على خلفية العقوبات المفروضة على روسيا جراء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، أعلنت مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي في فبراير 2022 تجميد مبلغ قدره حوالي 300 مليار يورو (325 مليار دولار) من احتياطيات البنك المركزي الروسي. وشهدت الفترة الأخيرة تصعيداً جديداً في ضوء موافقة مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي، في يونيو 2024، على استخدام الفوائد التي تدرها الأصول الروسية المجمدة؛ لدعم قرض بقيمة 50 مليار دولار لكييف؛ لمساعدتها على الدفاع عن نفسها ضد موسكو. وبالفعل أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، يوم 26 يوليو الماضي، أن الاتحاد الأوروبي سيحوّل 1.5 مليار يورو (1.63 مليار دولار) من عائدات هذه الأصول الروسية المجمدة إلى أوكرانيا. فيما هددت موسكو مراراً بالرد على أي استخدام لأصولها المجمدة لتمويل كييف.
تجميد الأصول الروسية:
عقب الاجتياح الروسي لأوكرانيا، أعلن الغرب فرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية على موسكو، كان من ضمنها تجميد الأصول الروسية المملوكة للبنك المركزي الروسي في الخارج، والتي وصلت قيمتها إلى حوالي 300 مليار يورو، تشكل قرابة نصف الأصول الروسية في الخارج، وهي الأصول المودعة بالأساس في دول مجموعة العشرين.
إذ جمّدت الدول الغربية، وخاصةً أعضاء مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي، أصولاً مملوكة للبنك المركزي الروسي على شكل أموال نقدية وأوراق مالية، أما النسبة الأكبر من هذه الأصول، والتي تبلغ حوالي 191 مليار يورو (208 مليارات دولار) فقد تم حظرها أو تجميدها على منصة يوروكلير الدولية في بلجيكا (شركة خدمات مالية تتخصص في تسوية معاملات الأوراق المالية، وكذلك حفظ الأوراق المالية). وجمدت فرنسا حوالي 19 مليار يورو (21 مليار دولار)، وألمانيا حوالي 210 ملايين يورو. وأعلنت سويسرا وبريطانيا من خارج الاتحاد الأوروبي عن تجميد أصول روسية تبلغ قيمتها مجتمعة حوالي 30.2 مليار دولار.
هذا علاوة على الأموال المجمدة للأفراد الخاضعين للعقوبات. فعلى سبيل المثال، في ألمانيا تُقدر الموارد الاقتصادية للأفراد بالإضافة إلى الأصول المجمدة للبنك المركزي الروسي بنحو 4.1 مليار يورو (4.5 مليار دولار)، وفي سويسرا يصل المبلغ إلى 17.6 مليار فرنك (نحو 20 مليار دولار)، وفي المملكة المتحدة 22.7 مليار جنيه إسترليني (29 مليار دولار) ووفقاً لصحيفة "الغارديان" تبلغ 25 مليار جنيه إسترليني (32 مليار دولار). وتُقدر الأصول التي تمت مصادرتها في الولايات المتحدة بنحو 5 مليارات دولار، وفي كندا بنحو 328 مليون دولار. وتم تجميد الأصول الروسية على أساس التشريعات المحلية للدول التي فرضت العقوبات.
ومؤخراً، وفي إطار دعم مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، بدأت تتصاعد الأصوات المنادية باستغلال هذه الأصول الروسية في عملية التمويل، سواء من خلال مصادرة الأصول نفسها واستخدامها في تمويل كييف أم من خلال الاحتفاظ بها مجمدة واستخدام عائداتها في التمويل. وأعلنت مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي بالفعل استخدام عائدات هذه الأصول المجمدة في تمويل المجهود الحربي الأوكراني؛ إذ اتفقت الدول على الاحتفاظ بهذه الأصول في بنوكها المركزية، وتقوم الدول السبع بمنح قروض لكييف يتم سدادها باستخدام العائدات التي تدرها الأصول الروسية المجمدة، وهي العائدات التي تصل قيمتها إلى ما يتراوح بين 3 إلى 5 مليارات يورو سنوياً.
الجدير بالذكر أن معظم الأصول الروسية المجمدة موجودة في البنوك الأوروبية على إثر قيام الرئيس فلاديمير بوتين بسحب جزء كبير من الأصول الروسية من البنوك الأمريكية عام 2018؛ نتيجة عقوبات اقتصادية تم فرضها على موسكو في تلك الفترة.
تبعات خطرة:
ثمة تداعيات مترتبة على مصادرة الأصول الروسية المجمدة لدى الغرب أو استخدام الفوائد التي تدرها هذه الأصول لتمويل أوكرانيا، ومنها الآتي:
1- تقويض النظام المالي العالمي: الحقيقة أن مصادرة أو تجميد الأصول الروسية واقتراح استخدامها أو حتى عائداتها، هي سابقة خطرة تشكك في موثوقية النظام المالي العالمي بصرف النظر عن النيات من وراء ذلك والخاصة بالدعم العسكري لأوكرانيا أو تمويل إعادة الإعمار فيها في حالة انتهاء الحرب. فاستخدام الأصول الروسية أو عائداتها ينطوي على مجموعة من التبعات الاقتصادية والسياسية، تصل إلى تقويض شرعية النظام المالي القائم بالفعل وما يقوم عليه من قواعد تتعلق بحقوق الملكية الخاصة. فمعظم دول العالم، إن لم يكن كلها، لديها احتياطيات نقدية بالفعل لدى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي؛ ومن ثم فإن خضوع هذه الاحتياطيات للنزاعات السياسية أو استخدامها كأداة للعقوبات الاقتصادية، وليس فقط تجميدها وإنما مصادرتها والاستيلاء على عائداتها؛ قد يؤدي في النهاية إلى تقويض شرعية هذا النظام في ظل استخدام الحالة الروسية كسابقة قانونية يتم التأسيس عليها.
وكان هناك بالفعل سابقة، ففي عام 2003 احتجزت الولايات المتحدة احتياطيات العراق لتمويل إعادة الإعمار بعد سقوط نظام صدام حسين، وإن كانت الأموال المحتجزة في تلك الحالة أقل بكثير من حجم الأصول الروسية المحتجزة حالياً.
وحذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، في إبريل الماضي، من أن احتمال مصادرة الأصول الروسية لصالح كييف من شأنه أن يهدد النظام الدولي ويثير العديد من التساؤلات، وأن استخدام الأصول الروسية المجمدة لتمويل المساعدات العسكرية لأوكرانيا قد يُعد انتهاكاً للقانون الدولي، الذي تطالب تلك الدول موسكو باحترامه، وأنه قد يؤدي إلى تفتيت النظام المالي العالمي مع تزايد المخاوف بشأن استغلال النظام الحالي سياسياً.
2- خرق قواعد القانون الدولي: بشكل عام، من المفترض أن يحمي القانون الدولي، الدول والمسؤولين من إنفاذ القانون على ممتلكاتهم دون موافقتهم؛ وبذلك فإن أحد أهم الأسئلة المطروحة في قضية مصادرة الأصول الروسية أو الاستفادة من عائداتها هو مدى قانونية ذلك؛ أو بمعنى آخر مدى اتساقه مع مبادئ القانون الدولي، حتى وإن كان التبرير المطروح من الغرب أن مثل هذا التصعيد من شأنه أن يكبح زمام العملية العسكرية الروسية ويؤدي إلى وقف الحرب في أوكرانيا، أو في تبرير آخر يأتي في إطار المسؤولية الأخلاقية لروسيا في تمويل إعادة إعمار أوكرانيا بعد ما سببته من دمار.
بيد أن كل هذه الأطروحات لا تشكل مبرراً قوياً لهذا الخرق المتعمد للقانون الدولي. بمعنى آخر، في حين قد يجيز القانون الدولي التجميد المؤقت للأصول الروسية في إطار فرض عقوبات اقتصادية، إلا أن المصادرة أو استخدام العوائد هو شأن آخر لم تجد هذه الدول تبريراً أو تكييفاً قانونياً له؛ ومن ثم قد يؤدي إلى اختلال الثقة بالنظام الدولي وعدالة قوانينه.
3- التأثير في اليورو والدولار كعملات احتياطي: على الرغم من اتجاه مجموعة السبع إلى مصادرة الأصول الروسية، لا يزال هذا الاتجاه يواجه بالعديد من الاعتراضات داخل أوروبا. فعلى سبيل المثال، حذّر البنك المركزي الأوروبي، في يونيو 2023، من تداعيات استخدام عائدات الأصول الروسية المجمدة؛ إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى اتجاه الدول لتنويع الاحتياطيات بعيداً عن الأصول المقومة باليورو وكذلك الدولار الأمريكي.
حدود الفاعلية:
لعل التساؤل الرئيسي الذي يطرح نفسه هو جدوى قرار مصادرة الأصول الروسية أو حتى استخدام عائداتها في كبح الحرب الروسية في أوكرانيا، وهو في رأي العديد من المتخصصين أمر مستبعد. فالضرر المحتمل للاقتصاد الروسي حدث بالفعل مع قرار التجميد؛ ومن ثم فإن فاعلية المصادرة كأداة ضغط اقتصادي على روسيا ستتضاءل بمرور الوقت، كما أن الاقتصاد الروسي أظهر بالفعل قدراً معتبراً من الصمود أمام العقوبات الاقتصادية المتتالية.
وكرد فعل على التهديد بمصادرة الأصول الروسية، لّوحت موسكو بقدرتها على الرد على قرار المصادرة بتجميد أموال المستثمرين الأجانب في روسيا، والتي تقدر بأكثر من 500 مليار دولار. ووفقاً لعدد من الخبراء الماليين؛ فإن رد موسكو على مصادرة أو توظيف أصولها المجمدة في الاتحاد الأوروبي قد يؤدي إلى إفلاس مؤسسة الإيداع الأوروبية الرئيسية "يوروكلير"؛ إذ يمكن للبنك المركزي للاتحاد الروسي مصادرة 33 مليار يورو من أصول "يوروكلير" في الولاية القضائية الروسية، ورفع دعاوى قضائية لمصادرة أصولها في دول أخرى.
وكان بوتين قد أصدر قراراً في إبريل 2023 يسمح بالسيطرة المؤقتة على أصول الشركات الأجنبية في بلاده رداً على قرار تجميد الأصول الروسية. كما وقَّع بوتين، في 23 مايو 2024، قراراً بشأن مصادرة الأصول الأمريكية رداً على تصويت مجلس النواب الأمريكي في إبريل الماضي لصالح مصادرة الأصول الروسية المجمدة.
ختاماً، مع طول أمد الحرب الروسية في أوكرانيا، وارتفاع تكلفة دعم كييف من الدول الغربية، سعت هذه الدول إلى استحداث طريقة يمكن من خلالها استمرار دعم كييف عسكرياً دون تحمل المزيد من التكاليف؛ وذلك من خلال استغلال الأصول الروسية التي تم تجميدها مع بداية هذه الحرب. بيد أن تلك الخطوة لا تزال محفوفة بالعديد من المخاطر، فمن جهة تعتبر تهديداً صريحاً لموثوقية النظام الدولي في وقت حرج؛ فالنظام الاقتصادي العالمي وبعد أزماته المتتالية هو في مفترق طرق وفي سبيله للتغير بالفعل؛ ومن ثم قد تؤدي خطوة المصادرة أو استخدام عائدات الأموال المجمدة إلى تغير في هذا النظام في غير صالح الغرب.
ومن جهة أخرى، فإنه حتى في حالة التسليم بإمكانية تنفيذ عملية المصادرة تلك، فإن جدواها في الأجل القصير على الأقل محل شك، فالاقتصاد الروسي وبعد أكثر من سنتين من العقوبات الاقتصادية الغربية على إثر اندلاع الحرب الأوكرانية ما يزال قادراً على تحقيق نمو اقتصادي وفتح منافذ إلى أسواق وشركاء تجاريين؛ بمعنى آخر، فإن عمليات المصادرة سواء للأصول أم عوائدها لن تشكل ضغطاً جديداً على الاقتصاد الروسي بالصورة المتوقعة. وأخيراً، لا يزال يتعين على الدول الغربية أن تقطع شوطاً كبيراً في البحث عن تكييف قانوني يسمح لها بمصادرة الأصول الروسية وعائداتها بشكل لا يجعلها تخرق القانون الدولي أو يؤثر في مصداقيته.