اضطر المحقق العدلي، طارق بيطار، في 12 أكتوبر الجاري إلى الإعلان عن تعليق التحقيق القضائي في انفجار مرفأ بيروت، وذلك للمرة الثالثة، بسبب قيام وزيرين سابقين بتقديم دعوى قانونية جديدة ضده تطالب بنقل القضية إلى قاضٍ آخر، وذلك بعد إصداره مذكرة توقيف غيابية بحق أحد الوزيرين السابقين لتخلفه عن حضور جلسة استجواب كانت محددة في يوم التعليق ذاته.
وعلى الرغم من إعلان محكمة التمييز في 14 أكتوبر رفضها الشكوى المقدمة ضد قاضي التحقيق، وسمحت له باستئناف تحقيقه، فإن بيطار لا يزال يتعرض لضغوطات كبيرة من قبل حزب الله، نظراً لإصداره أوامر اعتقال بحق وزراء سابقين مقربين من حزب الله وحركة أمل، بمن فيهم علي حسن خليل، الشخصية القيادية في حركة أمل.
رفض تام من حزب الله
جاءت التطورات الأخيرة التي شهدتها لبنان مؤخراً لتمثل تغيراً نسبياً في آليات التحرك من قبل حزب الله، حيث عكست هذه المتغيرات أن الضغوطات التي يمارسها الحزب لعرقلة مسار التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت لم تعد قاصرة على التصريحات والانتقادات الخطابية على المنابر الإعلامية فقط، بل دخلت في مرحلة التهديدات الصريحة لكل من الحكومة وقاضي التحقيق العدلي، وصولاً إلى دفع أنصاره للنزول للشارع، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- التهديد بالانسحاب من الحكومة: لوّح حزب الله وحركة أمل بإمكانية تعليق الثنائي الشيعي و"المردة" مشاركتهما في الحكومة، حال الإصرار على استكمال المحقق بيطار للتحقيق. وقد جاء ذلك التهديد عقب إعلان مسؤول لبناني تأجيل الحكومة اللبنانية جلستها المخصصة لبحث التحقيق في انفجار مرفأ بيروت في 12 أكتوبر.
وأشارت مصادر أخرى إلى انعقاد اجتماع مجلس الوزراء اللبناني، حيث طلب وزراء حزب الله وحركة أمل الحكومة اللبنانية إلى إقالة القاضي. وهناك مخاوف من أن يتسبب حزب الله في شلل الحكومة اللبنانية عبر إصراره على إزاحة بيطار كشرط لانعقاد أي جلسة لمجلس الوزراء، وهو ما قد يتمخض عنه سقوط الحكومة الجديدة بفعل الفيتو الطائفي والثلث المعطل، حيث يستحوذ حزب الله وحركة أمل بمقاعد جميع الوزراء الشيعة، بإجمالي 6 وزراء شيعة ووزيرين لتيار المردة ووزيرين مقربين من الحزب من ضمن حصتي عون وميقاتي.
ولا يعد تهديد حزب الله بإقالة الحكومة بالأمر الجدي، إذ إن هذا الأمر سوف يحوّلها إلى حكومة تصريف أعمال، والتي غالباً ما سوف تدير البلاد، حتى انعقاد الانتخابات البرلمانية في موعدها مطلع العام القادم، كما أن أي محاولة من جانب حزب الله لتشكيل حكومة خاضعة له بشكل كامل يعني أن هذه الحكومة لن تحصل على الدعم الاقتصادي من المؤسسات الدولية، كما أنها سوف تتحمل بالكامل مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وهو الأمر الذي سوف يؤثر بلا شك على شعبية حزب الله، والأحزاب السياسية المرتبطة به في الانتخابات القادمة.
2- المطالبة بعزل قاضي التحقيق: هاجم زعيم حزب الله، حسن نصر الله، بشكل صريح، في 11 أكتوبر الجاري، أثناء كلمة تلفزيونية له، قاضي التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، حيث وجه له تعليقاً على عمله في التحقيق وحصره في التعرف على المتسبب في الانفجار فقط، من دون الخوض في ملف الإهمال الوظيفي، الذي اتهمه نصر الله بأنه يهدف إلى تصفية حسابات سياسية من خلال هذا الملف، فيما أعلن نصر الله صراحة ضرورة إزاحة القاضي في قضية انفجار مرفأ بيروت، واستبداله بآخر تحت ذريعة أن التحقيقات مسيسة وتستهدف الحزب بشكل مباشر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحكومة اللبنانية ومجلس القضاء الأعلى لا يستطيعان من الناحية القانونية عزل القاضي بيطار من منصبه كمحقق عدلي، من دون استخراج حكم من المحكمة بذلك. ويبقي الخيار الآخر هو عرقلة عمله من خلال منعه من ملاحقة بعض الشخصيات، فقد منع مجلس الدفاع الأعلى القاضي من ملاحقة اللواء طوني صليبا، مدير عام جهاز أمن الدولة؛ الذي كان القاضي يوجه له الاتهام بالتقصير والإهمال الوظيفي.
3- توظيف الشارع للإطاحة بـ "بيطار": دفعت تطورات الأحداث في لبنان، بالثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل إلى دعوة أنصارهما في 13 أكتوبر الجاري، للنزول للشارع والتظاهر في محاولة للضغط على الأطراف المختلفة والتلويح بورقة العنف، لاستكمال سيناريو إزاحة القاضي البيطار.
وشهدت منطقة الطيونة في 14 أكتوبر الجاري، أعمال عنف واستخدام الرصاص والقذائف، وذلك على أثر تظاهرات نفذها مناصرون لميليشيات حزب الله وحركة أمل، حيث احتشد مناصروهم أمام قصر العدل في بيروت للمطالبة بتنحية بيطار، ولكن سرعان ما تدهورت الأمور أمنياً، ووقعت اشتباكات بالرصاص والقذائف، فيما انتشر مسلحو حزب الله وأمل في الشوارع والطرقات للاستعراض بأسلحة ثقيلة.
وفي هذا الصدد، تمخض عن الاحتكاكات بين أنصار الثنائي الشيعي، وشباب عدة أحياء مسيحية دخلوا إليها، وبينهم مناصرون لحزب "القوات اللبنانية" وأحزاب مسيحية أخرى، عن سقوط 7 قتلى وأكثر من 30 جريحاً، غالبيتهم من حزب الله، بينما اعتبر البعض أن أحداث الطيونة كانت بمنزلة استعراض حي للحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، خاصة مع وقوعها في أماكن خطوط التماس نفسها التي كانت ساحات قديمة للصراع بين المسلمين والمسيحيين.
واتهم كل من حزب الله وحركة أمل، في بيان مشترك، حزب القوات اللبنانية بالقيام بـالاعتداء المسلح على عناصرهما، حيث زعم البيان انتشار مجموعات من حزب القوات اللبنانية في الأحياء المجاورة وعلى أسطح البنايات ومارست عمليات القنص المباشر للقتل المتعمد، مما أوقع هذا العدد من الشهداء والجرحى. وتوعد نائب في البرلمان اللبناني ينتمي لحزب الله في 17 أكتوبر 2021، بمحاسبة من حرض وخطط وأطلق النار في الأحداث التي وقعت في منطقة الطيونة في تهديد ضمني لـ "القوات اللبنانية".
مواقف داخلية ودولية مناوئة:
في مواجهة التصعيد من قبل حزب الله وحركة أمل، فإن رئيس الوزراء وحزب القوات اللبنانية والكتائب، وكذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أدانت تحركات حزب الله، وتبنت المواقف التالية:
1- تأييد نجيب ميقاتي البيطار: أصدر مكتب رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، بياناً عقب مواجهات الطيونة أكد خلاله أن الحكومة حريصة على عدم التدخل في أي ملف يخص القضاء، في مؤشر على دعم بيطار، وهو ما يعني رفض ضغوط حزب الله.
2- مهاجمة القوات والكتائب حزب الله: وجه رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، مسؤولية تفاقم العنف إلى لحزب الله؛ بسبب التظاهرات التي دعا إليها حزب الله، وفوضى السلاح المنفلت الذي يمتلكه الحزب.
وشن جعجع هجوماً على الرئيس اللبناني ميشيل عون، حليف حزب الله، متهماً إياه بالتماهي مع اتهامات الحزب، وهو ما يعكس استمرار الصراع بين جعجع وعون على الفوز بتمثيل الشارع المسيحي قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة.
ومن جانب آخر، اعتبر رئيس حزب الكتائب، سامي الجُميل، عبر حسابه على "تويتر"، ما يقوم به حزب الله وحلفاؤه هو بمنزلة محاولة اغتيال مكشوفة للعدالة والقضاء وما تبقى من دولة لبنان في انتقاد صريح للحزب على محاولته إقالة بيطار.
3- دعم التيار الوطني الحر التحقيقات: قدم جبران باسيل، زعيم التيار الوطني الحر، القوة المسيحية الرئيسية في البرلمان وحليف حزب الله القوي، دعماً ضمنياً للقاضي، إذ أكد أن: "التيار الوطني الحر مع استمرار التحقيق والكشف عن الحقيقة وتقديم المسؤولين إلى العدالة". كما أعرب وزير العدل اللبناني، هنري خوري، المنتمي للتيار الوطني الحر، بدوره عن دعمه للقاضي، قائلاً إنه يحق له استدعاء أي شخص. ويؤشر هذا الموقف إلى وجود تباين بين التيار الوطني الحر وحزب الله حول هذه القضية.
4- دعوات دولية لاستكمال التحقيق: دعت العواصم العربية والدولية المختلفة إلى تهدئة التوترات في بيروت، عقب أحداث منطقة الطيونة، وكررت الولايات المتحدة في 16 أكتوبر دعواتها إلى الهدوء في لبنان. وطالبت واشنطن بأن يكون القضاة اللبنانيون "في مأمن من التهديدات" وعمليات الترهيب التي يمارسها حزب الله ضدهم.
كذلك، جدد الاتحاد الأوروبي في 15 أكتوبر 2021، من خلال بيان لبعثة الاتحاد الاوروبي في لبنان، تأكيده ضرورة استكمال التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت في أسرع وقت ممكن، على أن يتم بمصداقية وشفافية واستقلالية، كما حملت البعثة السلطات اللبنانية مسؤولية تمكين استمرار التحقيق، من خلال تأمين كل الموارد البشرية والمالية الضرورية له، فيما حثت البعثة، جميع الأطراف والقادة على التزام أقصى درجات ضبط النفس لتجنب المزيد من الخسائر في الأرواح، كما دعتهم البعثة إلى التصرف بهدوء ومسؤولية لمنع تصاعد العنف في ظل الأزمات المتشابكة التي تعاني لبنان.
وفي الختام، تكشف مواقف رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، وأغلب الأحزاب المسيحية عن رفضها ضغوط حزب الله، وهو ما يعني أن الأخير قد يتجه لاتخاذ إجراءات تصعيدية أخرى، في ضوء وجود مؤشرات على إخفاق هذه الجولة من التصعيد من جانب الحزب في عرقلة التحقيق في تفجير مرفأ بيروت.