فى أول زيارة له إلى بيونج يانج منذ عام ٢٠٠٠، وفى خطوة من شأنها «إشعال» المخاوف من أن تصبح شبه الجزيرة الكورية مركزًا ساخنًا لحرب باردة جديدة، وقَّع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، والزعيم الكورى الشمالى كيم جونج أون، على اتفاقية «التعاون الاستراتيجى الشامل»، خلال القمة التى جمعتهما فى بيونج يانج فى ١٩ يونيو ٢٠٢٤.
مضمون وتوقيت الاتفاقية
يُعد توقيع هذه الاتفاقية تطورًا مهمًا وغير مسبوق، لجهة تضمينها بندًا يتحدث عن «الدفاع العسكرى المشترك» فى وجه أى عدوان قد تتعرض له إحدى الدولتين، بما يتماشى مع المادة ٥١ من ميثاق الأمم المتحدة وقوانين الدولتين، وذلك على غرار اتفاق مماثل تم التوصل إليه فى عام ١٩٦١ بين الاتحاد السوفيتى السابق وكوريا الشمالية خلال حقبة الحرب الباردة، إلا أنه انقضى فى عام ١٩٩٦ بعدما أقامت روسيا الاتحادية علاقات دبلوماسية مع كوريا الجنوبية.
وتأتى هذه الاتفاقية لتعزز بشدة مكانة موسكو وبيونج يانج اللتان تحاربان «هيمنة الولايات المتحدة»، على حد وَصْف الرئيس الروسى. وتُعد هذه الحرب «مفهومة» و«منطقية» فى ظل المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة التى تجمع الرئيسين بوتين وكيم، وفى مقدمتها: تقويض أنظمة العقوبات الأمريكية، وضمان تلبية احتياجاتهم الأمنية فى ضوء سياسة العقوبات القاسية والعزلة الشديدة التى تفرضها واشنطن وحلفاؤها فى أوروبا وشرق آسيا على الدولتين؛ بسبب شن موسكو حربها فى أوكرانيا وإصرار بيونج يانج على تطوير برامجها النووية والصاروخية.
كما جاءت الاتفاقية أيضًا بعد أسبوع واحد فقط من تأكيد وزراء خارجية دول «مجموعة السبع» تضامنهم مع أوكرانيا فى حربها ضد روسيا، وأيضًا فى الوقت الذى تعترض فيه كوريا الشمالية بشدة على تنامى التعاون الأمنى والعسكرى بين الولايات المتحدة وحليفتيها كوريا الجنوبية واليابان.
من جانبه، علَّق الرئيس كيم على الاتفاقية المذكورة بأن «وَضْع كوريا الشمالية وروسيا فى بنية الجغرافيا السياسية العالمية قد تغيَّر»، وأن الاتفاقية سوف تساعد على وجود «عالم متعدد الأقطاب»، مؤكدًا أن ترقية العلاقات مع روسيا إلى مستوى التحالف يتناسب مع العصر الجديد. أما الرئيس الروسى، فقد ذكر أن موسكو وبيونج يانج تعارضان استخدام العقوبات بدوافع سياسية، مشيرًا إلى أنها لا تؤدى إلا لتقويض الوضع الدولى، موضحًا أن -ما سمّاه– «الكليشيهات الدعائية التى يكررها الغربيون بكثرة لم تعد قادرة على إخفاء خططهم الجيوسياسية العدوانية، بما فى ذلك فى منطقة شمال شرق آسيا».
التعاون العسكرى وإثارة شبح الحرب النووية
تُعد اتفاقية «التعاون الاستراتيجى الشامل» بين روسيا وكوريا الشمالية «ذروة جديدة» لإمكانات التعاون العسكرى والاقتصادى والسياسى بينهما؛ إذ تنامى هذا التعاون بشكل ملحوظ منذ الزيارة «التاريخية» التى قام بها الرئيس الكورى الشمالى إلى روسيا فى سبتمبر ٢٠٢٣، وهى الزيارة التى أسفرت، بحسب تقارير أمريكية وغربية، عن قيام موسكو بشراء ملايين الصواريخ متعددة الأغراض وقذائف المدفعية والذخائر اللازمة للأسلحة الثقيلة والمتوسطة من كوريا الشمالية؛ وهو الأمر الذى مكَّن روسيا من سد فجوة مهمة فى حاجات القطاع العسكرى الروسى، وتعويض عجْز المجمع الصناعى العسكرى عن توفير متطلبات الجبهة فى عدد من المجالات رغم زيادة الإنتاج الروسى عدة أضعاف خلال العامين الماضيين.
فى هذا السياق، أشار تقرير أمريكى صدر فى شهر فبراير ٢٠٢٤، إلى أن موسكو تلقت أكثر من ١٠ آلاف حاوية شحن؛ أى ما يعادل ٢٦٠ ألف طن مترى من الذخائر والمواد المرتبطة بالذخائر من كوريا الشمالية منذ سبتمبر ٢٠٢٣. وقال مسؤول أمريكى فى شهر مارس الماضى إن «القوات الروسية أطلقت أيضًا ما لا يقل عن ١٠ صواريخ كورية شمالية على أوكرانيا منذ سبتمبر ٢٠٢٣».
وفى مقابل هذا الدعم التسليحى من جانب بيونج يانغ، زوَّدت موسكو كوريا الشمالية بالخبرة الفنية اللازمة لتطوير برنامجها للأقمار الاصطناعية، وأرسلت مساعدات غذائية ونفطية لمواجهة الأزمة الإنسانية المتفاقمة فى البلاد. وقد ظهرت إشارات هذا الدعم الفنى الروسى فى الإطلاق الناجح لأول قمر اصطناعى للاستطلاع العسكرى لكوريا الشمالية، وهو قمر «ماليجيونج ١»، بعد محاولتين فاشلتين فى وقت سابق.
وفقًا لذلك، تُمثِّل الاتفاقية فى المدى المنظور «فرصة ذهبية» للدولتين من أجل تعزيز قدراتهما العسكرية، بل وزيادة قدراتهما السياسية والتفاوضية مع الولايات المتحدة وحلفائها. على سبيل المثال، يتطلع الرئيس الكورى الشمالى إلى الاستفادة من هذه الاتفاقية فى اكتساب التكنولوجيا العسكرية الروسية المتقدمة، خاصة تلك المرتبطة بتخصيب اليورانيوم، أو تصميم المفاعلات النووية، أو الدفع النووى للغواصات.
وبالنسبة إلى الرئيس بوتين، تُمثِّل هذه الاتفاقية أيضًا فرصة ذهبية لإرسال إشارة، أو تهديد، بأن روسيا ليست وحدها فى مواجهة الغرب. وربما يرى الرئيس الروسى أيضًا فى تعزيز العلاقة مع نظيره الكورى الشمالى وسيلة «لابتزاز» الولايات المتحدة وحلفائها سياسيًا، من خلال إثارة شبح الحرب النووية، مستغلًا «مخاوف الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية بشأن كوريا الشمالية»، وفق ما رجحه خبراء ومحللون.
تجدر الإشارة فى هذا الصدد إلى أن معهد ستوكهولم الدولى لأبحاث السلام «سيبرى» أصدر مؤخرًا تقريرًا وَرَدَ فيه أن عدد الرؤوس الحربية النووية التى تمتلكها كوريا الشمالية، وصل إلى ٥٠ رأسًا نوويًا فى العام الحالى ٢٠٢٤، بزيادة ٢٠ رأسًا عن العام الماضى. كما أن بيونج يانج لديها ما يكفى من المواد الانشطارية لإنتاج حوالى ٩٠ رأسًا نوويًا.
نِصف تحالف أم تحالف كامل؟!
على الرغم من أنه لا يزال من المبكر جدًا تحديد مدى وطبيعة «ذروة» التعاون العسكرى بين موسكو وبيونج يانج فى ضوء اتفاقية «التعاون الاستراتيجى الشامل» بين الدولتين، وما إذا كان هذا التعاون سوف يستمر فى وتيرته التصاعدية خلال المدى المنظور؛ فإنه من الممكن افتراض أن الدولتين قد أسَّستا حتى الآن ما يُمكِن وصفه بأنه «شِبْه تحالف» أو «نِصف تحالف» وليس «تحالفًا كاملًا». وتوجد عدة مؤشرات تدلل على صحة مثل هذا الافتراض، منها على سبيل المثال ما يلى:
١ - الحفاوة الكبيرة التى تم بها استقبال الرئيس الروسى فى كوريا الشمالية؛ مما يعكس درجة اهتمام الطرفين بإظهار عمق العلاقة والاستعداد لتطويرها سريعًا؛ فإلى جانب استقباله فى المطار من الرئيس كيم فى حوالى الساعة الثالثة صباحًا وعناقه بحرارة بعد نزوله من الطائرة، تميزت مراسم الاستقبال الرسمى للرئيس الروسى فى ساحة كيم إيل سونغ، مؤسس دولة كوريا الشمالية وجَدِّ الزعيم الكورى الحالى، باهتمام بالغ فى التفاصيل، لجهة تزيين الساحة واللافتات التى حملت عبارات تُذكِّر بالماضى السوفيتى، وحضور الوفود الشعبية وقادة الحزب الحاكم، وصولًا إلى الجولة فى شوارع العاصمة على متن سيارات من طراز «أوروس» الفاخرة التى كان بوتين قد أهدى نسختين منها إلى الرئيس كيم فى فترة سابقة. كما تم تبادل الكلمات الدافئة بين الرئيسين؛ إذ شكر بوتين كيم على دعمه لحربه فى أوكرانيا؛ وأغدق كيم الثناء على بوتين مشيرًا إلى أن العلاقات الثنائية بين موسكو وبيونج يانج وصلت إلى مستوى التحالف.
٢ - انحياز موسكو إلى جانب كوريا الشمالية فى مجلس الأمن الدولى، من خلال استخدامها حق «الفيتو»، لعدم فرض عقوبات دولية جديدة عليها فى ضوء استمرار مساعيها لتطوير برامجها النووية والصاروخية. ففى وقت سابق من العام الحالى، عرقلت روسيا قرار التجديد السنوى للجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة التى تراقب انتهاكات كوريا الشمالية لـ ١١ قرارًا أمميًا ضد البرامج النووية والصاروخية للنظام. وعلى الأرجح، ستزيد ممارسات موسكو من صعوبة مراقبة الامتثال الدولى للعقوبات المطلوبة فى المدى المنظور.
ولكن من ناحية أخرى، لا يُمكِن وَصْف التحالف الناشئ والصاعد بين موسكو وبيونج يانج بأنه «تحالف كامل»، وذلك فى ضوء عدة تحديات رئيسية، لعل من أبرزها ما يلى:
١ - عدم اتفاق قادة الدولتين (فى حدود ما هو متاح من معلومات) على التوصل إلى «اتفاقية دفاع مشترك» مماثلة لتلك التى أبرمتها الولايات المتحدة، على سبيل المثال، مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين.
٢ - لا يبدو للكثير من المراقبين أن روسيا فى وضْعٍ يسمح لها بتقديم مساعدات عسكرية كبيرة إلى بيونج يانج فى حال اندلاع حرب فى شبه الجزيرة الكورية، نظرًا لانشغالها بالحرب فى أوكرانيا.
٣ - عدم رغبة قادة الدولتين فى إغضاب الصين، والتى لا بد أنها سوف تشعر بالقلق من تنامى التعاون الأمنى والاستراتيجى بين موسكو وبيونج يانج؛ إذ اعتاد الصينيون أداء الدور الأكبر فى بيونج يانغ، باعتبارهم أكبر شريك اقتصادى وجيوسياسى لكوريا الشمالية، وهم سعداء للغاية باعتماد الكوريين الشماليين عليهم فى كل شىء، من الغذاء والنفط إلى الدعم السياسى والدبلوماسى.
ومن ثم؛ فإن إحراز روسيا تقدمًا كبيرًا على طريق التعاون مع كوريا الشمالية قد يمنح الرئيس كيم، من وجهة النظر الصينية، المزيد من المرونة والقوة فى مواجهة «الرفيق الصيني»؛ ومن ثم قد يتراجع نفوذ ومكانة الصين فى هذه المنطقة الحيوية لمصالحها.
وبالتزامن مع ذلك، يحتاج الرئيس بوتين أيضًا إلى توخى الحذر بشأن إثارة غضب الصين فى شبه الجزيرة الكورية. فمع استمرار الإغلاق المُتوقَّع لأبواب الغرب أمام موسكو فى المستقبل المنظور، لا يستطيع الرئيس بوتين تحمُل غضب بكين، التى تُعد شريكه الاستراتيجى الأكثر أهمية.
مخاوف غربية عميقة
فى ضوء ما سبق، لم يكن غريبًا أن تثير اتفاقية «التعاون الاستراتيجى الشامل» بين موسكو وبيونج يانج «قلقًا شديدًا» و«مخاوف عميقة» لدى الولايات المتحدة ولدى حلفائها، سواءً فى كوريا الجنوبية واليابان، أم فى حلف شمال الأطلسى «الناتو» أيضًا؛ إذ أكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير، أن «تعميق التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية يجب أن يكون مصدر قلق كبير للجميع»، وشدَّد ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف «الناتو»، على أن «هذه الاتفاقية مدعاة لتأكيد أهمية شراكة الحلف مع الدول الآسيوية».
من جهة أخرى، انتقد وزراء خارجية الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان بشدة هذه الاتفاقية لأنها تُشكِّل «تهديدًا كبيرًا لأمن منطقة شمال شرق آسيا»، مؤكدين عزمهم على تعزيز التعاون الأمنى والعسكرى الثلاثى بينهم.
وبالتزامن مع ذلك، استدعت وزارة الخارجية الكورية الجنوبية، فى اليوم التالى للتوقيع على هذه الاتفاقية، السفير الروسى لدى سيول، جورجى زينوفييف، للاحتجاج عليها، مؤكدة أنها تُشكِّل انتهاكًا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وتهديدًا للعلاقات الثنائية بين سيول وموسكو، بل وتهديدًا أيضًا للاستقرار الإقليمى.
التداعيات المحتمَلَة
يُمكِن القول إن اتفاقية «التعاون الاستراتيجى الشامل» بين روسيا وكوريا الشمالية رغم غموض تفاصيلها، سوف تُمثِّل، على الأرجح، تحولًا جذريًا فى المعادلة الاستراتيجية الأمنية فى منطقة شمال شرقى آسيا، وربما أيضًا فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ. وقد يكون هذا التحول خطرًا كبيرًا على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها فى هذه المنطقة، بل وفى أوروبا أيضًا، خاصة إذا ما عملت بيونج يانج على زيادة فاعلية العمليات العسكرية لروسيا فى أوكرانيا؛ ومن ثم الحصول على فوائد مالية وعسكرية تمكنها من تطوير برامجها النووية والصاروخية.
ومما قد يفاقم خطورة الأوضاع أن «الباب الروسى» سوف يكون «مفتوحًا على مصراعيه»، على الأرجح، لحصول بيونج يانج على التكنولوجيا المتطورة المرتبطة بتصميمات الرؤوس الحربية النووية، أو الطائرات والغواصات التى تعمل بالطاقة النووية، وأقمار الاستطلاع العسكرية وتكنولوجيا الإطلاق وغيرها.
ومن جهة أخرى؛ من شأن أى تعزيز روسى للقدرات العسكرية لكوريا الشمالية أيضًا، حتى بالنسبة إلى الأسلحة التقليدية؛ أن يقود إلى زيادة التهديدات والمخاطر الأمنية بالنسبة إلى كل من اليابان وكوريا الجنوبية، حليفتى الولايات المتحدة فى منطقة شمال شرق آسيا، خاصة وأن هاتين الدولتين تستضيفان عشرات الآلاف من القوات الأمريكية المتمركزة فى هذه المنطقة الحيوية. كما أن من شأن أى تحالف عسكرى رسمى روسى كورى شمالى؛ أن يقود إلى تعقيد الخطط العسكرية لواشنطن وحلفائها فى طوكيو وسيول، للرد على أية هجمات كورية شمالية أو للقيام بغزو كبير لبيونج يانج من أجل الإطاحة بالنظام الحاكم هناك.
كذلك، قد تعنى الشراكة الروسية الكورية الشمالية الجديدة أن مقعد روسيا فى مجلس الأمن الدولى سيصبح حائط صد متين لحماية كوريا الشمالية من قرارات الإدانة الدولية أو استمرار العقوبات القاسية المفروضة عليها. وقد تعنى مزيدًا من سياسة حافة الهاوية من جانب زعيم كوريا الشمالية، من أجل تخفيف الضغط على «الرفيق الروسى» فى الجبهة الأوكرانية.
ويُتوقَّع أن تتركز كل الأنظار فى طوكيو وسيول، على واشنطن، من أجل الحصول على «تطمينات نووية» لتحقيق ردع أقوى فى مواجهة كوريا الشمالية، وحليفها الجديد فى موسكو، وَسْط تساؤلات حول ما إذا كانت هذه التطمينات ممكنة وفعالة، خاصة وأن الأمريكيين فى عام الانتخابات الرئاسية، وفى ظل احتمالات عودة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للرئاسة.
ومما يزيد من تهديد الأمن والاستقرار الإقليميين فى هذه المنطقة أن واشنطن لا يبدو أن لديها فى الوقت الراهن خُططًا لإعادة نَشْر «الأسلحة النووية فى شبه الجزيرة الكورية»، وهى الأسلحة التى سحبتها فى عام ١٩٩١. كما أنه من الصعب على واشنطن إحياء مسار المفاوضات من أجل دَفْع كوريا الشمالية للتخلى عن برامجها النووية والصاروخية، بل ويُمكِن التأكيد أن مسار كوريا الشمالية، نوويًا وصاروخيًا، وصل إلى نقطة اللاعودة بشكل مُطلَق.
* رئيس وحدة الدراسات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة وخبير الشؤون الآسيوية- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية