عرض: صباح عبدالصبور - باحثة متخصصة في العلوم السياسية
تكتسب الدراسات المستقبلية أهمية كبرى في الوقت الراهن، إذ بات من الضروري تسليط الضوء على ما هو أبعد من الحاضر، حتى يتوفر لدى صانع القرار مجموعة أكبر من البدائل، في ضوء مساعدتهم في التطوير والاختيار، وتحدي المعتقدات القديمة، ومعرفة فيما يركزون اهتمامهم ومواردهم، وفي توقع بعض التطورات المستقبلية أو منعها.
وفي هذا السياق، أصدر معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية (EUISS) في يناير 2019، تقريرًا بعنوان "ماذا لو؟ استكشاف الأفق: ١٢ سيناريو لعام 2021"، اعتمد على خبرة وخيال الباحثين في تصور المستقبل بناء على عدد من التطورات المستمرة والحديثة، وذلك بهدف معرفة ما يمكن تغييره اليوم لمنع أحداث متخيلة من أن تصبح حقيقة في المستقبل. وقد تم وضع مجموعة من السيناريوهات المستقبلية، بعضها يستكشف النزاعات المحتملة، وبعضها يهتم بالتطورات السياسية المدمرة، والأزمات ذات النتائج المفصلية في تطورات الدول والنظام الدولي.
وتتبع كافة السيناريوهات المستقبلية هيكلًا واحدًا، إذ تهتم بثلاث لحظات استراتيجية: اللحظة التي يحدث فيها الحدث نفسه (2021)، والسنوات التالية له (2021-2025)، والوقت الذي تحدث فيه التطورات التي أدت إليه (2019).
ومن السيناريوهات التي يطرحها التقرير مقالة بعنوان "ماذا لو قادت الشمس إلى حرب سيبرانية"، للكاتبين "باتريك باولاك بروسيلس" (المسئول التنفيذي بمعهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية)، و"ناثالي فان ريمدونك" (المحلل المساعد بالمعهد).
سيناريو تخيلي
يتصور المؤلفان أنه في 26 يونيو 2021 سيتم توقيع ميثاق عدم الاعتداء بين عدد من الدول الكبرى في ذلك الوقت. وفي أعقابه يتحطم قطاران سريعان بعد فشل نظام مراقبة حركة المرور في أحد الدول الموقعة على الميثاق. فقد أدى انقطاع التيار الكهربائي إلى صعوبة تشغيل خدمات الطوارئ، والاستجابة للمكالمات، وقطع الاتصال بالإنترنت، والخدمات الحيوية، وكان من الصعب على فرق إدارة الأزمات تنسيق الجهود. كما تم الإبلاغ عن العديد من الحوادث الأخرى، نتيجة الاعتماد على إنترنت الأشياء واعتماد التقنيات الذكية.
ويضيفان أن الاعتماد الواسع على الذكاء الاصطناعي والروبوتات ساعد في تقديم الخدمات العامة الأساسية، على سبيل المثال: الاستجابة للمكالمات الهاتفية، والتعيينات، وغيرها. ولهذا فإن اختفاء الإنترنت فجأة أدى إلى عبء كبير؛ فقد توقفت الشبكة الذكية، وتوقف المترو بدون سائق عن العمل في وسط الأنفاق، وارتفعت حوادث المرور. وبلغ عدد الضحايا الذين تم الإبلاغ عنهم في السيناريو التخيلي الذي يطرحه 654 قتيلًا، مع إصابة أكثر من 700 آخرين. كما تضرر اقتصاد الدولة، حيث أدى الاضطراب إلى خسائر اقتصادية كبيرة في سوق الأسهم.
وفي ظل توافر معلومات محدودة، خلصت مجموعة الدفاع السيبراني في الدولة التي تشهد هذا الهجوم المتخيل إلى أن ما حدث كان نتيجة هجمات الحرمان من الخدمات (DDoS) (إحدى الطرق التي يستخدمها مستهدفو شبكات الإنترنت لقطع الإنترنت عن بعض الخدمات والمواقع والتطبيقات لكي تتوقف عن العمل) على نطاق واسع، مما أدى إلى تعطيل محطات توليد الطاقة الكهربائية، وإيقاف الإنترنت.
ومع تحديد الدولة مصدر هذا الهجوم السيبراني المدمر، فإنها تشن غارة جوية على البنية التحتية للنقل والاتصالات السلكية واللا سلكية في الدولة مصدر هذا التهديد، لوقف هجومها السيبراني. ويشير الباحثان إلى أن الهجوم العسكري التخيلي الذي أُطلق عليه "السلام الأبدي Eternal Peace" أدى إلى مقتل 132 شخصًا.
السبب الرئيسي
واستكمالًا لمناقشة السيناريو التخيلي، يشير الباحثان إلى جهود منظمة الأمم المتحدة لوقف التصعيد العسكري بين الدولتين، وإصدار مجلس الأمن الدولي قرارًا يدعو إلى الحوار والوقف الفوري لأية أعمال عدائية، وبدأت الدبلوماسية الدولية جهودها لحل الأزمة. ويُضيف التقرير أن تحقيقات المنظمة الأممية بالتعاون الكامل مع الحكومة التي شهدت الهجوم السيبراني أسفرت عن عدة استنتاجات مهمة، على رأسها أن العمليات السيبرانية السابقة التي نسبتها أجهزة استخباراتها إلى الدولة التي صدرت منها التهديدات قد نفذتها بالأساس جماعة "Cyberian Tiger"، وأنها تضمر العداء لها، وقد أعربت في وقت سابق عن استيائها من التفاوض على ميثاق عدم الاعتداء الذي عارضته في السابق لأسباب سياسية.
وباستخدام تقنية "الأعلام المزيفة False Flags"، التي تسمح للمهاجم بإخفاء هويته وترك الأدلة التي تشير إلى شخص آخر، قامت الجماعة بتضليل أجهزة المخابرات لنسبة العمليات إلى الدولة التي تعارضها. ويبدو أن تلك الجماعة كانت تقوم أيضًا بفحص واختبار قوة المحولات الفرعية للمحولات الكهربائية في الأشهر التي سبقت الحادثة.
لكن في النهاية، اتضح أن السبب لم يكن الدولة التي أُشير إلى أنها مصدر الهجوم السيبراني، ولا جماعة Cyberian Tiger، فيما أطلقت عليه وسائل الإعلام "الزلزال السيبراني cyberquake"؛ بل كان سبب انقطاع التيار الكهربائي وما أعقبه من خلل في البنية التحتية هو التوهجات الشمسية. إذ أضرت هذه التيارات الجيومغناطيسية التي تطلقها الشمس بشكل متقطع بالمحولات الضخمة وشبكات الطاقة، بطريقة مشابهة لما حدث في مقاطعة كيبيك الكندية في عام 1989. ويذكر المقال أنه قبل أسبوع من الحدث قُدمت تقارير حول التوهجات الشمسية القادمة، ونُقلت إلى مركز إدارة الأزمات، لكن كان تأثير القيادة السياسية في الدول المستهدفة أكبر.
وعلى خلفية تطورات الأزمة، دعا مجلس الأمن -في ضوء الاعتراف بتحديات الأنشطة الخبيثة في الفضاء السيبراني- جميع الدول للامتناع عن استخدام الفضاء الإلكتروني لأغراض عسكرية، وأعلن أنها "منطقة خالية من السلاح". كما اعتمدت الأمم المتحدة مجموعة من تدابير بناء الثقة الملزمة، بما في ذلك آلية التشاور الإلزامي، وذلك من أجل منع أي نزاع ينشأ عن استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. كما أنشأت هيئة لتسوية النزاعات في الفضاء السيبراني.
كيف حدث؟
يرى الكاتبان أن كل المناقشات الدائرة حول الأمن السيبراني تركز على الهجمات الخبيثة من قبل الإنسان، رغم أن العديد من الأبحاث أظهرت أن غالبية الحوادث كانت بسبب الكوارث الطبيعية. فقد أظهرت الدراسات أن التيارات الجيومغناطيسية الناجمة عن التوهج الشمسي أو عن عاصفة مغناطيسية أرضية كانت من بين أسباب الصدمات العالمية المحتملة في المستقبل بسبب قدرتها على تعطيل شبكات التوصيل، مثل شبكات نقل الطاقة الكهربائية، وأنابيب النفط والغاز، وكابلات الاتصالات تحت البحر، وشبكات التلغراف والسكك الحديدية.
ويضيف المقال أن العديد من الهجمات السيبرانية خلال السنوات الماضية أدت إلى زيادة التركيز على الأنشطة السيبرانية، وتأثيرها المحتمل على الاستقرار في الفضاء السيبراني. وفي الوقت ذاته، استمرت النقاشات في الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا حول إمكانية تطبيق القانون الدولي على الفضاء الإلكتروني. وكذلك معايير سلوك الدول المسئولة، وتدابير بناء الثقة. وقد اعتُمدت مجموعة من أدوات الدبلوماسية السيبرانية في الاتحاد الأوروبي، لكن لا تزال التحديات المرتبطة بإسناد مسئولية الأنشطة السيبرانية عائقًا أمام خيارات الردع الفعال.
وختامًا، يجادل الباحثان بأن فريق الخبراء الحكوميين التابع للأمم المتحدة قد أحرز تقدمًا كبيرًا في عامي 2013 و2015، لكن لا تزال بعض القضايا -مثل استخدام التدابير المضادة- لم تُعالج بعد. كما صرّحت مجموعة قليلة من الدول -منها: الولايات المتحدة، وكندا- في عام 2018 علنًا بمواقفها بشأن تطبيق القانون الدولي على الفضاء السيبراني، مما يعني -وفقًا للمقالة- أن مخاطر سوء التقدير والصراع ما زالت عالية، طالما لم يتم إنفاذ أي نظام عالمي للتعامل مع الفضاء السيبراني والهجمات السيبرانية.
المصدر:
Patryk Pawlak and Nathalie Van Raemdonck, “What if…the sun led to a cyberwar?”, in Florence Gaub (Editor), “What If…? Scanning The Horizon: 12 Scenarios For 2021” (Paris: European Union Institute for Security Studies (EUISS), January 2019), p.22-26.