في نهاية كل عام، عادةً ما يقوم المعلقون باستخلاص أهم أحداث العام السابق واستشراف أحداث العام الذي يوشك أن يبدأ. وهناك صلة مؤكدة بين الأمرين، فالسياسات المتوقعة من أي دولة كبرى في عام 2024 من الأرجح أن تتأثر بموقفها في عام 2023، مُتأثرة في ذلك بما حققته من مكاسب أو تعرضت له من خسائر. ولا شك في أن الأحداث التي شهدتها غزة والضفة الغربية من يوم 7 أكتوبر الماضي والهجوم العسكري الإسرائيلي المُدمر على غزة، والاقتحامات العسكرية اليومية لمدن ومخيمات الضفة الغربية، والمواقف التي تبنتها الدول الكبرى؛ سوف تكون عاملاً حاسماً في التأثير على مكانة هذه الدول ودورها في عام 2024. فالحروب عادةً ما تؤدي إلى إعادة صياغة العلاقات والأدوار.
وينبني هذا التحليل على افتراض أن الحرب الدائرة الآن سوف تكون قد انتهت مع الأسابيع الأولى من العام الجديد أو أن تكون حدتها قد انخفضت بشكل محسوس.
الدبلوماسية الأمريكية:
إذا بدأنا بالولايات المتحدة الأمريكية، فمن الواضح أن هذه الأحداث أعادتها إلى قلب الصراع في الشرق الأوسط، وأسقطت أي حديث عن الانسحاب الأمريكي من المنطقة. وظهر ذلك في الدعم الأمريكي العسكري والسياسي اللامحدود لإسرائيل، وفي استخدامها المتكرر لـ"الفيتو" في مجلس الأمن الدولي للحيلولة دون اتخاذ قرار لوقف إطلاق النار. كما ظهر في دعمها الوساطة المصرية القطرية للوصول إلى هدنة إنسانية مؤقتة، وفي الضغط على إسرائيل لزيادة حجم المعونات الإغاثية المسموح بها وفي إدراج الوقود ضمنها.
ورافق التأييد الأمريكي لإسرائيل، حدوث اختلافات وتباينات في وجهات النظر بين البلدين. ومن أبرزها، رفض واشنطن تهجير الفلسطينيين قسرياً خارج أراضيهم، ورفض عودة الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة، ورفض تقليص مساحته أو اقتطاع أجزاء منه، والدعوة إلى حل الدولتين. وأدى تدمير المنازل والمدارس والمستشفيات، وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين وحرمانهم من أبسط مقومات الحياة، إلى حالة غضب عارمة لدى الرأي العام العربي والإسلامي؛ بسبب تغاضي واشنطن عن انتهاك إسرائيل لقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وتجددت مشاعر عدم الثقة في السياسة الأمريكية وفي التعهدات التي تُقدمها للعرب.
ومن الأرجح، أن تسعى الولايات المتحدة إلى الاستمرار في اتباع دبلوماسية نشطة في الشرق الأوسط عام 2024، تسعى بها إلى تحسين صورتها في المنطقة، وذلك بإحياء مسار تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وإن كان من الضروري التذكير بأن التعهد الأمريكي بإقامة الدولة الفلسطينية، لا يعني بالضرورة أن فهمها لهذا الحل يتفق مع الفهم العربي لهذه الدولة.
وظهر ذلك في رفض وزراء خارجية الوفد العربي الإسلامي في لقائهم مع وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، يوم 8 ديسمبر 2023، مناقشة شكل الإدارة في غزة بعد الحرب بمعزل عن الوضع في الضفة الغربية. ويزداد الأمر صعوبة على إدارة الرئيس جو بايدن وعلى قدرتها على طرح مُبادرات في هذا الشأن، مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية المُقرر إجرائها يوم الثلاثاء 5 نوفمبر 2024. وبالعكس، فإذا نجحت واشنطن في إيجاد مسيرة لتحقيق السلام، فإنها سوف توظف ذلك لإحياء وتنشيط العلاقات بين إسرائيل والدول العربية.
إن مهمة الدبلوماسية الأمريكية في 2024 هي ترميم العلاقات، ليس فقط مع الدول العربية، ولكن أيضاً مع تركيا، التي انتقد رئيسها رجب طيب أردوغان الولايات المتحدة لأنها أعطت إسرائيل "شيكاً على بياض"، وأدان تل أبيب بعبارات نارية، مُتعهداً بالعمل على محاكمة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، دولياً على "جرائم الحرب التي ارتكبها".
وبالنسبة لإيران، سوف تعمل الولايات المتحدة على استمرار التفاهمات معها بشأن قواعد الاشتباك على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وردع المليشيات العراقية الموالية لطهران لمنعها من الهجوم على الأهداف الأمريكية في العراق وسوريا، وتأمين حرية الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر للحيلولة دون تكرار الهجمات الحوثية على السفن.
وسوف تستمر واشنطن في اتصالاتها والحفاظ على مصالحها مع شركائها من الدول العربية حتى عندما يحدث اختلاف في وجهات النظر معهم، وحتى مع ذات العلاقات الاستراتيجية القوية لدول مثل الجزائر مع روسيا.
الموقف الأوروبي:
يرتبط موقف الاتحاد الأوروبي بنظيره الأمريكي. فقد تقلصت مساحة الاستقلالية التي تمتع بها في وقت سابق إلى درجة كبيرة، وان كانت لم تنته تماماً. فظهرت، مثلاً، في تصويت فرنسا وإسبانيا والبرتغال والنرويج في الموافقة على مشروع القرار العربي في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 27 أكتوبر الماضي. كذلك، في تصويت فرنسا لصالح مشروع القرار الإماراتي في مجلس الأمن يوم 8 ديسمبر، بالرغم من اعتراض الولايات المتحدة على القرارين. وتكرر ذلك في تصويت الدول الأوروبية على قرار الجمعية العامة في 12 ديسمبر.
ومن الأرجح أن يستمر الاتحاد الأوروبي في دعمه لإسرائيل لتصفية حركة حماس وفي فرض عقوبات على المُستوطنين المُتورطين في أعمال عنف ضد الفلسطينيين، وفي دوره كأكبر مُموِل لموازنة السلطة الفلسطينية في رام الله والتي بلغت 294 مليون يورو في عام 2022، ورُبما يزداد إذا ما تم تأهيل السلطة الوطنية وتطوير مؤسساتها للقيام بدور في إدارة غزة. وسوف يستمر الاتحاد الأوروبي أيضاً في دعم الاستقرار الاقتصادي لمصر والأردن باعتبارهما دول الجوار الجغرافي المباشر، فتم الإعلان عن خطة مساعدات مالية واستثمارية للأولى بمبلغ 10 مليارات يورو، والثانية بمبلغ 900 مليون يورو. ومن المُتوقع أيضاً أن تزداد المخاوف الأوروبية من احتمالات الهجرة غير النظامية عبر البحر المُتوسط.
النفوذ الروسي:
انتهزت روسيا والصين مرحلة عدم الاكتراث الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط وأطروحة تحولها إلى آسيا، وخصوصاً خلال الولاية الثانية للرئيس الأسبق، باراك لأوباما، لتعزيز مواقعهما والتوسع في نفوذيهما فيها، واتبع البلدان سياسة براجماتية تقوم في علاقتها بالدول الأخرى على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.
وأبرمت روسيا العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية مع دول المنطقة، ونجحت في توثيق علاقاتها معها وتجاوز العقوبات الغربية على موسكو. واستفادت روسيا من اندلاع حرب غزة، فقد أدت إلى صرف انتباه العالم عن الحرب في أوكرانيا، وتعطيل المساعدات الأمريكية إلى كييف، وإتاحة الفرصة لتوجيه انتقادات لاذعة للولايات المتحدة التي وصفها الرئيس فلاديمير بوتين بـ"بيت العنكبوت" الذي امتدت أطرافه إلى كل شبر من أقاليم العالم مُهدداً السلم والأمن الدوليين.
ويتأثر الموقف الروسي بعدة محددات، تتمثل في المصالح مع دول المنطقة، والعلاقة مع إيران وحماس وما يُسمى "محور المقاومة"، والمواطنين الروس المسلمين الذين يصل عددهم إلى قرابة 25 مليوناً.
وفي هذا السياق، قام الرئيس بوتين بزيارة مفاجئة وسريعة إلى الإمارات والسعودية يومي 6 و7 ديسمبر، والتي أعقبها اجتماعه مع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في موسكو، وإجراء اتصال تليفوني مع كل من الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، يوم 9 ديسمبر.
ومن الأرجح أن تستثمر موسكو صورتها الإيجابية لدى الرأي العام في دول المنطقة نتيجة إدانتها للعدوان الإسرائيلي على غزة، والدعوة لوقف إطلاق النار؛ وذلك من أجل تكريس دورها في المنطقة. وسوف تستمر في تطوير تعاونها مع دول الخليج في إطار مجموعة "أوبك-بلس"، وبيع الأسلحة ونقل التكنولوجيا المُتقدمة لدول المنطقة والتي لا تسمح الولايات المتحدة ببيعها لها، وطرح نفسها كلاعب فاعل في معادلة السياسة الدولية في الشرق الأوسط.
وسوف يتوقف ذلك على رؤية موسكو لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقدرتها على استخدام أوراقها مع الإسرائيليين والفلسطينيين، وخصوصاً حماس التي حافظت على علاقاتها معها واستقبلت وفداً منها في موسكو يوم 26 أكتوبر الماضي، وأن تقترح مساراً للتسوية يتوافق عليه الطرفان المباشران للصراع والأطراف الإقليمية المؤثرة. وعلى الرغم من أن روسيا تحتفظ بعلاقات عمل منتظمة وتنسيق مع إسرائيل في سوريا، فإن العلاقات بينهما توترت بسبب الدعم السياسي الإسرائيلي لأوكرانيا، والدعم الروسي للموقف الفلسطيني.
الاستفادة الصينية:
تبدو الصين أيضاً مستفيدة مما حدث، فقد أدت حرب غزة إلى انشغال الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، إلى جانب الحرب في أوكرانيا، على حساب اهتمامها بموضوع تايوان، وأيضاً على حساب إدارتها للصراع مع الصين في منطقة الإندو-باسيفيك. كما أن حرب غزة عطلت مؤقتاً تنفيذ مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط بين الهند – عدوتها التقليدية - وإسرائيل، عبر السعودية والإمارات والأردن، ويمثل منافساً لمشروع "الحزام والطريق".
وتبنت الصين، في البداية، سياسة حذرة ومتوازنة، ولكن مع تصاعد الأحداث أدانت العدوان الإسرائيلي على غزة، وانتقدت الموقف الغربي المؤيد لتل أبيب. وظهر الموقف الصيني في التصويت في مجلس الأمن لصالح مشروعات القرارات التي دعت إلى الوقف الفوري لإطلاق النار، وفي استخدامها حق "الفيتو" – مع روسيا- لوقف قرار أمريكي في مجلس الأمن أدان حماس ولم يطالب بوقف إطلاق النار، وفي تحركات المبعوث الصيني الخاص بالشرق الأوسط وزياراته إلى مصر وقطر والسعودية والإمارات.
وتتمتع بكين بعلاقات طيبة مع الأطراف المباشرة للأزمة والأطراف العربية المؤثرة، كما تحتفظ بعلاقات وثيقة مع موسكو وطهران وأنقرة. وفي مارس الماضي، حققت الصين انتصاراً دبلوماسياً بنجاح وساطتها بين السعودية وإيران، والاتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما. وفي إطار مبادرة الأمن العالمي، تطرح الصين نفسها كوسيط لحل النزاعات الإقليمية، فدعت في عام 2023 الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، لزيارتها وكان من المقرر أنه يتبعه نتنياهو في نهاية أكتوبر الماضي، وهو ما لم يتحقق نتيجة نشوب الحرب في غزة.
فهل من المتصور أن تسعي الصين لإحياء هذه المحاولة في عام 2024؟ أم أن توتر العلاقات مع إسرائيل يضعف من هذا الاحتمال؟ سوف تستمر الصين في سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتركيز على تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دول المنطقة، وألا تؤدي الصراعات بين دول المنطقة إلى تهديد مصالحها الاقتصادية، خاصةً وأنها الشريك التجاري الأول لكثير من الدول العربية واعتمادها في استيراد النفط على الدول العربية وإيران.
ختاماً، لا تُغير الدول الكبرى سياساتها بين عام وآخر فجأة أو بدون مقدمات، وإنما تسعى للتعامل والتكيف مع الظروف المُتغيرة والاستفادة منها. وسياسات هذه الدول في عام 2024، سوف تكون نتاج تقييم ما حققته، مكسباً أو خسارة، في العام السابق. وكما يشير هذا التحليل، فإن روسيا والصين في موقف يسمح لهما بتطوير أدوارهما وتوسيع نفوذيهما في المنطقة. أما الولايات المتحدة، فسوف تبذل قصارى جهدها لمنع موسكو وبكين من تحقيق هذا الهدف. وتظل واشنطن هي اللاعب الرئيسي في المنطقة، وسوف تسعى لتعويض ما أصاب صورتها واستعادة مكانتها مرة أُخرى.