يطرح التمرد العسكري لقوات فاغنر في روسيا، وهي جيش من المرتزقة أسسه يفغيني بريغوجين، العديد من التساؤلات حول مآلات الحرب الأوكرانية، وانعكاسات ذلك على مناطق نفوذ فاغنر التقليدية في كل من منطقة الشرق الأوسط وقارة إفريقيا. ولعل تمرد بريغوجين ضد وزارة الدفاع الروسية يُذكرنا بمسيرة بنيتو موسوليني التاريخية إلى روما والتي جاءت به إلى السلطة في أواخر أكتوبر 1922. كما أنه يعكس شعوراً متزايداً بخيبة الأمل والاستياء بين القادة العسكريين في موسكو إزاء إدارة الحرب في أوكرانيا. ففي 23 يونيو 2023، شكك بريغوجين في مبررات وأهداف التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وحاول بدء إجراءات قانونية ضد وزير الدفاع، سيرغي شويغو، ورئيس الأركان العامة بتهمة "الإبادة الجماعية للشعب الروسي والتخلي عن الأراضي الروسية لصالح العدو". كما امتدت اتهامات بريغوجين إلى القيادة العسكرية الروسية، مُدعياً ضعف مركز اتخاذ القرار ووجود خسائر كبيرة بسبب عدم كفاءة القيادة العسكرية. وربما تعكس هذه المزاعم، في أحد أبعادها، حجم عدم الرضا في صفوف الجيش الروسي. وتسعى هذه المقالة إلى تحليل الآثار المُحتملة لتمرد فاغنر على مناطق وجودها في الشرق أوسط وإفريقيا.
مُعضلة بوتين وتغير الولاءات:
رداً على هذا "التمرد المسلح" من قِبل حليفه السابق، تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باتخاذ إجراءات ضد جميع المتورطين من فاغنر، ووصف أفعالهم بأنها "خيانة". وتأتي تصريحات بوتين بعد أن اتهم بريغوجين الكرملين بقصف متعمد لقوات فاغنر، مما أدى إلى تصعيد التوترات بين الطرفين. ووصف بوتين الوضع في مدينة روستوف أون دون، وهي مدينة ذات أهمية استراتيجية في جنوب غرب روسيا بالقرب من أوكرانيا، بأنه صعب. ومع ذلك، فقد أعرب عن التزامه بتحقيق الاستقرار في روستوف. ومن المُحتمل أن يكون بريغوجين قد خاطر بتصعيد عدائه مع وزير الدفاع شويغو، الذي حاول السيطرة على قوات فاغنر عندما أمر في 11 يونيو 2023 جميع الوحدات الروسية في أوكرانيا بتوقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية. ومع ذلك، جاءت هذه الخطوة لزعيم فاغنر بنتائج عكسية عندما انحاز بوتين إلى وزير دفاعه، على الرغم من أنه أقل شعبية من بريغوجين بين الجنود الروس في الخطوط الأمامية.
وفي نهاية المطاف، تمكنت وساطة الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، من احتواء تمرد فاغنر مقابل تقديم بوتين ضمانات لسلامتهم. ومن المُرجح أن ينتقل بريغوجين نفسه إلى بيلاروسيا بموجب الاتفاق مع إسقاط التهم القانونية ضده. ومن المُرجح أن يستخدم الكرملين إجراءات حاسمة لقمع أولئك الذين يشككون في الروايات الرسمية عن الحرب الأوكرانية، فضلاً عن إخضاع الوحدات الروسية لهيكل قيادة أكثر توحيداً. وعلى أية حال، تشكل محاولة تمرد فاغنر تحدياً كبيراً لسلطة الرئيس بوتين، وربما يكون تغير الولاءات قد قوض مصداقية بوتين بالفعل. ومع ذلك، فإن الخلفية الدينية والمصالح التجارية لزعيم فاغنر، بالإضافة إلى افتقاره إلى الكاريزما وقدرات التحدث أمام الجمهور التي ميزت موسوليني أثناء مسيرته إلى روما، تُقلل من قدرته على الحصول على دعم شعبي واسع النطاق. بيد أن التحدي الحقيقي أمام القيادة الروسية يظل مُتمثلاً في ضرورة أن يُعرض هذا التمرد المجهود الحربي في أوكرانيا للخطر، وهو ما يشكل اختباراً حقيقياً لبوتين وأجهزته الأمنية. لكن يبقى التساؤل المهم يرتبط بدلالة هذا الحدث وتأثيراته في مناطق النفوذ الروسي في كل من الشرق الأوسط وإفريقيا.
خريطة نفوذ فاغنر:
برزت مجموعة فاغنر، وبدعم غير خافٍ من الكرملين، كفاعل غير حكومي مهم في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث تُوظف العديد من المشاريع التجارية السرية لتسهيل النفوذ الروسي. وتمتد أنشطة فاغنر، التي تعمل في العديد من بلدان المنطقتين، إلى ما وراء عمليات الأمن التقليدية. ومن خلال نشر الآلاف من المرتزقة، تدعم المجموعة بنشاط القوات الحكومية في مناطق الصراع المختلفة. فقد ساعدت المشاركة في الحرب السورية، مجموعة فاغنر على تحقيق تجربة قيمة وتحديث هيكلها التنظيمي (على غرار الجيش). وأثناء مشاركتها في سوريا، أظهرت فاغنر أربع صفات أساسية؛ أولاً، أنه يمكن توظيفها بنجاح في المهام المتعلقة بالجيش، ولاسيما حينما يكون الخصم ضعيفاً نسبياً. ثانياً، يمكن استخدامها بشكل مشترك مع التشكيلات النظامية (مثل قوات العمليات الخاصة) لجمع المعلومات الاستخبارية والاستطلاع. ثالثاً، يمكن استخدام هذه القوات لحماية المنشآت العامة والبنية التحتية الحيوية. رابعاً، القيام بتدريب القوات العسكرية والأمنية المحلية. وعليه فقد أصبحت سوريا ساحة تدريب مهمة لفاغنر، ما ساعد موسكو على تكرار هذا النموذج في مسارح عمليات أخرى في العالم، ولاسيما في ليبيا وإفريقيا جنوب الصحراء.
وفي قارة إفريقيا، نجد أنه في جمهورية إفريقيا الوسطى، على سبيل المثال، يُقدم ما يقرب من 1890 "مدرباً روسياً" المساعدة للقوات الحكومية في خضم الحرب الأهلية المستمرة. وفي ليبيا، يُعتقد أن ما يقدر بنحو 1200 من عناصر فاغنر يعملون داخل الأراضي الليبية. وتشير التقارير أيضاً إلى تورط مقاتلين من فاغنر في كل من مالي وبوركينا فاسو، حيث يواجهون مزاعم بارتكاب انتهاكات خطرة لحقوق الإنسان. كما يعود تاريخ مجموعة فاغنر في السودان إلى حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير. وكان لبريغوجين علاقة وثيقة مع البشير، الذي سمح للشركات التابعة لفاغنر بالوصول إلى تعدين الذهب. وبعد أن أطاح الجيش السوداني بالبشير في عام 2019 وسط انتفاضة شعبية، واصلت فاغنر علاقتها الوثيقة بالجيش السوداني، ولاسيما قوات الدعم السريع بقيادة الجنرال حميدتي. وهذا يكرر نموذج المشاركة في بلدان إفريقية أخرى.
ومن المُلاحظ أن مجموعة فاغنر قامت بتوسيع نفوذها في إفريقيا من خلال شبكة من الشركات والتحالفات التي تعمل في منطقة قانونية رمادية. وما من شك أن العمل ضمن هذا الفضاء الغامض يسمح لفاغنر بطمس الخطوط الفاصلة بين الأنشطة المشروعة وغير المشروعة، مما يتيح التأثير الفعّال لرواية الإنكار التي تجيدها روسيا وبشكل معقول. وبحسبانها أداةً للنفوذ الروسي، يُنظر إلى فاغنر على أنها الممثل الروسي الأكثر نفوذاً في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث تعمل على تعزيز المصالح الروسية في المنطقتين. وعادةً ما تمتد عمليات المجموعة إلى ما وراء الجهود الأمنية، لتشمل قطاعات مثل قطع الأشجار والتعدين. وبالنسبة للحكومات الإفريقية، التي تواجه قيوداً مالية، فإنها تجد خدمات فاغنر جذابةً، حيث يتم سداد المدفوعات غالباً من خلال حقوق التعدين أو امتيازات الوصول إلى السوق. وعلى الرغم من انخراطها في الصراع الأوكراني، فقد استمرت أنشطة فاغنر الاقتصادية في إفريقيا، مما أثار المخاوف من قِبل الولايات المتحدة والدول الغربية من التأثير المُحتمل لتوسيع وجود المجموعة في المنطقة.
التأثيرات والمآلات:
إن تمرد مجموعة فاغنر بإمكانه التأثير بشكل كبير في عملياتها في الشرق الأوسط وإفريقيا. وقد يكون للاضطراب داخل هذه المجموعة تداعيات كبرى تتراوح بين تغير الديناميات الجيوسياسية وصيغ الحسابات الأمنية الوطنية والإقليمية، وذلك على النحو التالي:
1- الآثار الجيوسياسية: من المُبكر الحديث عن الآثار طويلة المدى لتمرد فاغنر على العمليات الجارية في سوريا وإفريقيا، فضلاً عن تأثيرها المُحتمل في الاستقرار الداخلي لروسيا والمشهد الأمني في إفريقيا بشكل عام. وبينما قدمت فاغنر الدعم العسكري لحكومات معينة وساعدت في احتواء الجماعات المتمردة المسلحة، فإن تمردها يثير تساؤلات حول التداعيات طويلة المدى على أمن إفريقيا. وأحد الشواغل الرئيسية هو عدم الاستقرار المُحتمل الناتج عن رحيل جنود فاغنر عن المهام الجارية. إذ يمتلك هؤلاء الجنود تدريبات وخبرات متخصصة يمكن أن تؤثر بشكل كبير في القدرات العسكرية للدول التي يدعمونها. وفي حالة جمهورية إفريقيا الوسطى، يمكن أن يؤدي انسحاب قوات فاغنر إلى إعطاء فرصة للجماعات المتمردة المسلحة لاكتساب المزيد من الأراضي وزعزعة استقرار البلاد. وينطبق السيناريو نفسه على البلدان الأخرى التي تنشط فيها فاغنر، مثل مالي وبوركينا فاسو.
2- خلق فراغات أمنية: يشير فراغ السلطة المُحتمل بعد تمرد فاغنر إلى إمكانية زعزعة الاستقرار وظهور جهات فاعلة جديدة في المناطق التي يتم فيها تقليص تأثير مجموعة فاغنر أو القضاء عليه. ونظراً لأن الحرب في أوكرانيا دفعت روسيا إلى تقليص وجودها العسكري في سوريا، فقد واجهت فاغنر أيضاً تحديات كبيرة، بما في ذلك تزايد الضغوط من الولايات المتحدة لسحب قواتها من السودان وليبيا. ولعل ذلك يثير المخاوف بشأن ما إذا كان غياب فاغنر سيخلق فراغاً، مما يسمح للفاعلين الآخرين بالدخول وقد يؤدي إلى زعزعة استقرار سريعة في مناطق مثل سوريا وليبيا. وربما ضعفت اليد الروسية في المنطقة، حيث اضطرت موسكو إلى تأخير مبيعات الأسلحة في الشرق الأوسط بسبب نقص الإمدادات الناجم عن الحرب في أوكرانيا. وفي حين أن الوجود العسكري الروسي في سوريا يتيح التدخل السريع في ليبيا ودول إفريقية أخرى، فإن الأمر يصبح أكثر صعوبةً إذا قررت موسكو حل مجموعة فاغنر. ومن المُحتمل أن تتحول فاغنر إلى هياكل مرتزقة فرعية لا يمكن السيطرة عليها وتؤسس علاقاتها الخاصة مع الحكومات المحلية، متجاهلة نفوذ موسكو.
3- إمكانية عودة عصر المرتزقة: يثير تمرد مجموعة فاغنر في روسيا ضد الرئيس بوتين بغض النظر عن نتيجته، مخاوف بشأن التطرف المُحتمل وتصدير أيديولوجية الفعل السياسي لدى المرتزقة. فهؤلاء الجنود، الذين تعرضوا للنزاعات المسلحة وشاركوا في أنشطة شبه عسكرية، قد يعيدون إنتاج خبراتهم وأيديولوجياتهم في الشرق الأوسط وإفريقيا. وقد يكون لهذا آثار سلبية على الأمن الإقليمي، حيث قد يسعى هؤلاء الجنود، ولاسيما في حالة انفصالهم عن النفوذ الروسي، إلى التخلي عن واجباتهم لمتابعة أجنداتهم السياسية الخاصة، مما يزيد من تفاقم الصراعات القائمة. وربما يعيد ذلك خبرة المرتزق الفرنسي بوب دينار، الذي اكتسب سمعة كبيرة لأول مرة في عام 1975 عندما قاد مجموعة من المرتزقة للإطاحة بحكومة جزر القمر المستقلة حديثاً. وكان هذا بداية مشاركته في السياسة القمرية، حيث قام بعد ذلك بتدبير عدة انقلابات ومحاولات انقلابات أخرى في البلاد.
4- إعادة النظر في دور الجهات غير الحكومية: يؤكد وجود مجموعة فاغنر في إفريقيا التأثير المتزايد للجهات الفاعلة غير الحكومية في تشكيل الديناميكيات الجيوسياسية في القارة. وقد تؤدي عملياتها المستقلة خارج القنوات الدبلوماسية التقليدية إلى تعقيد جهود السلام والاستقرار وتقويض الحكومات وإعاقة التعاون الدولي. وعليه من الأهمية بمكان للدول الإفريقية والمجتمع الدولي إعطاء الأولوية لتقوية الأجهزة الأمنية، وتعزيز المساءلة، وتعزيز التعاون الإقليمي لمواجهة التحديات التي تطرحها التنظيمات الفاعلة غير الحكومية. فالمشهد الأمني في إفريقيا معقد وهش، مع وجود العديد من الصراعات وحركات التمرد والتوترات الإقليمية التي تتطلب إدارةً حذرةً. وانطلاقاً من خبرة تدخل مجموعة فاغنر، فإن تدخل الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل الشركات الأمنية الخاصة يضيف مزيداً من التعقيد إلى وضع مُعقد بالفعل.
في الختام، وفي ضوء هذه التداعيات، يكون من الأهمية بمكان أن تتخذ الدول المعنية والمنظمات الإقليمية والمجتمع الدولي إجراءات حاسمة. إذ يتعين على الدول المُتعاقدة مع مجموعة فاغنر إعطاء الأولوية لتقوية أجهزتها الأمنية، والاستثمار في قدرات دفاعية قوية، وبناء قوات مسلحة كفؤة وخاضعة للمساءلة. ويشمل ذلك تطوير آليات جمع معلومات استخبارية فعالة، وتعزيز قدرات مكافحة الإرهاب، وتحسين أمن الحدود لمنع تسلل العناصر المتطرفة.
وفي هذه الحالة، يمكن أن تقوم المنظمات الإقليمية مثل الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي بدور حاسم في تعزيز السلام والأمن والاستقرار الإقليمي. كما ينبغي العمل لتطوير استراتيجيات شاملة تعالج الأسباب الجذرية للنزاعات، وتسهيل الحوار بين الأطراف المتصارعة، وتعزيز التنمية المستدامة لمعالجة المظالم ومنع ظهور الأيديولوجيات المتطرفة. بالإضافة إلى ذلك، ثمة حاجة إلى زيادة التنظيم والرقابة على الشركات الأمنية الخاصة العاملة في الشرق الأوسط وإفريقيا، ووضع مبادئ توجيهية وآليات واضحة لضمان التزام أنشطتها بالقانون الدولي الإنساني ومعايير حقوق الإنسان. كما يجب تعزيز الشفافية والمساءلة لمنع الانتهاكات والأعمال غير المصرح بها واستغلال الموارد الوطنية.