يواجه اتفاق سوتشي حول مدينة إدلب، الذي توصلت إليه روسيا وتركيا، في 17 سبتمبر 2018، تحديات عديدة بعد شهر ونصف تقريبًا من دخوله حيز التطبيق فى أكتوبر الفائت، بسبب تعرض 3 أحياء في مدينة حلب، هى شارع النيل والخالدية والشهباء الجديدة المتاخمة للمنطقة العازلة في إدلب، لهجوم بغاز الكلور أسفر عن إصابة نحو 107 مدنيين بحالات اختناق، ونسبت روسيا الهجوم لـ"هيئة تحرير الشام" الإرهابية، وسارعت إلى شن غارات جوية على إحدى النقاط في إدلب معتبرة أنها مصدر إطلاقه، على نحو يشير إلى أن مبادرات التهدئة التي يتم التوصل إليها، في بعض الأحيان، قد لا تصمد كثيرًا أمام الخلافات الكبيرة العالقة بين الأطراف المنخرطة في الصراع، وأن احتمال إعادة إنتاج مستويات أعلى من التصعيد تبقى قائمة بقوة في المستقبل القريب.
اتهامات مختلفة:
تجددت مخاوف استخدام السلاح الكيماوي في سوريا مرة أخرى، خاصة أن الاتهامات التي توجه في هذا السياق لم تعد تقتصر على النظام السوري فحسب، وإنما باتت تمتد أيضًا إلى التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها "هيئة تحرير الشام". ومن دون شك، فإنه في حالة التأكد من تورط تلك التنظيمات في شن هذا الهجوم، فإن ذلك معناه أن احتمال تكرار مثل هذه النوعية من الهجمات وارد خلال المرحلة القادمة، وهو ما أشار إليه بعض المسئولين الروس الذين حذروا من أن تنظيم "داعش" بصدد تنفيذ عملية مشابهة في شرق الفرات على المنطقة المتاخمة لتواجد قوات سورية بهدف تحميلها مسئوليتها، وأن عناصر التنظيم تلقت تدريبات في الخارج على عملية استخدام قذائف صاروخية مُعدَّلة تحمل رؤوسًا تحوي قذائف بغازات سامة.
وبالطبع، فإن الهجوم الأخير يعتبر بمثابة أول متغير يطرأ على اتفاق إدلب، ويضع الجانب التركي المشارك في الاتفاق مع الجانب الروسي فى مأزق على مستوى تطبيق الاتفاق، حيث يشكك في مدى التزام أنقرة ببنوده. وعلى الرغم من أنه لا يعد أول مشكلة يواجهها الاتفاق، حيث سبق أن انتقد وزير الخارجية السوري وليد المعلم تركيا بسبب تعمدها الإبقاء على الأسلحة الثقيلة داخل المنطقة منزوعة السلاح بخلاف الاتفاق الذي ينص على سحبها، إلا أن هذا الانتقاد لم يعرقل تفعيله، على عكس الاتهامات الخاصة باستخدام السلاح الكيماوي التي قد تؤدي إلى نشوب أزمة سوف تنعكس تداعياتها عليه.
دلالات عديدة:
سارعت روسيا، على الفور، إلى شن هجوم جوي على موقع تقول أنه مصدر إطلاق غاز الكلور على مدينة حلب، كما أعلنت عن تشكيل فريق متخصص فى الأسلحة الكيماوية لإجراء تحقيق في هذا الصدد، وفقًا للمتحدث باسم وزارة الدفاع إيجور كوناشينكوف، إلى جانب اتجاهها إلى الانخراط في محادثات مع تركيا حول الهجوم. ومع أن الأخيرة تجنبت الرد على الاتهامات الروسية، إلا أن اجتماع آستانا الأخير شهد نقاشات في هذا الشأن تتعلق تحديدًا بانتهاكات وقف إطلاق النار في إدلب، والتأكيد على ضرورة التزام أطراف الاتفاق بتثبيته دون الإشارة إلى تفاصيل فى هذا الصدد.
في حين اعتبر مسئولون في النظام السوري أن الهجوم قد يؤثر على استمرار العمل باتفاق إدلب الذي لم يؤيده النظام، حيث اتهم رئيس وفد الحكومة السورية إلى آستانا بشار الجعفري تركيا بعدم تنفيذ اتفاق المنطقة منزوعة السلاح بإدلب، مشيرًا إلى أن قصف حلب الأخير بالمواد الكيماوية كان بمساعدة خارجية .كما حرصت وسائل الإعلام القريبة من النظام على تأكيد أن الاتفاق هش وغير قابل للاستمرار، متهمة المعارضة والفصائل المسلحة بالوقوف وراء الهجوم أو دعم "هيئة تحرير الشام" في القيام به، على نحو دفع الأخيرة إلى نفى تلك الاتهامات والإشارة إلى أن النظام وإيران يتحملان مسئولية الهجوم.
وتطرح هذه المواقف المتباينة دلالات عديدة. إذ أنها تكشف أن الأطراف المختلفة المنخرطة في الصراع تسعى إلى توظيف الهجوم الأخير من أجل تعزيز مواقعها، حيث حرصت روسيا على استثماره لممارسة ضغوط على تركيا بشكل مباشر من أجل دفعها إلى تفعيل الجدول الزمني لإخراج "هيئة تحرير الشام" التي تسيطر على مساحات واسعة فى إدلب من نطاق الاتفاق، وفى حال عدم الالتزام بمقرراته، فإن ذلك سيخول موسكو، طبقًا لتصريحات مسئوليها، حق الرد داخل منطقة خفض التصعيد، ويزيد من احتمال فتح ملف طبيعة الانتشار العسكري في إدلب بحيث لا يقتصر على التواجد التركي فقط وإنما يمتد أيضًا إلى تعزيز التواجد الروسي عسكريًا باعتبار أن المرحلة السابقة أثبتت أن الاتفاق لا يفي بالغرض.
كما أن إصرار النظام على شن هجوم ضد المعارضة يمثل مؤشرًا على أنه يسعى إلى استغلال الهجوم لتأكيد تماهي المعارضة مع التنظيمات الإرهابية فى إدلب، وهى الذريعة التي روج لها باستمرار منذ بداية تصاعد الأزمة لاستهداف المعارضة وتقليص الدعم الذي تحصل عليه من الخارج.
فضلاً عن ذلك، فإن هذا الهجوم يمكن أن يفرض، وفقًا لرؤية النظام، تداعيات سلبية على العلاقات بين تركيا وروسيا ويضع حدودًا للتفاهمات السياسية والأمنية التي تتوصل إليها الدولتان في سوريا.
اختبار صعب:
وعلى ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن الاتفاق يواجه اختبارًا صعبًا قد يؤثر بشكل كبير على فرص استمراره. ومع ذلك، فإن غياب البديل إلى جانب العواقب التي قد تنتج عن انهياره ربما تدفع الأطراف المنخرطة فيه إلى اتخاذ خطوات من أجل مواصلة العمل به، حتى وإن لم يؤد ذلك إلى تراجع الضغوط التي تمارسها موسكو على أنقرة. وبالتالي، يبدو من المرجح أن تتجه تلك الأطراف نحو احتواء الموقف لكن مع تحريك بنود الاتفاق حتى لا يترك عرضة للانتهاك مستقبلاً.
وبالطبع، فإن مجمل هذه التحديات تكشف في النهاية عن أن الوصول إلى تسوية للأزمة السورية وتقليص حدة الصراع المسلح يبدو احتمالاً صعبًا في المرحلة القادمة، في ظل اتساع مساحة الخلافات بين الأطراف المنخرطة فيه وتزايد العقبات التي تحول دون تفعيل مبادرات التهدئة واتخاذ خطوات إجرائية على الأرض يمكن أن تساعد في الوصول إلى مثل تلك التسوية.