو عمل في عمق الجيش السوفيتي السابق، ولم يكن عميلاً تقليدياً يستقي المعلومات أو يشتريها؛ حيث استطاعت الولايات المتحدة بفضله التعرف إلى مواطن ضعف الرادارات والدفاعات الجوية السوفيتية، فقد ظل يزود واشنطن بالمعلومات بصورة منتظمة طوال ست سنوات، الأمر الذي جعل القوات الجوية الأمريكية توفر بفضل معلوماته نحو ملياري دولار.
الجاسوس والخائن: أعظم قصة تجسس في الحرب الباردة
من العمالة أحادية الجانب تنتقل إلى العمالة المزدوجة أثناء الحرب الباردة أيضاً، ولكن هذه المرة من خلال كتاب بن ماكنتاير، الذي يحكي فيه قصة العميل المزدوج أوليغ جورديفسكي، التي يراها البعض ضرباً من ضروب الخيال والأدب الذي لا يحتاج فقط إلا لتحويله إلى مسلسل درامي رغم أنها قصة حقيقية.
يشير ماكانتاير إلى أن جورديفسكي كان ضابطاً كبيراً في جهاز الاستخبارات السوفيتي (KGB) الذي أرسله إلى لندن لجمع أسرار من دون أن يعرف أنه يعمل لمصلحة استخبارات الخارجية البريطانية (6M-1) أيضا لأكثر من عقد، حيث تبدأ القصة من عمود صغير لتوجيه حركة المرور في وسط لندن؛ هناك العشرات منه في أنحاء المدينة، إلا أن هذا العمود المروري بالذات كان له دور كبير في إنهاء الحرب الباردة.
ففي 18 مايو 1985، أولى جورديفسكي هذا العمود اهتماماً خاصاً، فقطعة من العلكة على رأس العمود كانت إشارة إلى تسليم 8 آلاف جنيه إسترليني إلى عميل سري في الاستخبارات السوفياتية، وكان الروس يحيون العمل الجاسوسي المحبوك للغاية، بحيث لو قرأت عنه في رواية معينة تظن أنه شديد التعقيد، وذلك اعتقاداً من رؤيتهم كلما ازداد النشاط الجاسوسي تعقيداً، قلت احتمالات اكتشافه.
يحكي الكتاب بداية خيبة أمل جورديفسكي من أصحاب العمل في عام 1968، عندما غزا الاتحاد السوفياتي السابق تشيكوسلوفاكيا لقمع انتفاضة هناك، حيث تمكن من تقديم خدمات أثرت بصورة مادية في إنهاء الحرب الباردة، إذ أخبر الاستخبارات البريطانية بأن القادة السوفيات يعانون من “جنون العظمة” بشأن الهجوم النووي، وأمروا الاستخبارات السوفياتية بمراقبة علامات على وجود هجوم نووي آخر وشيك.
ويستطرد، عندما زار الزعيم السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف بريطانيا عام 1984، كانت مهمته الرئيسية هي نصحه بما يقوله حين يلتقي مارغريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا في ذلك الوقت، ولم يكن غورباتشوف يعلم أن النصيحة كتبتها الاستخبارات البريطانية. هكذا كان جورديفسكي يشير على الطرفين بما يقولانه إلى الآخر؛ الأمر الذي لم يحدث من قبل في التاريخ، بحسب ماكنتاير.
محاربو الشفرة: مخترقو الشفرة في وكالة الأمن القومي الأمريكية وحرب الاستخبارات السرية ضد الاتحاد السوفياتي
بينما تناول الكتابان السابقان الذكاء البشري وقدرته على إنجاح العمليات الاستخباراتية التقليدية المعتمدة على زرع خلايا بشرية من أجل الحصول على قدر محدد من البيانات والمعلومات والأفكار المتداولة في الجلسات المغلقة، فإن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) وجهاز الاستخبارات البريطاني (6M-1) وجدا نفسيهما أمام نوع آخر من الذكاء.
ويتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي المعتمد بصفة أساسية على الإشارات واعتراض الرسائل وفك رموزها، بطريقة آلية تفوق فاعليتها فعالية الخلايا البشرية التقليدية في مثل هذه المهام. في هذا الإطار يسلط ستيفن بوديانسكي الضوء على مثل هذا النوع المتطور من الآليات المستخدمة في أجهزة الاستخبارات.
يقدم بوديا لسكي عرضاً مفصلاً للجهود المبذولة من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكية لاكتشاف أسرار الاتحاد السوفيتي السابق، ويتحدث عن دور شبكة تحليل الإشارات في الوكالة الأمريكية في المساعدة على الحد من خطر نشوب حرب نووية، والسماح بنجاح سياسة الاحتواء، وذلك من خلال مساعدة عملاء على الأرض والاستفادة من التكنولوجيا المتطورة المتاحة في ذلك الوقت.
وبهذه التركيبة بين العنصرين البشري والتكنولوجي، تمكنت وكالة الأمن القومي الأمريكية من اعتراض الاتصالات السوفياتية، ومن ثم الحصول على قدر وافر من الأفكار التي لا تزال تجول في مخيلة القادة السوفييت، ومنهم الزعيم الراحل ليونيد بريجنيف، وهو ما ساعد كثيراً هنري کیسنجر في التفوق على مائدة المفاوضات على السوفييت حول الحد من الأسلحة الاستراتيجية في أواخر ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي.
وأظهر بوديانسكي هوس الوكالة الأمريكية بتوثيق كل جزئية من البيانات التي تحصل عليها وفك وتحليل كل إشارة لا سلكية أو إلكترونية، وضم في كتابه مجموعة من الملاحق التي تشرح التفاصيل التقنية للشفرات السوفيتية، وكيف فكت وفهمت أسرارها.
المرآة المظلمة: إدوارد سنودن ودولة المراقبة الأمريكية
يأتي كتاب بارتون جیلمان ليسلط الضوء على اختراق وكالة الأمن القومي الأمريكية، أهم جهاز استخباراتي أمريكي، لفك الرموز والشفرات والإشارات واستخدام التكنولوجيا الحديثة بصفة عامة، والإفصاح عن كم هائل من المعلومات والوثائق عن طريق إدوارد سنودن الذي فر هارباً إلى روسيا عبر هونج كونج بعدما كان يعمل في وكالة الأمن القومي الأمريكية.
وكشف سنودن للعالم أن هذه الوكالة ونظيرتها البريطانية كانتا تتجسسان على شبكة الإنترنت على نطاق واسع، من خلال الكابلات الموجودة تحت سطح البحر، واستقلال الأبواب الخلفية القانونية من قبل وحدات تحكم (Servers) شركات التكنولوجيا الأمريكية، وإدخال نقاط ضعف يسهل من خلالها اختراق الداخل الأمريكي والخارج على حد سواء.
وتبدأ القصة من يناير 2013، عندما التقت مخرجة الأفلام الوثائقية لورا بويتراس، وهي مراسلة سابقة في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، ببارتون جيلمان في نيويورك وأخبرته أثناء اللقاء أنه قبل أيام قليلة كان هناك مصدر غامض يتصل بها، ادعى أنه عميل سري أمريكي وكانت لديه أخبار عديدة لإثبات مصداقيته.
بعدها، أجرى جيليان سلسلة من المحادثات المشفرة مع هذا العميل السري الذي كان اسمه الرمزي “فيراكس”. ويسرد جيلمان في كتابه مجمل تفاعلاته مع سودن منذ هذه اللحظة، وهي سلسلة ممتدة من التفاعلات تكشف كماً هائلاً من الاختراق ليس فقط تجاه مواطني الولايات المتحدة، ولكن تجاه دول أخرى عن طريق الإنترنت.
جواسيس وأكاذيب: كيف خدعت أعظم عمليات الصين السرية العالم؟
واحد من أهم الكتب التي ركزت على أنشطة وزارة أمن الدولة الصينية (MSS) باعتبارها الذراع الاستخباراتي الرئيسي لبكين، هو هذا الكتاب لأليكس جوسكي الذي يستند إلى بحث معمق لما استطاع أن يصل إليه من مواد مفتوحة المصدر وشبكات التواصل الاجتماعي الصينية، وذلك باعتبار أن هذه الوزارة، من وجهة نظر جوسكي، هي الأقل معرفة والأكثر غموضاً في العصر الحديثة.
يستخدم جوسكي، المحلل السابق في معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي، وهو صيني الجنسية يحمل أيضاً الجنسية الأسترالية، مصادر باللغة الصينية لتتبع التاريخ والكشف عن طريقة عمل وزارة أمن الدولة الصينية، فهو يركز بشكل أقل على التجسس منه على العمليات المصممة، للتأثير في الرأي العام والنخبة لصالح الحزب الشيوعي الصيني.
وكان كين ماكالوم، الذي شغل رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني (MIS)، قد صرح في هذا الإطار، في نوفمبر 2022، قائلاً: “ترى السلطات الصينية تلعب على تنمية الاتصالات للتلاعب بالرأي العام لصالحها. إنها تسعى إلى التأثير ليس فقط في البرلمانيين البارزين ولكن في الناس في وقت مبكر للغاية”.
ويبني جوسكي على تصريح ماكالوم بأن الصين لم ترد فقط التأثير في الرأي العام وصولاً إلى مستوى التأثير في الأفراد العاديين، وإنما أيضاً استخدمت هؤلاء لنشر فكرة غير قابلة للتصديق بشكل متزايد، على حد قوله، بأن هدف بكين كان تحقيق “الصعود السلمي” الذي لا يشكل أي تهديد للغرب، أو لجيرانها مثل اليابان والهند.
التدابير النشطة: التاريخ السري للمعلومات المضللة والحرب السياسية
أظهر أليكس جوسكي في كتابه السابق “جواسيس وأكاذيب” أن المعلومات الاستخباراتية لا تتعلق فقط بمعرفة الأسرار وانتهاك الخصوصية، وإنما أيضا تغيير طريقة تفكير الناس وإمكانية تشكيل الرأي العام بناء عليها، وربما أهم عملية استخباراتية في هذا الإطار خلال العقد الماضي كانت الاتهامات التي وجهت إلى روسيا بالتدخل في الانتخابات الأمريكية عام 2016.
وادعت المعلومات الاستخباراتية أن روسيا قد اخترقت وسربت رسائل البريد الإلكتروني لزعيم الحزب الديمقراطي آنذاك، واستخدمت شبكة من المتعاونين للتأثير في وسائل التواصل الاجتماعي الأمريكية. وهنا يظهر توماس ريد، الأستاذ بجامعة جونز هویکتر بواشنطن.
ويمسك توماس ريد الخيط الذي نسجه جوسكي، ويبني عليه في كتابه “التدابير النشطة: التاريخ السري للمعلومات المضللة والحرب السياسية”، حيث يروي كتابه قصة كيفية إرسال وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) “مثيري المتاعب” لإرباك جهاز الاستخبارات الشيوعي في ألمانيا الشرقية، وطرح آلاف البالونات المليئة بالدعاية في البلاد.
وكل ذلك تضاءل أمام الجهود الإبداعية لجهاز الاستخبارات السوفياتي، على حد قوله. بحلول منتصف الستينات كان الاتحاد السوفيتي السابق ينسق ما بين 300 إلى 400 من “التدابير الفعالة”، بدءاً من تشجيع حركة السلام الأوروبية، وصولاً إلى نشر الادعاءات بأن الولايات المتحدة قد خلقت الإيدز كسلاح.
ويعتقد توماس ريد أن التدابير الفعالة التي مصدرها موسكو وسان بطرسبرغ أسهمت بدرجة ما في وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى كرسي الحكم، ويُدلل على ذلك بأنه بعد أقل من شهر واحد من تولي ترامب منصبه، أطيح بمستشار الأمن القومي مايكل فلين، لكذبه على نائب الرئيس بشأن محادثة مع السفير الروسي، وهو ما كان مقدمة لإقالة مدير مكتب التحقيقات الفدرالي حيمس كومي والدخول في سنوات من الاضطراب.
جواسيس وأكاذيب وخوارزميات: تاريخ الاستخبارات الأمريكية ومستقبلها
تسلط إيمي زيجارت في كتابها “جواسيس وأكاذيب وخوارزميات” الضوء على أحد أهم المتغيرات الحديثة، ألا وهو “الاستخبارات مفتوحة المصدر”، وتضرب مثالاً بالتقاط صور لحشد روسيا للقوات العسكرية على الحدود الأوكرانية في خريف وشتاء عام 2021، بتفاصيل غير مسبوقة من خلال صور الأقمار الاصطناعية التجارية ومقاطع الفيديو المنشورة على منصة “TikTok”.
وأشارت إلى أن تنامي آلية كهذه مع التقدم الهائل في الذكاء الاصطناعي ووسائل التعرف إلى الوجه والقياسات الحيوية، جعل من المستحيل تقريباً على ضباط الاستخبارات عبور الحدود بأسماء مستعارة كما فعلوا خلال حقبة العميل المزدوج أوليغ جورديفسكي في فترة الحرب الباردة، ومن ثم ترى أن تقنية “التزييف العميق” ستعزز نوع المعلومات المضللة التي کرس توماس رید جهده في توثيقها.
تؤكد زبجارت أن هذا العصر الجديد صارت له معطيات أخرى أسهمت في صعود دول وجماعات إرهابية بفضل استطاعتها إحراز تقدم كبير في “الاستخبارات مفتوحة المصدر”، فهي الآن تخترق الآلات والعقول معا. وبينما يقوم الذكاء الاصطناعي بإنشاء مقاطع فيديو مزيفة، وصور تبدو حقيقية الغاية، قد يكون من المستحيل اكتشاف عدم حقيقتها.