لا يغلق زحام التنافس الشديد بين الدول الكبرى في العالم على المكانة السياسة والاقتصادية والعسكرية الطريق تماماً أمام أي دولة راغبة في أن تنحت لها دوراً، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، لكن على النخبة السياسية في هذه الدولة أن تجلس قليلاً أو كثيراً لتتخيل هذا الدور، وتوظف إمكاناتها المادية والبشرية والعلمية في تحقيقه.
وهذا الأمر ينطبق على العالم العربي الذي خاض معارك التحرير في منتصف القرن العشرين ضد الاستعمار ليجد نفسه الآن منهكاً بفعل تعثر الثورات والانتفاضات، وتوحش التيارات الدينية المتطرفة، بعد أن عانى طويلاً من فساد واستبداد صاحَبَ مرحلة ما بعد الاستقلال، والتي أخفقت في تحقيق التكامل الوطني والانصهار الاجتماعي الطوعي عبر الديمقراطية والتنمية والعدل الاجتماعي وحقوق المواطنة، وتركت الدول هشة في مواجهة أي تقلبات تهز أركانها الاجتماعية على أساس طائفي أو عرقي أو جهوي أو طبقي أو أيديولوجي.
منطقان لاستعادة الدور
وبمرور السنين تغيرت موازين القوى، وتراجعت قدرات العرب، الذين كان يُقَال إنهم القوة السادسة في العالم عسكرياً قبل خمسة عقود فقط، لتصبح إمكاناتهم مجتمعة في التسليح أقل من إسرائيل، وفي الاقتصاد أضعف من أسبانيا، وفي عالم الترجمة والنشر أدنى من دولة أوروبية صغيرة فقيرة هي اليونان، أي أنهم فقدوا، إلى حين، القدرة على أن يجعلوا من أنفسهم رقماً ذا بال في المعادلة الدولية.
وكان هناك منطقان لإيجاد هذا الرقم، الأول هو انتظار مشروع عربي كبير وشامل، طرح تارة في إطار الوحدة وأخرى في الاكتفاء بتنسيق السياسات وتعزيز العلاقات في مختلف المجالات.
أما المنطق الثاني فكان يحتاج إلى خيال لم يتأتى حتى الآن، يدفع في اتجاه الانتقال من إدارة المعارك الكبرى في عالم الحرب والمال، إلى الصغير من المعارك، لجني فوائد سريعة ترمم بعض الشروخ التي مزقت البنيان العربي على مدار العقدين الأخيرين، وتخلق أفقاً جديداً أمام كتلة بشرية وجغرافية ولسانية ودينية غالباً، صار ينظر إليها، حتى من بين أبنائها بأنها بلا مستقبل.
وبدلاً من انتظار لحظة تاريخية فارقة يستعيد فيها العرب جزءاً من مجدهم الضائع وحضاراتهم العظيمة التي أهدت الدنيا عطايا مادية لا تنسى، ونفحات روحية لاتزال متوهجة، عليهم أن يعملوا بجد واجتهاد في سبيل تحسين أوضاعهم الراهنة بالقدر الذي يسمح لنظامهم الإقليمي بالبقاء على قيد الحياة، أو على أقل تقدير الحيلولة دون تدهور أوضاعهم إلى الحد الذي يخرجهم تماماً من "زمام التاريخ"، أو يؤدي إلى "إعلان وفاتهم" حسب ما قال الشاعر الشهير نزار قباني ذات يوم بقصيدة بكائية أبدعها في لحظة يأس جارف، تصور فيها أن الغد سيكون، بالضرورة، أسوأ من اليوم، وأن العروبة تسير، لا محالة، إلى ذهاب أبدي.
إن معطيات التاريخ تهدي إلينا حكمة عميقة وناصعة عن أمم لم تقعدها الهزائم الكبرى أو النكسات الشاملة والوهن العام الذي تمكن منها حتى النخاع، عن محاولة كسب النزال المحدود والاشتباك المحدد مع وقائع حياتية جانبية، نراها صغيرة وهي من عظائم الأمور، حتى خرجت من ضيق إخفاقها إلى براح الإنجازات العريضة، التي دفعتها إلى مقدمة الصفوف، بعد أن كانت قبل عقود في عداد الأمم المغيبة عن التدفق الرئيسي لحركة العلاقات الدولية.
الصين والهند نموذجاً
ولعل ما مرت به الصين والهند، مثالاً لا حصراً، يدلل على هذا الأمر بجلاء لا يشوبه غموض، ووضوح لا يصيبه لبس، ولم يكن بوسع هاتين الدولتين الكبيرتين أن تنطلقان إلى مصاف القوى العظمى في العالم لولا أن نخبة الحكم والقوة الفاعلة امتلكتا قدرة هائلة على تخيل أدوار من عدم، ثم الانتقال من هذا الخيال الإيجابي الخصب إلى وضع استراتيجيات للتقدم في الحياة.
فالصين ما ظن أحد أنها ستفيق من حرب الأفيون، وتسترد وعيها، وتطلق طاقتها في اتجاه المزاوجة بين ما في القيم التقليدية الكنفوشيوسية من جوانب أخلاقية إيجابية وما في ثورتها الحمراء من اتجاه صارم وقوي إلى تهيئة المجتمع لحياة عملية مختلفة، ثم تقرر، بعد الدخول في جدل عميق حول الملامح النهائية للأيديولوجيا وحدود التفاعل المرن مع العالم، أن تخط لنفسها بثقة طريقاً مستقيمة، جنت منها ثروة طائلة، وحققت لبكين وجوداً اقتصادياً، ومن ثم ثقافياً وسياسياً أحياناً، في كل مكان على سطح الأرض.
ولم تشأ الصين أن تستمر في مناطحة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق في عالم التسلح الرهيب، بل امتلكت فقط في هذه الناحية ما يكفي للدفاع عن سيادتها الوطنية، ولم تُجارِ القطبين الكبيرين إبان الحرب الباردة في بلوغ أجواء الفضاء الرحيب، بل قررت أن تبدأ من مجال هامشي ضئيل في عالم المال والقوة، لكنه بالغ التأثير في دنيا الحضور الثقافي والرمزي، ثم الاقتصادي فيما بعد، وهو صناعة "لعب الأطفال"، التي لم تلبث أن اتسعت لتطوق مجالات صناعية تلبي الاحتياجات اليومية البسيطة للفرد والأسرة في أرجاء العالم كافة، من ملبس وأدوات كتابية وزينة وهدايا... إلخ، وأنجزت في هذه الناحية إلى الدرجة التي تثير حنق وحقد الولايات المتحدة.
أما الهند، التي اختارت العصيان المدني طريقاً للمقاومة في أداء عبقري قاده رمزها العظيم المهاتما غاندي، فإن توصلها إلى السلاح النووي لردع غريمتها التاريخية باكستان لم يدفعها إلى التلويح بهذه "القوة الخشنة" طريقاً لحيازة مكانة دولية، بل التفتت إلى إدارة معركة صغيرة كان انتصارها فيها مظفراً، بكل المقاييس، إلى درجة أن الدولة التي كانت تحتلها وهي بريطانيا، باتت في حاجة ماسة إلى الاستفادة من مظاهر هذا النجاح الهندي.
والمعركة التي اختارتها الهند بدأت بالسينما والموسيقى ووصلت الآن إلى عالم الاتصالات والبرمجيات. فإذا كانت الموسيقى الهندية قد اكتسبت شهرة عالمية بتفردها وسحرها وعذوبتها وخصوصيتها التي تنبت من ذائقة الهنود ووجدانهم، فإن سينما الهند خطت طريقها باقتدار، وفرضت أسواقها، ونافست السينما الأمريكية في آسيا وأفريقيا، على وجه الخصوص، وباتت تشكل مصدراً مهماً من روافد الدخل القومي للبلاد، في وقت يزيد فيه الطلب يوم إثر يوم على مهندسي ومبرمجي الكومبيوتر الهنود للعمل في أرفع المؤسسات الاقتصادية والعلمية الأوروبية.
التخلص من الخيال الكسيح
على النقيض من ذلك يقع الخطاب السياسي والثقافي العربي، على اختلاف المناهل الفكرية والأيديولوجية التي ينبع منها، في فخ الينبغيات العريضة، فهو يطالب بمشروع نهضة كاملة وتمكن واسع ينتج مكانة وقوة دولية بارزة، دفعة واحدة، وفي سرعة فائقة، حتى بعد انهيار بعض الدول العربية ودخولها في نفق الصراع السياسي والمذهبي.
وهذا الطرح لا يعبر عن طموح بقدر ما يشي بتجاهل حركة الواقع وسنن التاريخ، وجهل في قراءة الإمكانات الراهنة للعرب، فتكون نتيجته إما الاستسلام للبقاء في الظل واستمراء الضعف والهوان والتفكك بعد تكرار الفشل في تحقيق نجاح كاسح دفعة واحدة، أو الميل إلى التفسير التآمري لكل شيء، وكأن العالم لا شغل له سوى الكيد لنا، وهذا يتم تحت وطأة خيال كسيح، لاسيما أن القادرين على التخيل مستبعدون من صناعة القرار في أي مجال ولأي اتجاه.
وقد يكون العرب معذورين جزئياً في استعجالهم وإحساسهم بأن هناك ما يدبر ضدهم في الخفاء، في ظل التحيز الأمريكي الجلي لإسرائيل، ومع احتلال العراق، تحت ذرائع واهية، في الوقت الذي تتمسك فيه الولايات المتحدة بالخيار السلمي طريقة لحل المشكلتين الكورية الشمالية والإيرانية، وفي ظل همزات الوصل بين أجهزة استخبارات غربية وجماعات وتنظيمات إرهابية تعمل على تفكيك الدول العربية، وكذلك في ظل توظيف قوة مدنية داخلية مرتبطة بالغرب في تعميق الاستتباع العربي للولايات المتحدة وحلفائها.
لكن العيب أن يتم تضخيم هذا العذر، ليصبح بمثابة مرض نفسي عضال، يكرس حالة الهروب من مواجهة التفاصيل اليومية العربية، أو تجاهل مسائل مهمة صغيرة، وصغرها ليس طبعاً ولا طبيعة أصيلة فيها، وإنما نتاج قيامنا بتهميشها بإرادتنا، وانحيازنا في الوقت نفسه لحساب "الكليات" الكبيرة، التي هي بنت الأيديولوجيا أكثر من كونها الإفراز الطوعي للواقع الذي يتبدل باستمرار.
لقد حان الوقت للعرب، الشعوب قبل الأنظمة والناس قبل الحكام، أن يلتفتوا إلى المعارك الصغيرة فيخوضونها بثقة واقتدار، بدءاً من معركة تغيير الصورة النمطية المغلوطة عنهم، التي تطفح بها مناهج التعليم ووسائل الإعلام الغربية، وانتهاء بتقديم إسهام ولو بسيط في حركة الحياة المائجة، قد يكون في تلبية احتياجات الباحثين عن "الامتلاء الروحي" وما أكثرهم على سطح الأرض، وما أحوجهم لبساطة ومنطقية وسلاسة العقيدة الإسلامية بتبنيها التوحيد، شرط أن نخلص نحن الإسلام من الحمولات الثقيلة لتاريخ المسلمين.
وقد يكون فرض احترام الموسيقى الشرقية الخالصة، التي تتفرد باكتمال لحني لا يتوفر لنظيرتها الغربية، وقد يكون التخصص في سلعة خارجة من رحم البيئة العربية، أو غير ذلك من مجالات حياتية تبدو، على قوتها وأهميتها، بسيطة في نظر المتعجلين، الذين لا يرون الإنجاز إلا من خلال دق طبول الحرب.
إن هناك مجالات عدة يمكن للعرب الإسهام بها في الحضارة الإنسانية المعاصرة، لكن عليهم أن يجلسوا أولاً لتخيل هذا الدور ومفرداته، ثم تخيل كيفية دفعه في أوصال العالم من شرقه إلى غربه.