أعلن المتحدث باسم مجلس النواب الليبي، عبدالله بليحق، يوم 21 سبتمبر الجاري، سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، بأغلبية 89 نائباً من إجمالي 113 حضروا الجلسة، على أن تستمر الحكومة في أداء مهمتها حتى عقد الانتخابات العامة المقررة في 24 ديسمبر2021 كحكومة تصريف أعمال. وأثارت هذه الخطوة من قِبل البرلمان جدلاً كبيراً في الأوساط الليبية حول جدواها وتوقيتها، وتداعياتها المُحتملة على استكمال استحقاقات خريطة الطريق. ومع تبقي أقل من 100 يوم على موعد الانتخابات المقبلة، يؤشر سحب الثقة من حكومة عبدالحميد الدبيبة، وغيرها من تطورات المشهد الانتخابي وتفاعلات أطراف الأزمة، على أن خطر عرقلة هذه الانتخابات مازال يلوح بالأفق، والوصول لصناديق سيكون استحقاقاً بالغ الصعوبة.
مخاض ديمقراطي عسير:
على الرغم من توافر الإرادة الشعبية لإجراء الاستحقاق الانتخابي في ليبيا، وهي المطلب الرئيسي لهكذا إجراءات، فإن الوصول لصناديق الاقتراع في 24 ديسمبر القادم يستدعي جهداً متزامناً من الفاعلين كافة بالداخل والخارج، لإتمام إجراءات المسار الانتقالي، وفي مقدمتها إعداد القاعدة الدستورية والقوانين المُنظمة للانتخابات، وتوفير المتطلبات اللوجستية والفنية اللازمة لعمل المفوضية الانتخابية، بالإضافة إلى تهيئة البيئة الأمنية الضرورية لضمان تأمين الناخبين وعمل لجان التصويت. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تصاعد العديد من الإشكاليات المهددة بتعثر مسار الانتخابات الليبية، ومنها الآتي:
1- تأخر إقرار القاعدة الدستورية: يثير فشل ملتقى الحوار السياسي (لجنة الـ 75) في إقرار قاعدة دستورية، المخاوف من تعطيل الاستحقاق الانتخابي، لاسيما باستمرار الجدل والخلاف حول المقترحات، أو توصل الملتقى لقاعدة تتعارض وما أقره مجلس النواب بالقانون رقم (1) لسنة 2021 بشأن انتخاب الرئيس. وعليه، فإن هذا التأخير، بالرغم من إمكانية تجاوزه عبر مجلس النواب أو المجلس الرئاسي، يظل إشكالية مُهددة بعرقلة المسار الانتخابي، ويفتح الأبواب أمام احتمالات الطعن بعدم دستورية الاستحقاق ونتائجه مستقبلاً.
2- عرقلة التشريعات الانتخابية: تسعى جماعة الإخوان وأذرعها في ليبيا إلى عرقلة إقرار القوانين الانتخابية، حيث رفض خالد المشري، رئيس مجلس الدولة، إصدار مجلس النواب قانون انتخاب الرئيس؛ باعتبارها خطوة أحادية تنتقص من صلاحيات مجلسه، من وجهة نظره، داعياً البعثة الأممية لرفض القانون، ومطالباً المحكمة العليا بالفصل بعدم دستوريته. كما أعلن القيادي بالجماعة وعضو ملتقى الحوار، عبدالرزاق العرادي، انسحابه من الملتقى اعتراضاً على إصدار البرلمان القانون ذاته، داعياً هو الآخر البعثة الأممية لرفضه وتصحيح الإجراءات المتخذة. وتبدو تلك المساعي أكثر تهديداً للاستحقاق الانتخابي، إذ تعني حال تحققها تعطيل العملية التشريعية والانتخابات، ما يهدد بفشل العملية الانتقالية ككل ونشوب دورات صراعية جديدة، أو خروج التشريعات بصيغة مفرغة المضمون لا تحقق الاستقرار المؤسسي المرجو من الانتخابات.
3- احتمالات الارتدادات الأمنية: تعتبر المواجهات الميدانية التي تنشب بين المجموعات المسلحة بالمنطقة الغربية في ليبيا، والأعمال التخريبية التي ارتكبها المرتزقة السوريون بمحيط تمركزاتهم في طرابلس، بالإضافة إلى الهجمات الإرهابية المتواترة التي تشنها خلايا تنظيم داعش بالجنوب الليبي، ناقوس خطر ينذر بخطورة وقوع حوادث تهدد سلامة العملية الانتخابية، أو تؤدي إلى تعطيلها في بعض المناطق بشكل تام. ومن المُرجح توظيف تلك المشاهد للتأثير على سير الاستحقاق، لاسيما بالمناطق التي تتمركز فيها عناصر مسلحة مرتبطة بقوى سياسية تستشعر ضرورة عرقلة الانتخابات لفرض أجندتها، أو المساومة لحصد ضمانات تحفظ نفوذها المهدد بالتلاشي.
مُحفزات التعقيد:
توافق الفاعلون بالأزمة الليبية في البداية على الاحتكام للصناديق حين اعتمدت خريطة الطريق، ولكن هذا التوافق لم يترجم بصورة واضحة في تحركاتهم، بل أصبح في الوقت الراهن مثالاً واضحاً على تداخل مُعرقل للانتخابات، ومن أبرز العوامل المُحفزة لهذا التعقيد ما يلي:
1- بلوغ صدام المؤسسات الليبية ذروته: اتخذت خلافات المؤسسات المنوطة بقيادة ليبيا نحو الانتخابات منحى خطيراً، حيث أصدر مجلس النواب قراراً بحجب الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية في 21 سبتمبر الجاري. فيما أعلن الدبيبة رفضه لهذا القرار، داعياً إلى التظاهر بميدان الشهداء بالعاصمة يوم الجمعة 24 سبتمبر ضده. وبذلك بلغت مواجهة السلطات التنفيذية والتشريعية ذروتها، وهو ما يمهد لاستقطاب حاد وينذر بتكريس الانقسام مجدداً، كما يتيح لمعرقلي الانتخابات توظيف هذا المشهد لتحقيق مآربهم المُعطلة للانتقال الليبي. علاوة على ما يمثله هذا الصدام من تهديد لأعمال الكيانات الأكثر انخراطاً في الانتخابات، وفي مقدمتها المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، التي يُرجح أن تتأثر أنشطتها بما يجري، وسينعكس ذلك بالتأكيد على العملية الانتخابية. ناهيك عن تداعيات ذلك الصدام على تماسك اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا، وخطورة الارتداد عنه إذا ما استشعرت الميليشيات أنها قد تكون فرصتها الأخيرة لإسقاط خريطة الطريق.
2- التنافس على تأمين النفوذ في الداخل: تحاول القوى الليبية المتنافسة توظيف ما تمتلكه من مصادر النفوذ والتأثير، مثل الروابط الاجتماعية والنفوذ السياسي والقدرات الاقتصادية، لتوسيع شبكة تحالفاتها مع القبائل والمكونات الاجتماعية والمناطقية؛ لتعزيز حظوظها في حسم الانتخابات. وهذا ما يرتبط بتفعيل قرارات الإفراج عن رموز النظام السابق، ورفع الحراسة القضائية عن أموال العديد منهم، ويُفسر كصفقات رامية لضمان أصوات مؤيدي نظام القذافي بالانتخابات القادمة. أضف إلى ذلك أن بعض تلك التحركات تمهد لتشكيل جبهات جديدة لترسيم مرحلة ما بعد 24 ديسمبر المقبل، إذا جرت الانتخابات؛ كونها ستبلور المعسكرات المتواجهة بمرحلة ستكون أكثر صداماً وتعقيداً.
3- رغبة الإخوان في تلافي السقوط: تدرك جماعة الإخوان في ليبيا أن رصيدها بالشارع بلغ أدنى مستوياته، وخوضها الانتخابات بتلك الحالة المتراجعة يعني سقوط المعقل الأخير للتنظيم في شمال أفريقيا. وتستهدف الجماعة أحد أمرين؛ أولهما، الضغط على الأطراف الراغبة في الذهاب للانتخابات وإنجاحها، من أجل الحصول على ضمانات أو عقد صفقات تحفظ لها النفوذ والتأثير فيما بعد 24 ديسمبر القادم. وثانيهما، تعطيل الاستحقاق أو إسقاطه، حال استحالة فرصتها للبقاء في المشهد بالتأثير ذاته. ونجد أن تحركات الإخوان منذ البداية تسير بهذا الاتجاه، حيث رفضت إجراء انتخابات قبل الاستفتاء على الدستور، ثم تمسكت باختيار الرئيس عبر مجلس النواب المنتخب بشكل غير مباشر، بجانب عرقلة عناصرها جهود توافق ملتقى الحوار حول قاعدة دستورية، ووصولاً إلى رغبة مجلس الدولة في تعطيل إقرار القوانين الانتخابية، والتلويح برفض نتائج الانتخابات والعودة إلى توظيف المواجهات الميدانية.
4- السيولة الأمنية في الغرب: تمثل التحركات الميدانية غير النظامية، التي تحاول المجموعات المسلحة عبرها تحصيل سيطرة ونفوذ أكبر بالمشهد الليبي، أحد أبرز أسباب تعقيد المسار الانتخابي؛ إذ بدأت هذه المجموعات في التلويح برفضها الانتخابات حال عدم إقصاء الأطراف التي خاضت مواجهات ضدها، فضلاً عن رموز وأنصار النظام السابق. كما تُعد المواجهات التي اندلعت مؤخراً بالمنطقة الغربية، بين الوحدات التابعة للمجلس الرئاسي ورئاسة أركان حكومة الوحدة الوطنية، استعراضاً للقوة ومحاكاة لما يمكن أن تقدم عليه حال أسفرت الانتخابات عن نتائج في غير مصلحة القوى السياسية المتحالفة معها.
5- استمرار وجود القوات الأجنبية والمرتزقة: يُضاف إلى ما سبق، عدم اتخاذ إجراءات حاسمة في ملف خروج القوات الأجنبية والمرتزقة، وعمليات نقل تلك العناصر بين القواعد التي تسيطر عليها تركيا في ليبيا، حيث كشفت تقارير عن نقل أعداد منهم من قاعدة الوطية إلى قاعدة معيتيقة، وهو ما يعني وجود أدوار مستقبلية منظورة لهم في المرحلة المقبلة. علاوة على احتمالات إثارتهم لاضطرابات بالمناطق المتاخمة لمعسكراتهم، كما حدث حين تظاهروا داخل كلية الشرطة بطرابلس في يناير2021، ثم خرجوا بتظاهرات وأعمال تخريبية بمحيط معسكر "اليرموك" بالعاصمة في أغسطس الماضي؛ اعتراضاً على تخفيض رواتبهم وانقطاع التمويل عنهم لعدة أشهر، أي أنهم قد يخرجون عن السيطرة ذاتياً أو مدفوعين، ما سيقود إلى اضطرابات أمنية قد تعطل سير الانتخابات.
احتمالات ثلاثة:
في ضوء ما سبق، يقودنا استشراف مستقبل الانتخابات الليبية المرتقبة نحو ثلاثة مسارات مُحتملة، وهي:
1- عقد الانتخابات العامة في 24 ديسمبر المقبل، واستكمال استحقاقات خريطة الطريق الأممية في توقيتاتها. ويرتبط هذا المسار بتجاوز الأطراف الليبية خلافاتها، أو وجود ضغوط شعبية ودولية تُعدل من سلوكها، ما يعزز من فرصة إجراء الانتخابات العامة (رئاسية وبرلمانية) بموعدها المقرر في نهاية العام الجاري.
2- تعديل خريطة الطريق وتأجيل الاستحقاق الانتخابي، ويتصل ذلك الاحتمال بنجاح الأطراف المُعرقلة في مساعيها، أو الوصول لذروة التأزم وبوادر نشوب مواجهات ميدانية، وبالتالي يحدث توافق (صفقة) على تعديل الإطار الزمني للانتخابات في ليبيا؛ تلافياً للإسقاط التام لخريطة الطريق، واندلاع جولة ميدانية جديدة غير محسومة التداعيات. وقد طرحت تصريحات أمريكية فكرة إقامة الانتخابات على جولتين، تبدأ في ديسمبر المقبل وتنتهي في سبتمبر 2022، ما يشير إلى وجود احتمال قائم بالذهاب لهذا الخيار.
3- إسقاط خريطة الطريق، وهذا متوقف على مستوى رغبة وقدرة القوى الليبية المتنافسة على تدشين جولة صراعية جديدة، ومدى قبول الأطراف الدولية المنخرطة في الأزمة حدوث ذلك الارتداد. ويبقى ذلك احتمالاً قائماً حال استمرار الانسداد السياسي، وفشل الأجسام السياسية في الوصول إلى توافق يتيح استكمال استحقاقات الخريطة، أو استمرار الوضع الراهن في أصعب الظروف.
وفي النهاية، يمكن القول إن الانتخابات العامة الليبية، بالرغم من أهميتها والزخم الداعم لعقدها، تواجه إشكاليات وعراقيل بالغة التعقيد، ومن المُرجح ألا تنجح الجهود الرامية لإجرائها وفقاً لآجال خريطة الطريق، حال استمرار تلك العقبات المُعطلة لمسارها بذات النسق.