يكشف مشروع الموازنة العامة السورية لعام 2019 عن التردي في الأوضاع الاقتصادية على إثر الحرب الأهلية التي قوضت دعائم الاقتصاد السوري، إذ لم يتم تخصيص سوى موارد مالية محدودة لعمليات إعادة الإعمار وتوطين اللاجئين، كما تراجعت في الموازنة الجديدة الموارد المخصصة للاستثمارات في مقابل الإنفاق الحكومي الضخم الذي هيمن على غالبية الموازنة، وهو ما يؤكد أن الاقتصاد السوري لن يتمكن من التعافي من حالة الانهيار الراهنة قبل سنوات ممتدة.
أبعاد الموازنة الجديدة:
قدمت الحكومة السورية مشروع الموازنة العامة للعام القادم 2019 إلى مجلس الشعب السوري، والتي بلغت حسب أرقام وزارة المالية السورية 3882 مليار ليرة سورية، والتي تساوي قُرابة 8.92 مليارات دولار، حسب سعر الصرف الرسمي الذي تعتمده الحكومة السورية. وعلى الرغم من أن هذه الميزانية تعتبر الأكبر في تاريخ سوريا حسب أرقام الليرة السورية، إلا أنها متواضعة بالنظر إلى قيمتها الفعلية مقارنة بميزانية السنوات السابقة، وذلك بسبب التضخم وانهيار أسعار صرف الليرة السورية، فعلى سبيل المثال كانت موازنة الحكومة السورية في عام 2010 تُقدر بحوالي 17 مليار دولار.
واستحوذت الاعتمادات الجارية على القسم الأعظم من الموازنة الحكومية للعام القادم، إذ خصصت لها الحكومة 2782 مليار ليرة سورية، أو ما يتجاوز 71% من قيمة الميزانية العامة، وحاز الإنفاق الاستثماري فقط على ما قيمته 1100 مليار دولار ليرة، أي ما يقل عن 30% من الموازنة، ويصل لحوالي 2.5 مليار دولار، حسب أرقام الصرف الرسمية. وهو أمرٌ يعني أن قطاعات الدعم الرئيسية لن تحصل على شيء يُذكر، إذ خصصت الحكومة 430 مليار ليرة فقط للمُشتقات النفطية (قُرابة مليار دولار)، وحوالي 361 مليار ليرة لدعم المواد التموينية، و50 مليار ليرة لتوفير فرص العمل وإعادة الإعمار، و20 مليار ليرة للدعم الاجتماعي.
ويشير البعض أن الأرقام الرسمية السورية تحاول الإيحاء للرأي العام بأن القطاع العام السوري يُحقق نموًّا اقتصاديًّا واضحًا، فجميع وسائل الإعلام الرسمية تشير إلى أن هناك زيادة كبيرة في ميزانية العام القادم، حيث يبلغ معدل الزيادة ما يقدر بحوالي 695 مليار ليرة في موازنة العام الجديد 2019.
لكن المُراقبين يُشيرون إلى أن ذلك قد لا يكون حقيقيًّا وذا قيمة، لأن القيمة الحقيقية للموازنة مُرتبطة بقيمة الليرة السورية وسعر صرفها، إذ كلما أصاب التضخم مُختلف القطاعات الاقتصادية السورية، فإن ذلك يزيد من حجم الموارد الاسمية للميزانية السورية، فقد أشير أيضًا في وقت طرح ميزانية عام 2018 إلى زيادة في قيمتها الاسمية بالليرة السورية عما كانت عليه في العام الذي سبقها 2017 بمقدار الربع تقريبًا، بيد أن المواطن لم يجد تأثيرًا لذلك، كما لم تحدث تنمية حقيقية في الاقتصاد السوري.
دلالات توزيع الموارد:
تكشف مراجعة أرقام الموازنة الجديدة لعام 2019 عن مجموعة من الدلالات التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:
1- تعقيدات إعادة الإعمار: على الرغم من تعهد الحكومة السورية بإعادة إعمار المناطق المدمرة، إلا أن المبالغ المخصصة لذلك في الموازنة لا تكفي لتحقيق هذا الغرض، حيث أشار "سيرجي كاتيرين" رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية في فبراير 2018 إلى "أن إعادة إعمار سوريا ستتكلف ما يتراوح بين 200 إلى 500 مليار دولار" أي ما قد يتجاوز كامل موازنة سوريا لنصف قرن إذا سارت على نفس المعدلات.
حيث تخصص الحكومة السورية في هذا العام ما يقدر بحوالي 50 مليار ليرة سورية فقط، وهو ما لا يكفي لمشاريع الاستجابة السريعة في المناطق المُدمرة التي صارت تحت سيطرة السلطة الرسمية السورية، ومنها: كامل المنطقة الجنوبية، والغوطة، وريف دمشق الحيوي بالنسبة لاقتصاد العاصمة، وبالتالي أصبحت الحكومة مسئولة عن إعادة الإعمار وتشييد شبكات الصرف الصحي والتعليم والصحة والطُرق الرئيسية في هذه المناطق. وتشير بعض التقديرات إلى أن الاستجابة السريعة تزيد عن عشرين ضعف ما خصصته الحكومة السورية لإعادة الإعمار في كافة المناطق السورية.
2- تراجع مخصصات توطين اللاجئين: لم يحظَ النازحون السوريون بمخصصات كافية في الموازنة الجديدة، فمبلغ 40 مليون دولار فقط المُخصص لبند الدعم الاجتماعي لن يحقق حتى الحد الأدنى من دعم النازحين، حيث تشير أرقام مفوضية شئون اللاجئين لدى الأمم المتحدة إلى تجاوز عدد النازحين داخل سوريا واللاجئين إلى الخارج 11 مليون شخص، وبطبيعة الحال قد فقد هؤلاء شبكة أمانهم الاقتصادية والاجتماعية والسكنية. وغدوا دون أية مساكن أو ضمان اجتماعي وصحي، ولا تتوفر في مناطق سكنهم التي هُجّروا منها أية شبكات للخدمة العامة، وهو ما قد يُشكل حاجزًا أمام إمكانية عودتهم واندماجهم من جديد في مجتمعاتهم الأصلية.
كذلك كان الحال بالنسبة لملايين السوريين في دول الجوار، فعلى سبيل المثال يعاني بعض اللاجئين من ظروف قاسية في بعض المخيمات، بيد أن الحكومة السورية لا تقدم لساكنيه أي معونة أو تشجيع على العودة.
3- تضخم "اقتصاد الظل": تشير السلطات السورية دائمًا إلى أن سوء الأحوال الاقتصادية مرتبط بما تعيشه سوريا من حرب، وأن التنمية الاقتصادية ستحدث بمجرد انتهاء الحرب، كما تؤكد أن الميزانية الجديدة أحد دلائل التقدم الاقتصادي، لا سيما بعد أن تجاوز الصراع السوري مراحله الصعبة بعد الهدنة طويلة الأمد التي أُقرت بين روسيا وتُركيا في مُحافظة إدلب، وسيطرة النِظام السوري على كامل مُحيط العاصمة دمشق والمنطقة الجنوبية. بيد أنه تظل هناك مجموعة من المشكلات الرئيسية في الاقتصاد السوري التي يصعب معها تحقيق أية تنمية اقتصادية حقيقية، مثل: احتكار قادة الميليشيات المُسلحة لعديد من القطاعات الاقتصادية، وهروبهم التام من سُلطة القانون ودفع الضرائب، أي صناعتهم لأشكالٍ من اقتصاد الظل الموازية للاقتصاد السوري الرسمي والشرعي، بالإضافة إلى تراجع حجم الاستثمارات الأجنبية في سوريا، يُضاف إلى ذلك أن السلطات السورية لا تزال عاجزة عن السيطرة على المناطق الشمالية الشرقية من البِلاد التي كانت تُعتبر خزان سوريا من الثروة النفطية وسلتها الغذائية.
وغياب أفق التنمية الاقتصادية يمس الطبقة الوسطى من السوريين بشكل أساسي، والذين يُعتبرون أكثر الطبقات ارتباطًا و"ولاء" للنظام، خصوصًا الموظفين الحكوميين منهم الذين يعملون في شبكة الخدمة الحكومية العامة البيروقراطية، حيث يُقدر المرتبطون بها بأكثر من مليون موظف، ويؤدي غياب التنمية إلى توتر علاقة هذه الطبقة مع النِظام السوري. فحسب أرقام مشروع الميزانية السورية فإنه لا توجد أية زيادة في رواتب هذه الطبقة. فعلى سبيل المثال، يتلقّى معلمو بعض المدارس السورية أقل من 100 دولار شهريًّا، في وقت تتزايد فيه معدلات التضخم باطراد، لا سيما أسعار خدمات القطاع الخاص كالاتصالات والمواد الغذائية الرئيسية.
تداعيات "اقتصاد الديون":
يُشكك بعض المحللين في الأرقام المعلنة في الموازنة، إذ يشيرون إلى أن الحكومة السورية لن تستطيع توفير الموارد التي أعلنت عنها في مشروع الموازنة، وأنها سوف تلجأ إلى سد العجز عبر الاستدانة من مدخرات البنك المركزي السوري كما حدث من قبل. ولا توجد أرقام محددة لقيمة الاقتراض من مدخرات البنك المركزي السوري حتى الآن، بيد أن رئيس الوزراء السوري "عماد خميس" أشار في تصريح له أمام مجلس الشعب السوري في سبتمبر 2017 إلى أن "الحكومة السابقة استخدمت خلال السنوات الثلاث، من 2013 وحتى 2015، ما يقارب 14 مليار دولار من الاحتياطي، وازدادت معدلات التضخم من 100% إلى 1000%"، مما يعني أن المتبقي رقم لا يستطيع أن يُغطي أي عجزٍ مُستقبلي.
وفي حال لم يقبل النظام السوري بعملية سياسية واضحة وحقيقية حسب اشتراطات الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية فإنه لن يتمكن من الحصول على مساعدات من هذه الدول، وبالتالي تغطية عجز الميزانية، لا سيما وأن الاقتصاد الإيراني يواجه مشكلات اقتصادية متعددة بسبب العقوبات الأمريكية.
وبصفة عامة، سيضطر النظام السوري لتقديم العديد من التنازلات السياسية للأطراف التي يقوم بالاقتراض منها، بما فيها روسيا وإيران، الدولتان الساعيتان للهيمنة على بنى الاقتصاد السوري، وخاصة على الأراضي الزراعية والاتصالات والصناعات الوسيطة.
وتتصاعد التخوفات من أن يقوم النظام بخصخصة المزيد من قطاعات الخدمات العامة، بُغية الحصول على المزيد من السيولة من رجال الأعمال القريبين منه، بما في ذلك قطاعات الضمان والخدمات العامة الرئيسية، كالموانئ وأملاك مؤسسة مزارع الدولة.