تحظى منطقة المحيطيْن الهندي والهادئ "الإندوباسيفيك" باهتمام من جانب روسيا، خلال الفترة الأخيرة؛ إذ شهدت تحركات مُكثّفة من جانب موسكو، التي تهدف من هذه التحركات إلى توسيع نفوذها في تلك المنطقة، ومحاولة الانفكاك من الحصار السياسي والاقتصادي والعسكري الذي يسعى الغرب لفرضه عليها.
تحركات روسية:
تجلت التحركات الروسية الأخيرة في منطقة "الإندوباسيفيك"، في عدد من المؤشرات، يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
1- سياسة موسكو للاتجاه شرقاً: بعد الحرب الروسية الأوكرانية؛ عزّزت روسيا دبلوماسيتها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ "الإندوباسيفيك"؛ في إطار ما يمكن تسميته بسياسة "الاتجاه شرقاً"؛ وأظهرت موسكو مؤخراً أنها ما تزال تتمتع بنفوذ هائل في تلك المنطقة؛ إذ امتنعت نصف دول جنوب شرق آسيا، ومعظم دول جنوب آسيا، وأغلب دول جزر المحيط الهادئ عن حضور قمّة السلام بشأن أوكرانيا التي عقدت في سويسرا في منتصف يونيو 2024، كما رفضت العديد من دول تلك المناطق التي حضرت القمة التوقيع على البيان المشترك للقمة، بما يُشير إلى استمرار العلاقات الروسية الجيدة التي ترتبط بها مع تلك الدول، ولاسيما مع كون موسكو ما تزال مورداً رئيسياً للأسلحة والنفط لتلك الدول.
2- علاقات روسية صينية مُتنامية: التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 16 مايو 2024، مع الزعيم الصيني شي جين بينغ، في بكين للاحتفال بتدشين "عصر جديد" من التعاون، فبالرغم من أن البلدين ليسا حليفين حقيقيين لأنهما لم يوقعا على معاهدة دفاع مُشترك رسمية، فإن تحالفهما غير الرسمي يتطور بشكل مُتزايد وتعاونهما مستمر، فبكين تُعد متنفساً مهماً لروسيا لتخفيف أثر العقوبات الغربية؛ فبالإضافة إلى الدور التي تؤديه بكين كمورد رئيسي للتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج لروسيا، لم تعارض الصين فقط تدخل حلف شمال الأطلسي "الناتو" في منطقة "الإندوباسيفيك"؛ بل تمهد منذ أواخر فبراير الماضي لتحول روسي استراتيجي تجاه "الإندوباسيفيك"؛ إذ وجّه نائب وزير الخارجية الصيني سون دونغ، دعوة لموسكو للاضطلاع بدور أكبر في الحفاظ على الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة.
3- مرحلة جديدة للعلاقات الروسية الهندية: شهدت الفترة الأخيرة، دخول العلاقات الروسية الهندية مرحلة جديدة من التعاون، فلأول مرة منذ الحرب الروسية الأوكرانية، أعاد بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي انعقاد القمة السنوية الثانية والعشرين بين بلديهما؛ وفتحت زيارة مودي الأخيرة إلى روسيا، في 9 يوليو 2024، مجالات أوسع للتعاون بين البلدين في مجالات مُختلفة؛ إذ ما تزال الهند مُستمرة في تقديم الأسلحة وغيرها من المساعدات الأمنية إلى روسيا، ولكن ذلك قد يشكل انتهاكاً للقانون الأمريكي، ويُسهم في فشل مساعيها لتحقيق التوازن بين المعسكرين، ولاسيما وأن مودي فضّل زيارة موسكو على اجتماع حلف "الناتو"؛ ما جعل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تشعر بخيبة أمل.
4- شراكة مع كوريا الشمالية: في 17 يونيو 2024، قام بوتين بزيارة نادرة إلى بيونغ يانغ، للقاء الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، توّجت برفع مستوى علاقات البلدين إلى "شراكة استراتيجية شاملة"؛ الأمر الذي يمثل تحولاً أكثر دراماتيكية؛ فثمّة تغيير كبير في العلاقات بين البلدين مُقارنة بما كان عليه الحال قبل 7 سنوات فقط، عندما دعمت موسكو العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على كوريا الشمالية بسبب إجرائها تجربتها النووية السادسة، وبرزت أهمية تلك الزيارة منذ لحظاتها الأولى التي تجلت في حفاوة استقبال بوتين؛ ولكن الأمر الأكثر أهمية قد ظهر في إعادة بوتين وكيم إحياء مُعاهدة دفاعية تعود إلى عام 1961 تعهدت الدولتان بموجبها أن تساعد كل منهما الأخرى في حالة "العدوان" على أي منهما.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الازدهار الأخير للعلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية، قد ظهر جلياً في التقارير التي تفيد بوجود قوات كورية شمالية في أوكرانيا؛ الأمر الذي شكل تهديداً كبيراً للغرب، ولاسيما مع استمرار بيونغ يانغ، في إرسال شحنات أسلحة مُتعددة إلى موسكو؛ فوفقاً لتقديرات وزارة الخارجية الأمريكية، زوّدت كوريا الشمالية موسكو بأكثر من 11 ألف حاوية ذخيرة منذ اجتماع بوتين وكيم في 2023 وحتى الشهر الماضي.
5- زيارة إلى فيتنام: من بين التحركات الروسية الأخيرة في منطقة "الإندوباسيفيك" أيضاً، زيارة بوتين إلى فيتنام؛ ولاسيما وأنها تُعد أول زيارة له إلى هانوي منذ عام 2013، وعلى الرغم من التعامل الحذر من فيتنام تجاه زيارة بوتين خاصة في سياق علاقاتها المزدهرة مع الغرب؛ والذي تجلى في استقبال هانوي، بعد زيارة بوتين بأيام، المبعوث الأمريكي لشرق آسيا دانيال كريتنبرينك، لمناقشة الشراكة بين الجانبين. فإن شراكة فيتنام مع روسيا؛ وخاصة على الجانب الأمني؛ تظل عاملاً حاسماً في علاقات موسكو بمنطقة "الإندوباسيفيك".
6- مُناورات عسكرية: لم يغفل بوتين في تحركاته في "الإندوباسيفيك"، دور المناورات العسكرية، والتي بدأها قبيل زيارته لكوريا الشمالية، بمناورات بحرية في مياه المحيط الهادئ وبحر اليابان وأخوتسك؛ وتشمل تدريبات على عمليات مُضادة للغواصات وللضربات الجوية، والتي كانت ثنائية للمرة الأولى بين أسطول بريمورسكي، الذي يضم قوات متنوعة من أسطول المحيط الهادئ والقيادة المشتركة للقوات في مناطق شمال شرق روسيا، وفي 13 يوليو 2024، وصلت سفينتان حربيتان روسيتان إلى مدينة تشانجيانغ الساحلية في جنوب الصين للمُشاركة في مُناورات بحرية مُشتركة بين البلدين؛ إذ تزامنت التدريبات العسكرية المشتركة بين الصين وروسيا، مع انعقاد قمة "الناتو" في واشنطن.
أهداف مُتعددة:
تهدف موسكو من تحركاتها الأخيرة في "الإندوباسيفيك"، إلى تحقيق العديد من الأهداف، أبرزها ما يلي:
1- تقويض خطط توسع "الناتو": قد تسعى موسكو من تحركاتها في "الإندوباسيفيك"، إلى محاولة تفادي توسعات "الناتو" في المنطقة؛ إذ أُجريت مُناورات عسكرية مُشتركة بين اليابان ودول "الناتو" (ألمانيا وفرنسا وإسبانيا) في يوليو 2024، بالقرب من الحدود الروسية، تحت شعار "منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة"؛ الأمر الذي من المؤكد أنه سيُثير القلق في موسكو.
وجدير بالذكر أن النفوذ الروسي في منطقة "الإندوباسيفيك"، يُعد نفوذاً أقل بكثير من نفوذ واشنطن وبكين في المنطقة؛ إذ ليس لدى موسكو ما تقدمه لدول تلك المنطقة، فهي تكتفي ببناء علاقات قوية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة ما يسميه بوتين "هيمنة واشنطن" وصرف الانتباه عن حربها مع أوكرانيا، وليس ذلك فحسب؛ بل كذلك لمواجهة الهيمنة الأمريكية على العالم، من خلال تأكيد الدور الروسي في النظام مُتعدد الأقطاب الناشئ.
2- مُقايضة استراتيجية: يقوم الازدهار الأخير للعلاقات بين روسيا ودول "الإندوباسيفيك"، على مبدأ المقايضة الاستراتيجية، ففي الوقت الذي يتلقى فيه "الكرملين" ذخائر كورية شمالية لاستخدامها في أوكرانيا، يتعهد في مقابل ذلك بتقديم الدعم الفني الروسي لبرامج كوريا الشمالية الصاروخية والنووية، فضلاً عن أن حصول موسكو على دعم كوريا الشمالية والصين، سيكلفها تقديم الدعم للدولتين عسكرياً حال أي هجوم مُحتمل منهما على كوريا الجنوبية أو تايوان على التوالي.
3- مكاسب اقتصادية: تهدف موسكو من تحركاتها في "الإندوباسيفيك"، إلى الاستفادة اقتصادياً من توطيد علاقاتها مع تلك الدول، فقد أصبحت الصين حالياً مورداً رئيسياً للسلع ذات الاستخدام المزدوج إلى روسيا؛ فقد أشارت التقارير إلى أن نحو 90% من واردات روسيا من الإلكترونيات الدقيقة في عام 2023، قد جاءت من الصين، بما في ذلك البصريات العسكرية للدبابات والمركبات المدرعة، كما بلغ حجم تجارتها البينية مع الصين مستوى قياسياً مرتفعاً سجل نحو 240 مليار دولار أمريكي، في عام 2023، بنسبة ارتفاع بلغت 26.3% عن العام السابق، فضلاً عن ذلك فإن موسكو تتجه نحو الاعتماد القوي على الاقتصاد الصيني؛ لتفادي تأثير العقوبات الاقتصادية من الغرب؛ إذ تُعد الصين هي أسرع وجهة تصديرية لروسيا نمواً، ولاسيما فيما يخص تجارة الوقود الأحفوري.
تداعيات مُستقبلية:
قد يتمخض عن التحركات الروسية في منطقة "الإندوباسيفيك"، عدد من التداعيات المُستقبلية، يمكن إلقاء الضوء عليها على النحو التالي:
1- تصاعد العسكرة وتراجع الأمن: من المُرجح أن تصبح منطقة "الإندوباسيفيك"؛ المنطقة الأكثر عسكرة في العالم، على خلفية الاتفاق العسكري بين روسيا وكوريا الشمالية، فضلاً عن تصاعد احتمالات انعدام الأمن في المنطقة، مع سعي حلف "الناتو" لإقامة علاقات أوثق مع حلفائه في تلك المنطقة.
2- محور إقليمي بقيادة روسية: قد تفرز التحركات تدشين محور إقليمي في شمال المحيط الهندي بقيادة موسكو يضم بكين وطهران؛ وما قد يُعزز ذلك أن موسكو تمهد لإنشاء طريق جديد يسمح لها بتجاوز القيود، ويختصر الوقت بنسبة تتراوح بين 25% إلى 30% بين روسيا والموانئ على الخليج العربي ومومباي الهندية، ومن شبه المؤكد أن هذا المحور سيتضمن تنسيقاً أمنياً وعسكرياً بين تلك الدول، ولاسيما مع احتمالات تعزيز العلاقات بصورة أكبر بين موسكو وبكين، على خلفية رد فعل الصين القوي على اتهام حلف "الناتو" لها خلال الاجتماعات الأخيرة للحلف، والذي وصف الصين بأنها "الداعم الحاسم" لحرب موسكو ضد كييف.
3- تصعيد أمريكي: من المُحتمل أن تصعّد واشنطن من رد فعلها ضد موسكو، بشأن التحركات الروسية في "الإندوباسيفيك"، ولاسيما مع القلق الذي ينتاب واشنطن من الترتيبات العسكرية والأمنية التي تقودها موسكو في "الإندوباسيفيك"، وعلى رأسها معاهدة الدفاع بين روسيا وكوريا الشمالية، وقد تلجأ واشنطن في ذلك التصعيد إلى تحييد الدور الصيني؛ إذ أشار المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي إلى احتمال مشاطرة الصين لبلاده القلق تجاه هذه المعاهدة.
4- دعم روسي للصين: قد تلجأ موسكو لتقديم الدعم لبكين في منطقة "الإندوباسيفيك"؛ بهدف تفويت فرصة احتمالات تقارب المصالح الأمريكية والصينية في تلك المنطقة، مع تقارب موسكو مع دول ليست على توافق مع بكين، ولاسيما وأن الاستراتيجية الخارجية الروسية الحالية تسعى لنهاية الزعامة العالمية لواشنطن وحلفائها.
وفي التقدير، فإنه في ضوء معطيات الموقف الراهن للتحركات الروسية في منطقة "الإندوباسيفيك"، وردود الفعل على تلك التحركات، فإن الصين وكوريا الشمالية فقط يمكن أن يمثلا محور القوة بالنسبة لروسيا، فمعظم الدول الأخرى في المنطقة، إما تقاوم فكرة مساعدة "الكرملين" في بناء كتلة استراتيجية مُنافسة للغرب، أو تستلهم مبادئ حركة عدم الانحياز التي نشأت أثناء الحرب الباردة، ولكن ذلك لن يقلل من احتمالات تزايد مخاطر التصعيد بين موسكو وواشنطن ودول "الناتو"، التي قد تشهدها الفترة المقبلة، ولكن المواجهة المباشرة بينهما قد تظل مجرد ورقة ضغط بينهما، يتم استعمالها من حين لآخر؛ لتحقيق مصالح مختلفة، ولاسيما وسط احتمالات حدوث انقسامات داخل "الناتو" حول كيفية التعامل مع روسيا، وعلى الرغم من أن التغلغل الروسي في "الإندوباسيفيك" لن يشكل -على الأرجح- تحدياً أساسياً لاستراتيجية واشنطن في تلك المنطقة؛ فإنه سيحفز فكرة النظام الدولي مُتعدد الأقطاب.