تصاعدت حدة التوتر الدبلوماسي بين بغداد وأنقرة على خلفية مقتل ضابطين وجندي من قوة حرس الحدود العراقية بالتزامن مع تصعيد عسكري تركي بزعم استهداف مواقع لانتشار عناصر من حزب العمال الكردستاني في 11 أغسطس الجاري. ويعد هذا الحادث هو الأبرز من نوعه مقارنة بحوادث التصعيد المماثلة في السنوات الأخيرة التي غالباً ما يتم احتوائها عبر القنوات الدبلوماسية بين البلدين. وفي حين لا تتوقف بيانات الإدانة العراقية للسياسة التركية تجاه بغداد، لاسيما في أعقاب عمليات التوغل العسكري التي تزايدات وتيرتها بشكل ملحوظ منذ عام 2015 بدعوى المشاركة في الحرب ضد تنظيم "داعش" وملاحقة عناصر حزب العمال، فإنه لا توجد مؤشرات على تغير في رد الفعل العراقي خلال المرحلة الحالية.
مفارقة لافتة:
يعكس هذا السياق المفارقة اللافتة في الوجود العسكري التركي في العراق، حيث التفرقة بين هذا الوجود من جهة وتداعياته من جهة أخرى، أو تداعيات النشاط العسكري التركي على الحدود المشتركة. إذ يتم التركيز غالباً من الجانب العراقي على التداعيات، عندما تقع حوادث مماثلة، بينما لا تثار قضية الوجود العسكري إلا في حالات معينة أبرزها التوغل خارج حدود مناطق الوجود المعروفة، فهناك 8 قواعد عسكرية معلنة بها ما يقرب من 3 آلاف عسكري، وتضم نحو 17 معسكراً، إضافة إلى أربعة مقرات للاستخبارات العسكرية التركية.
وربما يعود ذلك إلى طبيعة القضية الكردية وتطوراتها في إطار العلاقات التركية مع أكراد العراق، فهناك وجود عسكري تركي منذ عام 1995 في شمال العراق، وبالتالي تشير اتجاهات عديدة، وفقاً لهذه المقاربة، إلى أن هناك قبولاً ضمنياً بهذا الوجود في المناطق الكردية بدون ترتيبات من جانب السلطة المركزية التي تركت ذلك لحكومة إقليم كردستان. لكن ما يثير الخلاف هو محاولات التسلل التركي في المناطق الأخرى سواء خارج الإقليم كالموصل، أو على حدوده مثل كركوك، وقد وصل عمق هذا التوغل إلى 40 كلم في بعض المناطق.
روايات متناقضة:
هناك أكثر من رواية للحادث. فالرواية الرسمية العراقية تشير إلى تعرض المركبة التي كانت تقل الضباط إلى هجمة لطائرة من دون طيار في منطقة برادوست بإقليم كردستان، بينما تؤكد الرواية الكردية المنسوبة لإحسان شلبي رئيس بلدية سيدكان شمال أربيل، أن الهجمة التركية استهدفت قيادات في سلاح حرس الحدود العراقي فيما كانوا يعقدون اجتماعاً مع مقاتلين في حزب العمال الكردستاني. وهناك رواية ثالثة أفادت بأنه بالفعل تم استهداف الاجتماع الذي انعقد رداً على محاولة ضباط عراقيين احتواء تصعيد في المنطقة.
وتعكس هذه الروايات أكثر من مؤشر، منها، على سبيل المثال، أنه لا توجد آلية تنسيق مشتركة بين الحكومة الاتحادية وأنقرة فيما يتعلق بإدارة أمن الحدود، الأمر الذي يثير على الدوام قضية الحدود الرخوة في العراق ليس فقط على صعيد الحدود مع تركيا وإنما أيضاً مع أغلب دول الجوار.
وهناك مؤشر آخر تكشف عنه رواية المسئول المحلي الكردي، وهو أن الجانب الكردي يتبنى وجهة النظر التركية بشكل استباقي، وهو سياق متوقع في ظل العلاقات الثنائية بين كردستان وأنقرة، لكن هذه الرواية، على وجه التحديد، تعتمد على أن هناك شكوكاً كردية – تركية في وجود علاقة بين قوات حرس الحدود وعناصر حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي يتوقع معه أن يضيف عبئاً جديداً على العلاقات بين أنقرة والحكومة الاتحادية.
حدود الرد:
لا يرجح أن يتجاوز سقف رد الفعل العراقي حدود السوابق المماثلة، إذ اقتصر الأمر على التصعيد الدبلوماسي على الجانبين، لكنه كان الأعلى هذه المرة بالنظر لوقوع ضحايا من العسكريين، حيث تم إلغاء زيارة كانت مقررة في 13 أغسطس الجاري، لوزير الدفاع التركى خلوصى آكار، وهى زيارة كان ينظر إليها على درجة من الأهمية لترتيب الملفات العالقة على الجانبين.
وتلمح تقارير محلية إلى وجود صلة للحادث بهذه الزيارة، كما جرى استدعاء السفير التركي لدى بغداد للاحتجاج على الحادث، وهو الإجراء التقليدي، حيث أشارت تلك التقارير إلى أنها المرة الثالثة من نوعها في غضون الشهرين الأخيرين، في مؤشر آخر على كثافة مثل تلك الحوادث التي كانت تجري على فترات متباعدة. كذلك كررت العراق الشكوى للجامعة العربية وأجرت اتصالات بالعديد من الدول العربية، وكلها تحركات تدل على محدودية أثر الردع الدبلوماسي من جانب بغداد.
ومن المستبعد تحول معادلة الاشتباك الدبلوماسي إلى معادلة الاشتباك العسكري، بالنظر إلى العديد من المتغيرات، منها أن ميزان الردع العسكري يميل إلى الجانب التركي، خاصة في ضوء الوضع الحدودي، حيث أن هناك نشاطاً واسعاً لطائرات من دون طيار تركية، كما أن القواعد العسكرية التركية تتضمن أسلحة ثقيلة ومنظومات دفاعية مختلفة المدى، والتي تدل على بنية عسكرية لوجود دائم تجاوز الربع قرن لا يتعلق فقط بمجرد المواجهة مع حزب العمال الكردستاني. كذلك فإن الواقع السياسي العراقي في المرحلة الانتقالية الحالية ربما يشكل ورقة أخرى لصالح تركيا.
انعكاسات عديدة:
هناك انعكاسات عديدة لهذه الأزمة، لكن الانعكاس المباشر يتعلق بالمردود السياسي للحادث على الحكومة العراقية الانتقالية. فرئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، الذي يركز على عملية إعادة الاعتبار لفكرة السيادة، يجد نفسه في مأزق أمام هذا التطور، خاصة في ظل عدم وجود عائد للتحركات الدبلوماسية، لاسيما في إطار مقاربة أخرى تتعلق بإيران، فإذا كانت فكرة السيادة توجه الأنظار نحو إيران مباشرة، فإن ذلك لا ينفي أهمية عدم إغفال أن تركيا تحتل مواقع عراقية، وبالتالي أصبح الكاظمي في حاجة للجوء لآليات بديلة أكثر تأثيراً، أو البحث عن أوراق ضغط أخرى.
في النهاية، أعاد حادث برادوست تسليط الضوء مجدداً على واقع الوجود التركي في العراق، وما يثيره من خلل في التوازنات الداخلية والخارجية، في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي في العراق، لصالح تركيا، ما يفسح لها الطريق أكثر أمام التمدد داخل العراق، خاصة مع غياب أدوات الردع الفعّالة. إلا أن الحكومة العراقية يظل أمامها فرصة في مراجعة ملف أمن الحدود والدخول فى ترتيبات أمن جديدة على غرار ما يجري مع الولايات المتحدة الأمريكية.