تصاعد اتجاه في الدول الأوروبية يطالب بسحب الجنسية عن الإرهابيين مزدوجي الجنسية، وهو ما يرتبط بقيام الحكومة البريطانية مؤخرًا بنزع جنسيتها عن "شاميما بيجوم" المعروفة إعلاميًّا باسم "عروس داعش" التي كانت قد سافرت وهي قاصر إلى سوريا قبل أربع سنوات، وتزوجت من مقاتل في التنظيم يحمل الجنسية الهولندية، ورفضت لندن طلب "بيجوم" بالعودة هي وطفلها حديث الولادة للبلاد. وتصاعد الجدل حول هذه القضية، حيث يرى البعض أنها آلية فعالة لإنهاء تهديدات المقاتلين العائدين من دول الصراعات، فيما يؤكد البعض أن هذا الإجراء يعني إرسال التهديدات إلى دول أخرى، وتخلي الدول الأوروبية عن دورها في تحقيق الأمن العالمي.
اتجاه متصاعد:
تزايد قيام عدة دول أوروبية بنزع الجنسية عن بعض مواطنيها بسبب انخراطهم في تنظيمات إرهابية. فعلى سبيل المثال، قرر القضاء البلجيكي سحب الجنسية من أي شخص يصدر ضده حكم بالسجن لمدة تزيد عن 5 سنوات في قضية متعلقة بالإرهاب. وفي هذا الإطار، تم تجريد "ملكية العرود" المعروفة إعلاميًّا بالأرملة السوداء في نوفمبر 2017. وفي أكتوبر 2018 صدر قرار بسحب الجنسية البلجيكية من "فؤاد بلقاسم" الزعيم السابق لجماعة "الشريعة من أجل بلجيكا" والمدان بتهمة تزعم خلية سلفية متطرفة، وتجنيد الشباب وإرسالهم للقتال في صفوف جماعات جهادية في سوريا.
وقامت بريطانيا وحدها بإلغاء جنسية نحو 150 شخصًا منذ عام 2010، وتبعتها دول أوروبية أخرى. وفي فرنسا قدمت الحكومة في مطلع عام 2016 مقترحًا ينص على سحب جواز السفر الفرنسي من الأشخاص المرتبطين بتنظيمات إرهابية، مع ترحيلهم من الأراضي الفرنسية.
وفي هذا السياق، صادق المجلس الدستوري الفرنسي على قرار سحب الجنسية من الفرنسي من أصل مغربي "أحمد سحنوني" في مايو من عام 2014 بتهمة الانخراط في شبكات إرهابية.
كما أقرت كل من ألمانيا وأستراليا وبلجيكا وكندا وهولندا وسويسرا، بدءًا من سنة 2015، سلسلة إجراءات وقوانين تفتح الباب أمام سحب جنسية رعاياها المنضمين إلى تنظيمات إرهابية لقطع الطريق أمام عودتهم إلى بلدانهم. أما هولندا فقد نزعت جنسيتها عن 7 أشخاص حتى نهاية عام 2017، واستندت السلطات آنذاك إلى قانون أُقر في بداية عام 2017 ويمنح الحكومة سلطة سحب الجنسية الهولندية من المقاتلين الذين يحملون جنسيتين حتى لو لم تتم إدانتهم بالإرهاب.
تأثيرات سلبية:
من جانب آخر، انتقد البعض هذه الإجراءات، حيث رأوا أنه ستكون لها تأثيرات سلبية على المجتمعات الأوروبية، فيما أيدها بعضهم وهو ما يمكن استعراضه فيما يلي:
1- الإرهابيون مزدوجو الجنسية: أيدت قوى اليمين في أوروبا هذه الآلية، ولا سيما بعد تصاعد عدد الإرهابيين من مزدوجي الجنسية الذين كثيرًا ما يتم استقطابهم من جانب المجموعات الإرهابية، وإقناعهم بالعودة إلى دولهم الأصلية بهدف زرعهم كخلايا نائمة قد تقوم بعمليات إرهابية مستقبلية، ومن ثم يؤكد البعض أن هذه القرارات لا تمس سوى المقاتلين الأجانب مزدوجي الجنسية لدفعهم إلى الرحيل إلى بلدانهم الأصلية.
بعبارة أخرى، يرى مؤيدو هذه السياسات أن نزع الجنسيات الأوروبية هو الحل الوحيد للخروج من أزمة عودة المقاتلين الأجانب، ويعبر عن هؤلاء رئيس الوزراء الفرنسي السابق "مانويل فالس" الذي أكد في يناير 2016 أن الحكومة لن تتراجع عن قرارها بالعمل على إدراج بند في الدستور لإسقاط الجنسية الفرنسية عن مزدوجي الجنسية المدانين في قضايا الإرهاب، بل وأشار إلى احتمال توسيع نطاق تنفيذه ليشمل المولودين في فرنسا.
وعلى صعيد متصل، يفضل أنصار هذا الاتجاه أن تتم محاكمة مقاتلي الجماعات الإرهابية المتطرفة في أماكن ارتكابهم لجرائمهم الإرهابية، ولا سيما في ظل التخوفات من عدم توفر أدلة كافية لمقاضاتهم في المحاكم الأوروبية الوطنية بسبب البعد الجغرافي عن أماكن ارتكاب تلك الجرائم.
2- معارضة اليسار الأوروبي: في المقابل، يعارض فريق آخر التجريد من الجنسية كآلية لمكافحة الإرهاب انطلاقًا من أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد الحق في امتلاك الجنسية، كما تحظر اتفاقية صادرة عن الأمم المتحدة في عام 1961 سحب الجنسية في الحالات التي يؤدي فيها سحب الجنسية إلى ترك الشخص بلا هوية، وهي الرؤى التي تؤيدها القوى اليسارية، لا سيما في فرنسا، حيث يرون أن هذه الآلية لا تتماشى مع تاريخ وتقاليد ودستور فرنسا، وأنه يُعد تشكيكًا في المبادئ الأساسية للبلاد.
وينطلقون من أن هذه الخطوة قد تؤثر سلبًا على روح المواثيق التي تضمن المساواة تحت سقف الجمهورية الواحدة والعدالة، وأن هناك خطرًا أن يتم استهداف أحد مكونات المجتمع الفرنسي تحت ذريعة الحرب ضد الإرهاب، وقد لاقت هذه الحجج قبولًا لدى بعض مؤيدي اليسار، مؤكدين أن هذا القرار قد يؤثر على مبدأ المساواة والمواطنة والانتماء.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الجدل بخصوص نزع الجنسية الفرنسية عن المقاتلين الأجانب أدى في عام 2016 لاستقالة وزيرة العدل الفرنسية "كريستيان توبيرا" احتجاجًا على مشروع قانون قدمته الحكومة ينص على إسقاط الجنسية الفرنسية عن مزدوجي الجنسية الذين يثبت تورطهم في أعمال إرهابية. حيث اعتبرت "توبيرا" أن القانون المقترح يناقض مبدأ "حق الأرض"، أي حق اكتساب الجنسية بالولادة.
فيما ترى بعض الأحزاب اليسارية الهولندية أن فكرة التجريد من الجنسية ستغذي التطرف من خلال منع المقاتلين الذين قرورا التوقف عن الممارسات الإرهابية من العودة إلى هولندا.
3- حلول وسطى: يتبنى تيار ثالث محاولة للتقريب بين وجهتي النظر المتناقضتين، حيث يشدد على ضرورة إخضاع قوانين إسقاط الجنسية من الإرهابيين لعدد من القيود أهمها الالتزام بعـدم تجريـد أي مـواطن مـن جنسيته إذا لم تكن لديـه أي جنـسية أخـرى، كـذلك لا يجـوز أن يكـون فقـدان الجنـسية نافـذًا إلا بعـد حـصول الـشخص المعـنيّ بـالأمر فعـلًا علـى جنـسية أخـرى. إضـافة إلى ذلـك، ينبغـي ألا يتم التجريد من الجنـسية بطريقـة تعـسفية أو علـى أسـس تمييزيـة.
وظهرت تجليات هذه المحاولات التوفيقية في العديد من الدول الاوروبية مثل فرنسا، حيث لا ينطبق مبدأ التجريد إلا على حاملي الجنسيات المزدوجة. كما لا يمكن سحب الجنسية الفرنسية إلا من الأشخاص الذين حصلوا عليها وهم بالغون عقلاء. وفي ألمانيا اتفق وزير الداخلية المنتمي للحزب المسيحي الديمقراطي "هورست زيهوفر" ووزيرة العدل المنتمية للحزب الاشتراكي الديمقراطي "كاتارينا بارلي" على أن يتم تجريد الجهاديين من جنسيتهم الألمانية وفقًا لثلاثة شروط، هي أن يكون الجهادي حاملًا لجنسية ثانية، وأن يكون بالغًا، وألا يُطبق سحب الجنسية بأثر رجعي، بحيث يسري القانون الذي من المنتظر أن يصدر بهذا الخصوص فقط على الألمان الذين سيشاركون في عمليات إرهابية في المستقبل، وليس على الذين يقبعون في السجون بالفعل بسبب إدانتهم بمثل هذه الجرائم.
تهديد ممتد:
يطرح بعض المحللين سؤالًا مفاده: هل تساعد إجراءات التجريد من الجنسية في تحجيم الإرهاب في أوروبا؟. وفي معرض السعي للإجابة عن هذا السؤال، تبرز أطروحات تؤكد أن إجراءات نزع الجنسية عن الإرهابيين تمثل خطرًا على الأمن العالمي، حيث سيبقى هؤلاء المتطرفون طلقاء وبعيدين عن مراقبة الأمن المحلي، كما أن الآراء التي تطالب بنزع الجنسية عن المواطنين الأوروبيين الإرهابيين تعني أن يتم إرسال التهديدات لدولة أخرى، مثل حالة "شميمة بيجوم" (عروس داعش)، حيث أعلنت حكومة بنجلاديش أنها لن تسمح بدخول هذه الشابة إلى أراضيها لأنها لا تحمل الجنسية البنجلاديشية.
من ناحية أخرى، فإن هؤلاء الإرهابيين سيقعون تحت سيطرة الفاعلين من غير الدول، من مقاتلين وأمراء حروب أو جماعات بعينها تنشط في العمليات العسكرية في مواجهة الإرهابيين، وفي الغالب لا يتمتع هؤلاء الفاعلون بالصلاحيات القضائية والأمنية اللازمة لمحاكمة هؤلاء الإرهابيين وعقابهم، ويتجلى ذلك في سوريا في حالة قوات سوريا الديمقراطية، حيث تشير التقديرات إلى أنهم قاموا باعتقال ما يقدر بحوالي 1300 مقاتل أجنبي، وبطبيعة الحال لا تتمتع قوات سوريا الديمقراطية بنظام قضائي معترف به دوليًّا يسمح لها بمحاكمة هؤلاء المعتقلين، ومن ثم تدعو القوات إلى تأسيس محكمة دولية لمحاكمة مقاتلي "داعش" الأجانب.
من ناحية ثالثة، يمكن القول إن تبني الدول الغربية، ولا سيما أوروبا، موقفًا أو نهجًا جمعيًّا فيما يتعلق بمسألة تجريد الإرهابيين من جنسياتها، من شأنه زيادة مشكلات دول الصراعات التي تشهد تصاعدًا في نشاط الجماعات الإرهابية والمقاتلين الأجانب، خاصةً مع تمكن عدد مهم منهم من الهرب والاختباء وإعادة تنظيم أنفسهم، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للبلدان المضيفة لهم، ويزيد من خطر الإرهاب الذي يواجه المجتمع الدولي بأسره على المدى الطويل.