نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب أحمد نظيف، تناول فيه أسباب الانقسام بين الغرب والجنوب العالمى، الذى ظهر بوضوح بعد عملية طوفان الأقصى؛ مشيرا إلى أهمية احتواء هذا الانقسام من أجل حل الأزمات والقضايا العالمية... نعرض من المقال ما يلى:
عمقت لحظة السابع من أكتوبر 2023 الانقسام العالمى، بين الغرب وبقية العالم. فقد كان الغزو الروسى لأوكرانيا قبل عامين، بداية ظهور خطوط الصدع بين الغرب، بوصفه الكتلة المهيمنة على مدى عقود، وما أصبح يعرف بـ«الجنوب العالمى» بوصفه الكتلة الصاعدة. وقد يبدو هذا المصطلح موضع تشكيك فى الأدبيات البحثية الغربية، ومع ذلك يجب أن يؤخذ هذا «الجنوب العالمى» فى الاعتبار، وهو امتداد تطورى لمفهوم «العالم الثالث»، الذى برز بعد الحرب العالمية الثانية. فمنذ ثمانينيات القرن الماضى، أدت الإصلاحات الليبرالية التى تمت فى الصين ثم فى الهند، بالإضافة إلى تأثيرات الليبرالية الجديدة فى التجارة العالمية، إلى وضع البلدان التى كانت تعانى من الركود على مسار النمو. وبدورها سلكت إفريقيا نفس المسار فى العقد الأول من هذا القرن، وخاصة نتيجة للنمو الصينى.
فى المقابل، حافظ الغرب، بجناحيه الأمريكى والأوروبى، بالرغم من هذا التطور الجذرى فى طبيعة العالم الثالث، على النظرة نفسها لهذا العالم، بوصفه تابعا، وليس ندا، فى طريق النمو والصعود. وعلى الرغم مما تحقق للرأسمالية فى عصر العولمة من توسع، فإن الليبرالية شهدت انحسارا متواصلا منذ ذلك التاريخ، وأصبحت أكثر من أى وقت مضى محل تشكك حتى فى معاقلها، ولاسيما مع صعود موجة الشعبوية واليمين المتطرف. وهذا ما انعكس سلبا على نفوذ الغرب، ولاسيما أوروبا، فى العالم.
والآن وقد أصبح الجنوب العالمى حقيقة جيوسياسية، تجد أوروبا نفسها ممزقة بين المواصلة فى نهج التحالف التاريخى مع الولايات المتحدة والقائم على وحدة أيديولوجية، أو سلوك نهج مختلف يأخذ فى الاعتبار وجودها بين هذا الجنوب الصاعد وبين حليفها ما وراء الأطلسى، لتحقيق مصالحها الاستقلالية، كوحدة كونفدرالية تعانى أزمات هيكلية عديدة، وفى ظل وجودها عالقة بين حربين تزيدان من تعميق مشكلاتها تجاه جيرانها من خارج التحالف الغربى.
تتشكل خارطة سوء التفاهم بين أوروبا ومن ورائها الغرب، والجنوب العالمى، من مسائل عديدة، إلا أن العقبة الأساسية وراء كل هذه المسائل هى التناقض بين إرادة استدامة الهيمنة من جهة، وإرادة إعادة تشكيل النظام الدولى من جهة أخرى. إذ يحاول الأوروبيون المحافظة على المكاسب التاريخية التى حققوها على مدى القرون الخمسة الماضية من السيطرة على العالم اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وخاصة علميا، بالتحالف مع واشنطن، استنادا إلى موازين القوى المختلة لصالحهم. فى المقابل، تسعى دول الجنوب العالمى إلى فرض أجندة إعادة تنظيم العالم وفقا لموازين القوى الجديدة.
وتعد المعايير المزدوجة إحدى القضايا الأساسية موضع الخلاف، وهى قضية ترتبط بطريقة تنظيم المؤسسات الدولية، التى تشكلت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية وهيمنت عليها الدول المنتصرة. وعادت المسألة بقوة خلال الحرب الأوكرانية والحرب فى غزة، إذ بدا واضحا أن الموقف الأوروبى من أوكرانيا يختلف عن نظيره بشأن غزة، بالرغم من استعمال الحجج نفسها. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بفرض عقوبات على روسيا، فإن التصويت فى مجلس الأمن الدولى لا تعترضه أى عقبات، فى حين يتم فرض النقض «الفيتو» فى وجه طلبات وقف إطلاق النار فى غزة. ويتجلى هذا بشكل خاص فى التصويت فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ دعت 156 دولة إلى وقف إطلاق النار فى غزة، لكن الاتحاد الأوروبى فشل، أو لم يرغب، فى تبنى موقف مشترك لصالح وقف إطلاق النار.
لقد عمق هذا الازدواج فى المعايير من المنطق القديم المناهض للاستعمار والإمبريالية، وخاصة فى الوطن العربى وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، إذ ما تزال معاداة الإمبريالية سائدة. وقد بدا بشكل أوضح أن بعض الدول تتجنب الوقوف إلى الجانب الأوروبى فى الصراع الأوكرانى، لأنها تخشى أن ينظر إليها على أنها متحالفة مع الولايات المتحدة، وأن الوقوف إلى الجانب الغربى يعنى الوقوف ضد روسيا. وفى إفريقيا، تؤثر عودة مناهضة الاستعمار أيضا فى مواقف بعض البلدان التى، بحكم تاريخها، تساند الموقف الفلسطينى ولا تصوت أبدا ضد روسيا، إذ حظيت أغلبها بدعم سوفيتى سابق خلال حرب الاستقلال وفى محاربة الفصل العنصرى.
لذلك فإن مسألة ازدواجية المعايير ليست مجرد شعار أخلاقى، بقدر ما هى عقبة أساسية بين تصورين للعالم؛ تصور أوروبى غربى يريد أن يحافظ على هيمنته معتمدا على القوانين الدولية التى وضعها بنفسه، وتصور جنوبى مضاد يريد إعادة ترتيب العالم.
كما تؤدى قضية تغير المناخ دور العقبة فى أى تفاهم. وتستند بلدان الجنوب على أساس تاريخى فى تبرئة نفسها من كارثة المناخ، فهى لم تسهم بشكل كبير فى هذه المشكلة، إذ تمثل إفريقيا 3% فقط من الانبعاثات العالمية، وأمريكا اللاتينية نسبة صغيرة أيضا. ومن ناحية أخرى، فإن أوروبا، وهى موطن الرأسمالية الصناعية تاريخيا، مسئولة عن 20 إلى 25% من الانبعاثات. لذلك فإن الجنوب يشعر بوطأة التكاليف المرتفعة بسبب عدم قدرته على حماية نفسه من تغير المناخ، وكذلك بسبب الإرادة الغربية المناخية لإيقاف عجلة النمو فى الجنوب العالمى.
فيما تمثل قضية الهجرة عقبة أيضا أمام التفاهم بين أوروبا والجنوب العالمى. فمن جهة بينما يسعى الأوروبيون إلى توسيع مجالات العولمة الاقتصادية بتحول قطاع واسع من دول الجنوب إلى مصنع للقارة الأوروبية والسماح بالحرية المطلقة للبضائع والأموال، يقومون فى الوقت نفسه بتقييد حركة الأفراد من دول الجنوب، لأسباب يبدو أغلبها متعلقا بنزعات عرقية وعنصرية ومخاوف ديمغرافية.
أصبح الأوروبيون يدركون بشكل أو بآخر الحاجة إلى سد الفجوة التى انفتحت بينهم وبين الجنوب، إن لم يكن ذلك على أساس مبدئى، فالأرجح أن يكون قائما على أسس مصلحية. فقد قررت قمة مجموعة السبع فى أوكيناوا اتخاذ سلسلة من التدابير لصالح البلدان الأكثر ضعفا. وأخذت فرنسا زمام المبادرة فى شهر يونيو الماضى لعقد قمة حول ميثاق مالى عالمى جديد، بهدف إعادة توجيه البنك الدولى وصندوق النقد الدولى نحو احتياجات الجنوب، سواء فيما يتصل بالتنمية أم التحول المناخى. كما أطلق الاتحاد الأوروبى مشروع «البوابة العالمية»، فى منافسة إلى حد ما مع «مبادرة الحزام والطريق» الصينية.
لكن هذه الجهود، على أهميتها، لا تبدو جذرية بالقدر الكافى لتغيير معادلة العلاقة المضطربة بين أوروبا والجنوب، إذ تقف العلاقة بين الطرفين اليوم أمام مسارين؛ الأول: هو مضى أوروبا فى تحالفها التاريخى الأيديولوجى مع الولايات المتحدة، وبالتالى عدم التعامل مع الجنوب العالمى إلا من خلال الاستثمار فى التناقضات والانقسامات داخل هذا الجنوب. وهذا المسار يمكن أن يحقق مكاسب، من بينها منع قيام تحالف جنوبى واسع وقوى. أما المسار الثانى: فهو النزوع نحو الاستقلال عن الموقف الأمريكى، وسلوك نهج مختلف يضمن علاقات ندية مع قوى الجنوب العالمى، وإعادة صياغة عقيدة جديدة للسياسة الخارجية.
بيد أن المعضلة الأساسية فى كلا المسارين، ليست نتائجهما، بقدر ما هى إمكانية حصول إجماع أوروبى حول مسار موحد للسياسة الخارجية. إذ يعانى الاتحاد الأوروبى من طبيعته التنظيمية الكونفدرالية، التى تعطى الأولوية للحكومات الوطنية فى تقرير سياستها الخارجية على حساب الهيئات الأوروبية الموحدة. فعلى سبيل المثال، عندما وصل المجلس الأوروبى إلى حد أدنى من الاتفاق بين الأوروبيين فى مسألة الحرب على غزة، من خلال الإشارة إلى أن لإسرائيل «الحق فى الدفاع عن نفسها بموجب القانون الدولى، مع المطالبة بهدنة إنسانية وليس وقفا لإطلاق النار»، انقسمت الدول الأوروبية حول هذا القرار، عندما طرح للتصويت فى الأمم المتحدة، الأمر الذى أظهر الاتحاد فى موضوع الضعف، وكأنه تابع للولايات المتحدة. فما زالت دول مثل: ألمانيا وبولندا ودول البلطيق، قوية التبعية للسياسة الخارجية الأمريكية، لأسباب تاريخية وأمنية متعلقة بالصراع مع روسيا. لذا فإن هذا الجناح الأوروبى القريب من واشنطن يمكن أن يشكل عقبة أمام أى إجماع أوروبى استقلالى لإعادة صياغة العلاقات مع الجنوب العالمى.
ولقد لفت جوزيب بوريل، فى وقت سابق، النظر إلى عقبة قاعدة الإجماع بالقول: «ومن الواضح أننا نواجه صعوبة فى تحقيق مثل هذا الإجماع فى مواجهة المشكلات المعقدة. نحن بحاجة إلى العمل بشكل مختلف حتى نتمكن من التصرف بسرعة وقوة كافية فى هذه البيئة الخطرة. فإذا كان لدينا نظام تصويت بالأغلبية المؤهلة أو قاعدة لصنع القرار لا تتطلب الإجماع الكامل، فيمكننا تحريك الجانبين لإيجاد نقطة الالتقاء».
*أحمد نظيف
*باحث تونسي