عرض: أحمد عبدالعليم - باحث في العلوم السياسية
مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية في روسيا (الثامن عشر من مارس الجاري)، يدور الحديث حول وجود صراع غير معلن بين بعض الأفراد داخل الأقلية النخبويّة الحاكمة والقريبة من صناعة القرار الروسي، حيث يسعى كل طرف من أطراف ذلك الصراع إلى تحقيق أكبر قدر من النفوذ والسلطة في مواجهة الطرف الآخر.
وفي هذا الإطار، يأتي مقال "نحن بحاجة للحديث عن إيجور: صعود قوي لحكم الأقليّة في روسيا"، للكاتب "هنري فوي"، وهو كاتب صحفيّ متخصِّص في الشأن الاقتصادي والسياسي الروسيّ، والمنشور في مجلة "فايننشال تايمز" في أول مارس الجاري، ويحاول فوي من خلال مقاله تسليط الضوء على أحد جوانب الصراع الخفيّ بين مراكز القوى الاقتصادية والسياسيّة في الداخل الروسيّ، بما يمثّل محاولة كاشفة بدرجةٍ ما عن ملامح مستقبل النظام السياسيّ الروسيّ على المدى القريب.
الأوليجاركية الروسيّة
يركزّ الكاتب على أن روسيا تشهد في الوقت الحالي صراعًا يدور داخل الأقليّة النخبويّة الحاكمة والتي يسعى ويناضل بعض أفرادها من أجل كسب أكبر قدر من النفوذ والتأثير في روسيا، خاصة في ظل عدم وجود أيّة معطيات واضحة حول خلافة بوتين الذي ربما يتم انتخابه لفترة رئاسية رابعة وقد تكون الأخيرة، وأن ذلك الصراع قد أنهى حالة الهدنة التي استمرت لسنوات بين أفراد تلك النخبة.
وقد تكرّس ذلك بشكل واضح في محاكمة وزير الاقتصاد الروسي السابق "أليسكي أوليوكاييف" مؤخرًا، بعد أن استمر في منصبه منذ عام 2013 حتى نوفمبر عام 2016 عندما تم القبض عليه بتهم فساد، وهي المرة الأولى التي يتم فيها محاكمة وزير وهو في منصبه منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، ويفسر البعض ما يحدث لإليسكي بأنه صراع قُوى، وتحذير للجناح الأكثر ليبرالية في الأقلية النخبويّة القريبة من دائرة الحكم، خاصة وأن ذلك الجناح الليبرالي قد سعى إلى تشجيع الرئيس على تخفيض تدخل الدولة في الاقتصاد، وتحسين العلاقات مع الغرب في مواجهة الفصيل القوميّ المحافظ الرافض لمثل تلك الأفكار.
وفي مقابل ذلك السقوط المدوّي لوزير الاقتصاد السابق، يُبرز المقال صعودًا كبيرًا خلال الآونة الأخيرة للرئيس التنفيذي لشركة روسنفت "ROSNEFT" الروسيّة للطاقة، وهو رجل الأعمال "إيجور سيتشن"، وذلك باعتباره الرجل القويّ صاحب النفوذ والسطوة الكبيرة على الموارد الوطنية للبلاد، والمُقرّب بشكل كبير من الرئيس بوتين، حتى بات يُنظر إليه على نطاق واسع في المجتمع الروسي باعتباره فوق القانون، وهناك بعض التكهنات التي تراه رئيس الوزراء المحتمل في روسيا.
ويبرز المقال أن توريط إليسكي في تهم الفساد منح إيجور شعورًا كبيرًا بالرضا، لأنه بذلك قد تخلّص من أحد خصومه البارزين، خاصة في ظل توقعات بأن يقضي قرابة عشر سنوات في السجن، مع دفع مبالغ كبيرة وصارمة كغرامات للدولة الروسيّة.
الرجل الثاني
يُنظر إلى إيجور باعتباره الرجل الثاني القويّ في النظام السياسي الروسيّ بعد الرئيس بوتين. ويربط الكاتب بين نشأته وخلفيته التعليمية وبين قوة شخصيته، فقد وُلد عام 1960 في أسرة من الطبقة العاملة في مدينة ليننجراد المعروفة الآن بمدينة سان بطرسبرج، وكان مُحبًّا للقراءة منذ صغرة وشغوفًا بالاطلاع والمعرفة حتى نال درجة الدكتوراه في الاقتصاد. كما كان بارعًا في اللغتين الفرنسية والبرتغالية، مما منحه فرصة أن يتم إرساله إلى أنجولا وموزمبيق في ثمانينيات القرن الماضي من أجل العمل كمترجم عسكريّ، وهو ما مهّد للرجل أن ينخرط بشكل كبير مع جهاز الأمن السوفيتيّ، ويحظى بشبكة علاقات واسعة وثقة كبيرة لدى الأجهزة الأمنيّة، وهو ما كان حلقة الوصل التي جمعته ببوتين حينما كان الأخير ضابطًا في جهاز الاستخبارات السوفيتية (KGB).
وكان أول عمل يجمعهما في مطلع تسعينيات القرن الماضي عندما عُيّن بوتين في عام 1994 نائبًا لرئيس بلدية سان بطرسبرج فقام باختيار إيجور كي يكون سكرتيرًا له، ومنحه دورًا في إبداء ملاحظات تفصيلية عن كل ما يتعلق بالعمل، وكذلك عن كل زائر يدخل إليه، وهو ما يعكس حجم الثقة المبكرة التي جمعتهما.
وفي السياق ذاته، يشير الكاتب إلى أنه بعد سقوط الاتحاد السوفيتيّ تشكّلت أقلية حاكمة جديدة تنبع قوتها ونفوذها بالأساس من الولاء للرئيس، وأن تلك الأقلية في الغالب يتشابه أفرادها في كونهم إما مرتبطين بالأجهزة الأمنية الروسيّة، أو أن لديهم خبرات مشتركة من العمل مع بوتين في مدينة سان بطرسبرج، ولذا فإن إيجور يعتبر الأكثر بروزًا من الحرس القديم.
جبهة موحدّة
يؤكد الكاتب أن بوتين وإيجور يمثلان جبهة واحدة منذ عام 1994، وعندما تم اختيار بوتين رئيسًا في عام 2000 أصبح إيجور نائبًا للرئيس، وعندما أصبح بوتين رئيس وزراء في عام 2008 أصبح إيجور نائبًا لرئيس الوزراء ومسيطرًا بشكل كبير على سياسة الطاقة الروسيّة، ثم شهد عام 2012 عودة بوتين رئيسًا مرة أخرى فأصبح إيجور مهيمنًا على الشركة الأكبر والأهم في الطاقة الروسيّة.
ويرى الكاتب أن إيجور رجل يتمتع بغموض كبير، وأنه قادر على مواجهة أي هجوم شخصيّ عليه، خاصة وأن هناك جدلًا كبيرًا بشأنه بين الروسيين، ومع ذلك فإنه غير خائف من أيّ صراع في ظل ما قد تعلّمه سياسيًّا من الرئيس بوتين، كونه تقلّد عددًا من المناصب السياسيّة الهامّة معه، ولذا فإنه بمثابة الأوليجاركي الأبرز خلال تلك المرحلة في روسيا. فهو يحظى بثقة كبيرة من بوتين، بل ويراه قادرًا على حل أيّة مشاكل يمكن أن تواجهه، بالإضافة إلى كونه إداريًّا ناجحًا في ظل قدرته على قيادة قطاع الطاقة الروسيّة لتحقيق نجاحات عالميّة، حتى إن شركة روسنفت أصبحت تستأثر وحدها بحوالي (6%) من إجمالي إنتاج العالم من النفط الخام، وتبلغ قيمتها حوالي 65 مليار دولار أمريكيّ، وقد قامت بضخ مبلغ يُقدر بنحو 53 مليار روبل روسي لخزينة الدولة الروسيّة في عام 2016.
وكذلك فقد نجحت الشركة بقيادة إيجور خلال الفترة الأخيرة في الوصول إلى أسواق جديدة، مع محاولة تعزيز توسُّعها العالمي، حيث أبرمت اتفاقيات هامة مع بعض دول الشرق الأوسط مثل مصر، بالإضافة إلى أنها أصبحت أول شركة نفط كبرى تُبرم اتفاقًا مع كردستان العراق من أجل شراء النفط الخام.
من جانب آخر، فإن قطاع النفط بشكل عام وشركة روسنفت بشكلٍ خاص يمكن القول إنهما تمثلان أحد مقومات نفوذ وقوة إيجور، خاصة وأن الشركة تملك هيكلًا بيروقراطيًّا عملاقًا يتضمن أكثر من ربع مليون موظف ينشر بينهم إيجور فلسفته الخاصة المبنية على تصدير صورة ذهنية مفادها أنه الرجل القويّ الذي يجب أن يخشاه الجميع.
وفي الختام، يشير الكاتب إلى أن إيجور رجل قويّ يعرف جيدًا كيف ينتصر في معاركة الخاصة مع خصومه السياسيين، وقد نجح في أن يحتفظ لنفسه بمقعد الرجل الثاني خلف الرئيس بوتين. وبقدر ما يعكس ديناميكيات صراع النفوذ والسلطة في النظام السياسي الروسي، يعكس -في سياقٍ متصل- وجود أقليّة قادرة على أن تحتفظ لنفسها بأكبر قدر من النفوذ والسلطة فيما بينها، كما أنها قادرة على تحييد أي معارضة قائمة أو محتملة يمكن أن تشكل تهديدًا لها. إلا أن هناك تساؤلًا هامًّا مرتبطًا بإمكانية تصعيد إيجور ليكون الرجل الأول بعد بوتين، خاصة إذا ما دعت الضرورة إلى ظهور شخص جديد على رأس السلطة في روسيا.
*المصدر:
Henry Foy, "We need to talk about Igor: the rise of Russia's most powerful oligarch", Financial Times Magazine, March 1, 2018.